وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: البابا فرانسيس..فعل ما يجب أن نفعله نحن

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

لا شك أن زيارة البابا فرانسيس إلى العراق كانت بمثابة شحنة روحية وأخلاقية وإنسانية قوية، لبلد مثقل بالانقسامات والصراعات ومنهك بالدمار والضحايا. هي رسالة أضاءت على الرصيد الذي يحمله العراق ويتوحد به. وهو أنه مهد الأديان السماوية، ومنبع عقيدة التوحيد، وأرض الإبراهيمية الجامعة لكل أديان المنطقة ومذاهبها، وقيمة مركزية مؤسسة للهوية العراقية نفسها، لما تحمله من كليات أخلاقية وتيار اختبارات إنسانية ورهانات وجودية.

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: بايدن.. ليس «الرئيس القوي»!

هو رصيد جاء البابا ليثير دلالاته ويحيي مغزاه ومعناه بطريقة أخاذة، ولم يلتفت إليه العراقيون رغم أنه كان دائماً بينهم وأمامهم، بل أهملوه وانشغلوا عنه لصالح هويات متضخمة، وأيديولوجيات مهترئة، وفساد منتشر، وولاءات مشخصنة، وانتماءات مستوردة، وفقدان بوصلة الوعي بالدولة، والتداخل الملتبس والمربك بين المجال الديني والمجال السياسي.

لم تخلُ زيارة البابا من أغراض رعوية، لدعم الوجود المسيحي في العراق، عبر انتزاعه مواقف وتطمينات حول سلامتهم وضمان حقوقهم المدنية والسياسية، لكن الخطاب البابوي لم يظهر أي استثناء مسيحي أو تمايز ديني، بل دعا الجميع إلى مشاركته الحج الإبراهيمي، والعودة إلى الأصل الموحِّد الذي هو ينبوع الإيمان “أرض أبينا إبراهيم”، معلناً أن ذروة التجديف هو أن تدنس ” اسمه (الله) القدوس بكراهية إخوتنا (البشر)” وأن النفس المتدينة لا يمكن أن يصدر عنها عداء وتطرف وعنف، فهذه كلّها علامات “خيانة للدين”.

عبَّر البابا فرانسيس، لا عن مسيحيي الشرق فحسب، بل عما أراد أكثر مسلمي العراق والعالم العربي أن يقولوه

جاءت الكنيسة الكاثوليكية بعد أن حررها المجمع الفاتيكاني الثاني من عقدة “لا خلاص خارج الكنيسة” أي حصرية الخلاص داخل الكنيسة، فصار بإمكانها رؤية إشعاعات الحضور الإلهي في كل ثقافة ودين، وأن تُبصِر الخلاصَ فعل اختبار باطني قبل أن يكون إظهاراً علنياً، وسلوك تخلٍ طوعي لا ادعاء امتلاك وحيازة واصطفاء. هو تحرر جعل الكنيسة تفهم العلمانية، التي ألقت الحرم على معتنقيها قبل قرن ونصف، طريقاً لتأكيد صفاء الدين وتساميه لا لعزله وإقصائه، ومدخلاً لتصويب وجهة الدين وأعادة تموضعه داخل الحياة العامة، ودافعاً لاستكشاف مجالات معنى خصبة حجبها انشغالها الطويل ببمحاربة الهرطقة وملاحقة المهرطقين. ليكون الدين بذلك منبع الإرادة الخيرة والوازع الأخلاقي الكلي الذي يقف وراء السياسة، بدل أن يدعي أنه أصل شرعيتها و رأس سيادتها ومصدراً لتسويغ الاستبداد والبوليسية السائدة في عالمنا العربي.

عبَّر البابا فرانسيس، لا عن مسيحيي الشرق فحسب، بل عما أراد أكثر مسلمي العراق والعالم العربي أن يقولوه، ترجم أمنياتهم بأن تتبنى مؤسساتهم ورموزهم الدينية مسلكه وقوله وخطابه، بدل تمترسها خلف مظاهر المقامات الهزيلة، ومعركة الأحقية، وصراع التأويلات، وتزاحم سرديات التاريخ، والخطاب التعبوي والتحشيدي، وادعاءات التفويض والنيابة.

برهن البابا فرانسيس أن ما فعله ليس بالأمر المستحيل هو أمر كان يفترض بالعراقيين أن يفعلوه منذ زمن بعيد

استطاع البابا فرانسيس، في الأيام الثلاثة التي قضاها في العراق، أن يكون الرمز الوطني الغيور على العراق وأهله، ومحطة التقاء وتوافق بين مكوناته وأحزابه وقواه ورموزه. برهن البابا فرانسيس أن ما فعله ليس بالأمر المستحيل أو الصعب، هو أمر كان يفترض بالعراقيين، من رموز ومؤسسات وأحزاب وقوى، أن يفعلوه منذ زمن بعيد كمدخل لإنجاز مشروع الدولة السيدة، استكمال الحوار والمصالحة بين مكوناته، وضع حد للتداخل الفوضوي بين مؤسسات الدين والحياة السياسية، ترسيخ المواطنة أرضية فعلية للانتظام العام.

حرصت جميع القوى والجهات والرموز العراقية على إظهار أعلى لياقات الضيافة برأس الكنيسة الكاثوليكية، ورفع سقف الدعوة إلى التسامح والسلم والمساواة وترسيخ المواطنة، وفي الوقت نفسه حرص الجميع على الظهور في الصف الأول للحدث مع الإحتفاظ بمشهدية المكانة والرمزية والأعراف وموازين القوى المحلية والأحجام الطائفية والسياسية المعتمدة في العراق. محدثين بذلك فصلاً عميقاً بين إعلان النوايا الحسنة ومسؤولية تغيير الواقع وصناعته، ومساكنة كارثية بين التمسك بمصالح متعارضة ومعتقدات متناقضة وولاءات متضاربة ومظاهر هيبة مصطنعة، وبين الرغبة في بناء وطن حقيقي.

السابق
بالفيديو: اطلق النار على أقربائه في المريجة!
التالي
لقاء سرّي للأسد بمسؤول إيراني ينقل له ولزوجته «الكورونا».. «البقاء للأقوى»!؟