لبنان 1920 إلى 2020 .. مائة عام من التبعية!

بإنتهاء العام 2020 يكون لبنان قد دخل نظرياً "مئويته " الثانية في ظروف أشبه ما تكون بـ "الخروج" من النظام العالمي أو "الدخول" في نفق التحلل بسبب من الفشل البنيوي الذي أصاب الدولة اللبنانية بفعل ممارسات السلطة السياسية على مدى المئة عام الماضية التي كانت سنوات تبعية للخارج وإن كانت بنسب متفاوتة بين عهد وآخر أو حقبة وأخرى .

لقد كان إعلان قيام دولة لبنان الكبير إيذاناً بنقل التبعية أو الوصاية أو – سمها ما شئت – من الحكم العثماني إلى الحكم الفرنسي بسبب من نتائج وموازين القوى بعد الحرب العالمية الأولى . إستمر الحكم الفرنسي للبنان عبر الإنتداب وغيره من المسميات حتى العام 1943 يوم إعلان ” الإستقلال ” الذي كان في الحقيقة نقلاً للتبعية من الحكم الفرنسي إلى الحكم البريطاني بحسب موازين القوى يومها أيضاً بعد الحرب العالمية الثانية ، وتجلى ذلك بوصول الشيخ بشارة الخوري المحسوب على بريطانيا بـ ” برنيطته ” البريطانية الشهيرة التي تزاوجت يومها مع ” الطربوش ” العربي عبر الرئيس رياض الصلح فولَّد هذا التزاوج ميثاق 1943 الذي تلقى أولى ضرباته مع العدوان الثلاثي البريطاني – الفرنسي – الصهيوني على مصر في عهد جمال عبد الناصر، بحيث وقف الرئيس كميل شمعون الذي كان يعتبر إمتداداً للتبعية لبريطانيا ضد المشروع الناصري ومؤيداً لحلف بغداد الذي حاولت دول الغرب إقامته لمواجهة المد الشيوعي في الدول العربية المدعوم من الإتحاد السوفياتي يومها.

إقرأ أيضاً: 2020 تفك عقدة «إسرائيل شر مطلق».. حلو لـ« جنوبية»: تعليق المفاوضات هدية إيرانية لبايدن!

بينما وقفت المعارضة اللبنانية بقيادة صائب سلام وكمال جنبلاط وغيرهم من الزعماء المسلمين مع مصر بقيادة جمال عبد الناصر بمواجهة حلف بغداد وتداعياته ومنها رفض تمويل البنك الدولي لبناء السد العالي الذي ردت عليه مصر بتأميم قناة السويس الأمر الذي أدى للعدوان الثلاثي عليها والذي إنتهى بخروح بريطانيا ودخول الولايات المتحدة الأميركية للمنطقة لتبدأ الحقبة الأميركية وتتجلى في لبنان بالإتفاق الأميركي – المصري بعد ” ثورة ” 1958 ضد حكم الرئيس كميل شمعون ، على قائد الجيش اللبناني يومها الجنرال فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية خلفاً لشمعون الذي برغم كل ما يقال عنه وعن سياسته ، إتسم عهده ببحبوحة إقتصادية وورشة نهضوية تنموية إقتصادياً وثقافياً .

عهد فؤاد شهاب

عهد فؤاد شهاب أعطى لبنان إستقراراً سياسياً نسبياً ، وكان بداية تأسيس لدولة المؤسسات التي لم تكتمل بسبب من أسماهم يومها ” أكلة الجبنة ” ونسميهم اليوم المافيا أو العصابة ، أي الطبقة السياسية التي تعودت المحاصصة وتناتش المكاسب والمناصب بحجة التوازن الطائفي ، فكان أن رفض التمديد له في منصب الرئاسة ليُنتخب بديلا عنه الرئيس شارل حلو الذي تزامن وصوله مع إنطلاق العمل الفدائي الفلسطيني في الأول من كانون الثاني عام 1965 يوم تأسيس حركة التحرير الوطني الفلسطيني ( فتح ) وما تركه هذا الإعلان من تداعيات على الداخل اللبناني بسبب من الحماس القومي العربي والتعاطف اللبناني بشكل عام والإسلامي بشكل خاص مع القضية الفلسطينية الأمر الذي بدأ يزعزع المعادلة اللبنانية الداخلية الهشة أصلاً والتي أصابتها شظايا حرب عام 1967 أو ما سمي يومها بالنكسة بحيث تزايدت أعداد اللاجئين الفلسطينيين وبدأ السلاح الفلسطيني يطفو على السطح وبدأ يصبح أحدى نقاط الخلاف الكثيرة بين اللبنانيين المنقسمين بين يمين لبناني محافظ حاكم ، وبين يسار قومي وأممي وثوري معارض.

الرئيس فؤاد شهاب
الرئيس فؤاد شهاب

وبدأت الإشكالات إلى أن كان ” إتفاق القاهرة ” الذي تم التوصل إليه بين قائد الجيش اللبناني – الماروني المرشح لرئاسة الجمهورية – إميل البستاني يومها وبين رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات برعاية الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي كانت بلاده يومها ترفع شعار محو آثار العدوان ولا صوت يعلو على صوت المعركة وتعمل بموجب هذا الشعار عبر  خوضها ما سمي يومها حرب الإستنزاف بغية تحرير الأراضي التي أحتلت في عام 67 ،  هذا الإتفاق الذي وافق عليه مجلس النواب اللبناني دون الإطلاع على تفاصيله كما قيل يومها ، والذي سيكون بعد سنوات عدة أحد أسباب الحرب الأهلية اللبنانية خاصة بعد وفاة جمال عبد الناصر وبداية إنحسار الحقبة الناصرية ليدخل بعدها لبنان بتبعية أو وصاية أو حقبة جديدة من تاريخه وهي الحقبة الفلسطينية التي ولَّدت مع غيرها من الأحداث المتلاحقة في المنطقة في ظل الحرب الباردة بين قطبي العالم أميركا والإتحاد السوفياتي ، حرباً ” عالمية ” مصغرة على أرض لبنان وجعلت منه ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات بين الدول ومحاولة تغيير معادلات على الأرض في المنطقة عبر شطب بعض الأطراف تبعاً لمصالح كل دولة أو محور وكان للدول العربية نصيبها في هذا الصراع بين بعضها البعض بين المحور الداعي والداعم للمفاوضات مع إسرائيل بعد حرب تشرين 1973 بقيادة مصر بزعامة أنور السادات ، وبين ما كان يسمى يومها جبهة الرفض العربية التي كانت تضم سوريا والعراق ومنظمة التحرير الفلسطينية وغيرها من الأطراف ، وهي الجبهة التي لم تكن لها أصلاً نظرة موحدة لكيفية المواجهة ما زاد الطين بلة وأضيفت النزاعات بين بعض أطرافها إلى غيرها من النزاعات خاصة التدخلات الإسرائيلية التي بدأت بدعم قوى اليمين المسيحي بوجه المنظمات الفلسطينية ، وهي نزاعات وحروب دفع لبنان وشعبه إضافة إلى الشعب الفلسطيني ثمناً فادحاً لتداعياتها .

دخول العامل السوري على خط الحرب الأهلية

وهكذا دخل العامل السوري على خط الحرب الأهلية اللبنانية بعد العاملين الفلسطيني والإسرائيلي ، فكان التدخل العسكري الذي جاء بدايةً بغطاء مسيحي داخلي ، وعربي وأميركي خارجي عبر إتفاق الأسد – مورفي الذي أسفر عن ضرب القوات المشتركة المكونة من قوات منظمة التحرير الفلسطينية وقوات الحركة الوطنية اللبنانية ليدخل لبنان مرحلة جديدة عنوانها الإتفاق الأميركي – السوري الذي مر بعدة مراحل وتحولات طيلة خمسة عشر عاماً ليتجدد بعد الغزو العراقي للكويت العام 1990 والدخول السوري في التحالف الدولي الذي أقامته أميركا لطرد العراق – العدو اللدود للنظام السوري يومها – من الكويت فكان أن لُزِّم لبنان للنظام السوري بغطاء عربي أسمه إتفاق الطائف.

اتفاقية الطائف في لبنان
اتفاق الطائف

ليدخل لبنان رسمياً دائرة التبعية المباشرة للنظام السوري وهي دائرة إلتفت على عنق لبنان مدة خمس عشرة سنة أخرى شهد خلالها العالم والمنطقة تحولات كبرى من ضرب العراق وإخراجه من الكويت وبالتالي من المعادلة في المنطقة الأمر الذي أدى لإنطلاق محادثات السلام العربية – الإسرائيلية في مدريد التي أدت إلى إتفاقيات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1993 ، ومن ثم تبعتها إتفاقية وادي عربة بين الأردن وإسرائيل عام 1994 ، إلى إنهيار الإتحاد السوفياتي بعد هزيمته وإنسحابه من أفغانستان ما أطلق العنان للإسلام السياسي والجهادي للظهور والتمدد سواء في أفغانستان عبر حركة المجاهدين بدايةً ومن ثم طالبان والقاعدة ، أو في إيران التي كانت قد بدأت تلتقط أنفاسها بعد خروجها مهزومة من حربها مع العراق خاصة بعد ضرب غريمها العراق ووضعه تحت الحصار ، ما سهل لها بمعونة نظام الأسد الأب أن تثبت أقدامها في لبنان وتتمدد عبر ذراعها حزب الله وتحت مسمى المقاومة الإسلامية في لبنان .

الإسلام الشيعي الراديكالي ممثلاً بإيران

وفي الوقت الذي إتخذ فيه الإسلام السياسي السني ” الجهاد ” والعنف سبيلاً لتحقيق أهدافه ، إتخذ الإسلام الشيعي الراديكالي ممثلاً بإيران الخط البراغماتي في تعامله مع الأحداث خاصة إبان عهدي رفسنحاني ومحمد خاتمي الأمر الذي سمح لإيران بإستثمار ” الإرهاب ” السني الذي بلغ ذروته بأحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 لصالحها بإظهار نفسها ونظامها بمظهر النظام المعتدل المناهض للإرهاب عبر تعاونها بداية مع أميركا لإقتلاع حكم طالبان الذي كان يؤرقها بإعتباره النقيض المذهبي لثورتها ، وبعدها ضد نظام صدام حسين عدوها اللدود والسد المنيع ضد تمددها في المنطقة العربية.

بالإضافة لما كانت قد حققته في جنوب لبنان العام 2000 عبر ذراعها حزب الله من تحرير لأراضي الشريط الحدودي ما أكسبها نصراً ميدانيا ومعنويا كبيرا يومها كان هو الأساس الذي إنطلقت منه بعدها لإحكام السيطرة على لبنان بعد تداعيات حرب إحتلال العراق على المنطقة وعلى النظام السوري التي تمثلت بالضغوطات عليه لتنفيذ القرارات الدولية الخاصة بلبنان خاصة القرار 1559 الذي أدى إلى تفاقم الأوضاع في لبنان وإغتيال الرئيس رفيق الحريري وما خلفه هذا الإغتيال من ثورة لبنانية ضد النظام السوري وأدواته من أجهزة أمنية لبنانية أدت في النهاية لخروج الجيش السوري من لبنان لتنتهي بهذا الخروج ما يمكن أن يسمى الحقبة السورية وتبدأ مرحلة جديدة كان من المفروض أن تكون مرحلة حرية وسيادة وإستقلال حقيقيين.

الإغتيالات ومن بعدها حرب 2006 التي حقق فيها حزب الله ومن وراءه إيران نصراً سياسياً

ولكن لم ينطبق حساب الحقل اللبناني على حساب البيدر الإقليمي الذي أصبح لإيران فيه اليد الطولى ، فكانت الإغتيالات ومن بعدها حرب 2006 التي حقق فيها حزب الله ومن وراءه إيران نصراً سياسياً ومعنوياً إستغله في الداخل ضد حكومة الرئيس فؤاد السنيورة مقاطعة وحصارا حتى بلغ الإنقلاب ذروته يوم السابع من أيار من العام 2008 وهو اليوم الذي يمكن أن يؤرخ لبداية الحقبة الإيرانية في لبنان والمستمرة حتى اليوم هي التي نجحت في فرض رئيس للجمهورية تحت غطاء الإتفاق النووي الذي عقدته مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية تحت إدارة أوباما ، وسط تخبط وضياع وشَلَل عربي على كافة المستويات ناتج عن تداعيات ثورات الربيع العربي وطريقة مقاربته من قبل السلطة العربية ما أسهم في نجاح إيران بإحكام قبضتها على أربعة عواصم عربية شكلت ثلاث منها هي بيروت ودمشق وبغداد صلة وصل بينها وبين ساحل المتوسط دون أن ننسى قطاع غزة ، وجعلت من ما سمي بالهلال الشيعي شبه واقع.

اغتيال الحريري

وبات القادة الإيرانيون على مختلف مستوياتهم يتبجحون بأنهم يسيطرون على العواصم العربية الأربع – صنعاء ضمناً وهي خاصرة السعودية الرخوة – وعلى الأكثرية في برلمان لبنان كما صرح يوما قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني ، وآخر هذه التصريحات صدر بالأمس عن قائد سلاح الجو في الحرس الثوري الجنرال علي حاجي زاده بأن الصواريخ في لبنان وغزة هي بدعم من إيران وهي بالتالي تشكل خط الدفاع الأول عن إيران ، وهي التصريحات التي رد عليها مواربة لا صراحة بيان رئاسة الجمهورية في كلام عام لا يسمن ولا يغني من جوع ، وكأنه رد من أجل حفظ ماء الوجه ورفع العتب أمام اللبنانيين الذين أدخلتهم الوصاية والتبعية لإيران في نفق الحصار والإنهيار ، وأوصلتهم إلى حافة الفقر والعوز في ظل سلطة خانعة مستسلمة عاجزة وفاشلة لم يشهد لها لبنان مثيلا عبر المئة عام الماضية ليدخل معها لسوء حظه ” مئويته ” الثانية وهو منهك القوى على كافة المستويات سياسيا وإقتصاديا وإجتماعيا وحتى ثقافيا ، ما يجعل التنبؤ بالمستقبل عملية صعبة وعسيرة.

فإذا كانت المئوية الأولى على بعض حقباتها ” الجميلة ” نسبيا على قلتها ، وهي التي إبتدأت في عصر يمكن تصنيفه كعصر نهضة فكرية وعلمية وثقافية كانت محيطة بالمنطقة العربية ولبنان في قلبها ، كانت مئوية تبعية للخارج أوصلت إلى ما وصلنا إليه اليوم ، فما بالك بالمئوية الثانية التي تبدأ ولبنان تحت وصاية نظام ظلامي رجعي متخلف ، نظام طائفي مذهبي مقيت حاقد يتدثر بالدين ويتوسل الطائفية للسيطرة على المنطقة وإقامة إمبراطوريته الفارسية التي أُسقطت في يوم من الأيام بأيدٍ عربية إسلامية ؟

وما بالك ولبنان يحكم بعصابة هي إلى المافيا أقرب لا هم لها إلا تكديس الأموال المنهوبة من البلد وعلى حساب الشعب ، أين نحن اليوم من شارل دباس وإميل إده والشيخ محمد الجسر وأحمد الأسعد وغيرهم ، بل أين نحن اليوم حتى من بشارة الخوري ورياض الصلح ومجيد أرسلان وعادل عسيران وصبري حمادة وغيرهم وغيرهم ، لقد وصلنا إلى القعر على كل المستويات حتى على مستوى الشخصيات السياسية التي لم تعد على المستوى الذي تتطلبه المرحلة داخليا وخارجيا ، وهي العاجزة حتى عن تشكيل حكومة مَهَمَة موقتة لمحاولة إنتشال البلد مما هو فيه ولو بالحد الأدنى ما يستدعي فعلا تحرك لوقف هذه الطبقة السياسية عند حدها عبر تطبيق عقوبات صارمة بحقها لمنعها من مواصلة عنجهيتها وتطفلها على الحكم في لبنان تمهيدا لإقتلاعها من جذورها ، ولوضع لبنان تحت وصاية الأمم المتحدة موقتا بغية إعادة تأسيس السلطة فيه بوجوه جديدة تضع نصب أعينها إحترام الدستور وتطبيق القوانين دون تذاكٍ أو مهادنة أو مواربة تمهيدا لإعلان حياد لبنان عن الصراعات الإقليمية .

هذا هو الحل إذا كنا فعلا نريد أن ندخل المئوية الثانية بثقة لنعود بلدا طبيعيا يساهم مع غيره من بلدان العالم في التنمية الإنسانية على كافة المستويات كما كنا في فترة من فترات المئوية الأولى وإلا سنبقى في دوامة الوصاية والتبعية للخارج ندفع الأثمان الباهظة عند كل مفترق وكلما هبت رياح التغيير في المنطقة والعالم ، هذا إذا لم يتحلل لبنان كوطن ودولة ومؤسسات باتت على شفير الإندثار جراء ممارسات هذه السلطة على مدى النصف الثاني من المئوية الأولى حتى اليوم ، فهل نحلم بأن يكون لنا فعلاً ” مئوية ” ثانية أم أن المئوية الأولى كانت هي الأخيرة أيضاً ؟ سؤال برسم الأجيال الجديدة من اللبنانيين ، والجواب قطعا ليس بالأمر السهل . 

السابق
الاعتداء على إعلامية الجديد تابع: اضراب للمحامين واستنكار لوزيرة الإعلام!
التالي
«أمل» تنتفض على «حزب الله» في الحلوسية.. «قلوب مليانة»!