وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: بايدن.. ليس «الرئيس القوي»!

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

كشف اقتحام أنصار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لمقر مجلس الشيوخ الامريكي في واشنطن، عن وجود تغير جوهري في مزاج الحياة السياسية الامريكية. تجلى ذلك في: التحول من التنافس في السياسة إلى صراع على السلطة، انتقال الخطاب السياسي من بناء الرأي العام داخل المجتمع الأمريكي إلى شد عصب جمهور الموالين لكل حزب، رواج الشعبوية والكيدية داخل أروقة المؤسسات الدستورية بخاصة حدث محاكمة ترامب، تحلل الإجماع الوطني على العناوين الكلية لسياسة البلد الداخلية والخارجية، والأخطر من ذلك كله انعدام ثقة شريحة كبيرة من المجتمع الأمريكي بنزاهة مؤسسات وأجهزة الدولة، بخاصة نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حيث استقر لدى هؤلاء بأن النتائج الفعلية للتصويت قد تم تحريفها، وبالتالي تم سرقة أصواتهم.

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: قتل لقمان جريمة قتل جماعي

هذا يعني أن فوز بايدن جاء في سياق توتر داخلي حاد، ومناخ انقسام غير مسبوق لا يقتصر على السياسات فحسب بل يصل في بعض عناوينه إلى حقيقة تعريف الهوية الأمريكية نفسها. هو فوز يقف على أرض داخلية مرتجة، تجعله هشاً وضعيفاً وعاجزاً عن السير باستراتيجية قيادة موحدة، بحكم أن الجمهوريين يتجهزون لمساجلته ومعارضته في أدق التفاصيل داخل مجلس الشيوخ، وبدؤوا بشن حملات عزل ضد رموز ديمقراطية مثل حاكم نيويورك شبيهة بحملة الديمقراطيين لعزل ترامب.

انعدام ثقة الحلفاء بالشريك القوي ذي المواقف المتقلبة، واستخفاف الخصوم بهيبته، بحكم التردد الأمريكي في حسم المسائل العالقة

هذا الامر انعكس على استراتيجية رئاسة بايدن الخارجية، التي لم تصاغ في سياق مسار تكاملي وتراكمي للسياسة الأمريكية، بل انطلقت من ذهنية القطيعة الكاملة مع السياسة الرئاسية السابقة وإزالة أي أثر لها بنزع الشرعية الرسمية عنها وعكس مسارها بإبطال قانونيتها واعتماد مقاربات مناقضة لها.

هي سياسة ستحدث تخبطاً وارتباكاً في أداء أجهزة الدولة الأمريكية، العسكرية والمخابراتية والدبلوماسية، نتيجة عدم استنادها إلى استراتيجية واضحة وموحدة في إدارة الملفات الدولية، واعتمادها مواقف متناقضة ومتضاربة بين عهدين رئاسيين متعاقبين زمانياً. أما الأثر الآخر فهو انعدام ثقة الحلفاء بالشريك القوي ذي المواقف المتقلبة، واستخفاف الخصوم بهيبته، بحكم التردد الأمريكي في حسم المسائل العالقة، والأثر المعطل للتجاذبات الداخلية على صورة أميركا الخارجية والتباين الحاد بين الحزبين في تفسير وترجمة مفهوم “جعل أميركا قوية من جديد”. هو استخفاف ترجمه الخصوم بلامبالاة تجاه الوعد والوعيد الأمريكي، وبرفع شروط التفاوض عالياً، وبثقة جلية أن حالة التقلب المستمر في السياسة الأمريكية ستجعل جولة مواجهتهم القادمة ضد الأمريكيين ستكون لصالحهم.

يريد بايدن نشر الديمقراطية ودعم قيمها ويجاري منتهكيها ويقيم أفضل العلاقات معها

جاء خطاب بايدن وهو يستعرض سياسة أميركا الخارجية ضائعاً بين عناوين عامة لا تتجاوز إعلان المواقف والنوايا، وجامعاً لنقائض تعكس حالة اللاحسم في معالجة الملفات وإدارة الصراعات الخارجية. فتراه يتعاطف مع المملكة السعودية في عدوان الحوثيين عليها ويعمد إلى رفع صفه الإرهاب عنهم، يريد لجم التوسع الإيراني وفي الوقت يقدم تسهيلات وسماحة بل يظهر تلهفاً لتفعيل الاتفاق النووي مع إيران رغم نعي إيران له بحجم ومستوى خروقاتها المتكررة له، يدين إرهاب النظام السوري وفي الوقت نفسه يميل إلى منحه الشرعية السياسية كمدخل لحل الأزمة السورية، يدين نشاط الأذرع الإيرانية في المنطقة العربية وفي الوقت نفسه لا يفعل شيئاً سوى أن يخلي الساحة لها، يريد نشر الديمقراطية ودعم قيمها ويجاري منتهكيها ويقيم أفضل العلاقات معها، يؤيد قيام دولة فلسطينية من دون تقديم رؤية واقعية لتحقيقها لتجنب الضغط على إسرائيل ولإرضاء الناخب الأمريكي.

إنها سياسة التحكم عن بعد، سياسة فرض الهيبة بلا خسائر، سياسة الإنكفاء والنأي بالنفس عن قضايا كانت في أزمنة سابقة من صميم اهتماماتها ومجال فعاليتها، سياسة شعبوية مرتهنة دائما للأرقام المتقلبة في صناديق الاقتراع، سياسة ما تزال تعتاش على ذهنية الحرب الباردة وبقايا مجدها البائد.

بين داخل أمريكي مضطرب، وصورة خارجية هشة، فقد الأمريكيون معنى أن يكونوا أقوياء.

السابق
إدوارد يكشف عن التجربة الفنية الأسوء مع ياسمين صبري
التالي
رجل العراق الذي يحْفر الجبلَ … بإبرة!