حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: إتفاق الطائف بين الافتراء والإفتئات

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

في لحظة تأزم سياسي متعلقة بصراع احزاب الطوائف على السلطة اللبنانية وخياراتها، شاءت الصدفة ان اكون في مكتب مدير اذاعة الكتائب ” صوت لبنان” احتسي القهوة معه، ونتبادل الحديث السياسي قبل اجراء مقابلة اذاعية معي، تذاع على الهواء، سألني عن النخب الشيعية المدنية واليسارية التي تعامل معها خلال تاريخ طويل، أخبرته أن أحد الكتاب المخضرمين من شيعة جيلنا، كتب رسالة اعتذار الى “الاقطاع السياسي الرجعي” وقد يذهب الكاتب نفسه أو من يماثله، الى كتابة اعتذار من المارونية السياسية نفسها، لم يظهر محدثي فرحة منتظرة، أجابني وأذهلني : ألم يَكُنْ من الأجدى للجبهة اللبنانية وأحزابها ان تقبل برنامج الحركة الوطنية وتنفذ الاصلاحات المدرجة فيه لبناء دولة حديثة، وهو برنامج على حد قوله، يتضمن تحديثا للدولة والحياة السياسية اللبنانية.

كان الموقف سورياليا بيننا، كلانا من نفس جيلٍ بدأ شبابه في مطلع السبعينات وانتمى بشكل أو بآخر  الى طرفي الحرب، الى معسكرين متعاديين، تقاتلا حتى تعبا، وكان هذا القتال سببا في تغيير لبنان، سلطةً وشعباً وديموغرافيا، واعادة لتوزيع الثروة الوطنية فيه، و لتشكيل الدولة وصلاحيات سلطاتها وبنود الدستور فيها.

إقرأ أيضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: خلف المتاريس والعصبيات تسقط الحصانات

لم يكن بيننا مَنْ تَراجَعَ عن مبادئه و أفكاره و منطلقاته الفكرية، كان كل منا متمسكا بقناعاته، لكن كلانا، كان ينكر تجربة الحرب واللجوء للعنف، من أجل تحقيق الأهداف والغايات، كان كلانا يستخلص من تجربته في الحرب اللبنانية، خلاصة مفادُها – أن خيارَ التسوياتِ النبيلةِ والحلولَ الوسطية، كان يُمكِن أن يكون أكثرَ فائدةٍ لشعب لبنان، وأكثر ثورية أو وطنية من العنف الاهلي، وان المبادئ النبيلة يجب ان تلتزم وسائلا، تتبنى قِيَم الاعتراف بالآخر  والحوار والشراكة الوطنية.

كان كلانا يعلم، بعد أن استخلص العبر واستنتج، أن تبني سياسات تحمّل لبنان أكبر من طاقاته، وتندرج في سياق أجندات اقليمية، وتتوهم أن باستطاعة أي طرف سياسي حزبي، التدثر بحماية جماعة طائفية او مذهبية، لينسج تحالفات مع خارجٍ يستقوي به على قوى لبنانية أخرى، هي خيارات عبثية، حتى لو وقع في غوايتها أطراف لبنانية عدة، تداورت فيما بينها، أدوار الرقص البائس، على حبائل دول الاقليم والعالم.

كان كلانا يغادر أوهام المراهقة السياسية، التي جعلت أحدَنا يعتبر أن لبنان الذي ابتدأ وجوده “وطنٌ للمسيحيين ولغيرهم” يمكن تحويله بدعم اقليمي، وبظروف انقسام عربي، الى وطن قومي مسيحي” وجعلت الآخر يعتبر ان لبنان كوطن، يمكن  ان يكون بؤرة  وقاعدة ثورية تمارس النضال للتحرير وتعمل لتغيير انظمة العرب وطبيعة سلطاتهم التقليدية.

الطائف كان تسوية وطنية نبيلة، تعكس نضوج القوى الأساسية وبلوغها سن الرشد السياسي

 على أرضية نضوج سياسي صنعته سنوات العمر والتجربة والتضحيات الجسام التي شهدها جيل بكامله، مهما تفرقت نزعاته أدرك الجميع، “أن لبنان هو وطن نهائي لجميع ابنائه” وأنه عربي الهوية والانتماء وان شرعيته كدولة التي نشأت ب “اعلان دولة لبنان الكبير” لا تقل ثباتا تاريخيا، وتبريرا قانونيا عن شرعية أية دولة عربية كانت أو أجنبية.

بهذا المعنى لم يكن اتفاق الطائف استجابة ملحة لحاجة وطنية، بوقف الحرب الأهلية ووقف آلامها فحسب، كما يحلو للبعض أن يروّجَ مُستخفا بهذا الاتفاق ومُقلِلاً من أهميته في الحياة الوطنية، فالطائف كان تسوية وطنية نبيلة، تعكس نضوج القوى الأساسية في الاجتماع السياسي اللبناني وبلوغها سن الرشد السياسي، وخروجها من المغامرة والمراهقة السياسية ونبذ العنف في الحياة العامة، واعتماد صيغ الشراكة والتوازن بديلا للتفرد والغلبة، وتبني مقاربة الاصلاح الهادئ المتدرج بديلا للانقلاب الصاخب الذي يطلب تغييرا دفعة واحدة.

بهذا المعنى فان الخروج على الطائف ليس فقط، تنصلاً من اتفاق جرى التوقيع عليه، أو نكوصا بعقد وطني أعاد صياغة الشراكة الوطنية، أو جنوحاً لتحقيق غلبةٍ تنافي أصول العيش المشترك، أو سعياً لتحصيل مكتسباتٍ صغيرة، عبر اشعال حرائق كبيرة، بل إضافة لكل ذلك، هو مراهقةٌ سياسية واستعادة لمنطق العنف الاهلي المستند الى رعاية خارجية، تستند الى ما عرف اخيرا ب “تحالف الاقليات” الذي ازدهرت طروحاته، إثر هجمات ١١ ايلول وقيام أميركا بإسقاط نظامي طالبان وصدام حسين في افغانستان والعراق.

لذلك فالالتزام باتفاق الطائف ليس قراءة لنصوصه وتطبيقا لمندرجاته واحكامه فحسب، بل هو أولا واخيرا سلوك سياسي وتعامل منهجي ومقاربات هادفة، تستند الى التزام دقيق بموجبات العيش المشترك والحوار والصراع الديموقراطي السياسي السلمي، والتسليم الطوعي بتداول السلطة والتناوب على ممارستها.

استطاعت منهجية الطائف ان تحدد  وتعالج العلاقة البنيوية بين الطائفية والتبعية الخارجية

فوثيقة الطائف، لم تكن انهاءً، أقفل باب تطوير الحياة السياسية وأوقف حراك التغيير السياسي؛ بنىً ومفاهيم وآلياتٍ، وهي بالرغم من تحولها دستورا، يرسم حدود وهيكليات السلطات الدستورية و آليات عمل مؤسساتها وقواعد حياتها، فتحت الوثيقة مسارا متدرجا يضع خارطة طريق للانتقال الهادئ، من دولة تختزلها منظومة جماعات، وتحكمها أحزاب طائفية حزبية، يشكل كل طرف لبناني منها، بإنتحال إسم طائفته، امتدادا لطرف اقليمي خارجي يتولى رعايته ودعمه، الى دولة مدنية على اسس قِيَم المواطنة الحديثة، التي تضمن العدل والمساواة والأمن، وتنظم الحقوق والواجبات للأفراد.

بهذا المعنى استطاعت منهجية الطائف ان تحدد  وتعالج العلاقة البنيوية بين الطائفية والتبعية الخارجية، وأن تكتشف العلاقة التفاعلية بين انتهاك حقوق الفرد، من جهة أولى، لصالح جماعته الطائفية التي تحولت سجنا له، بدعوى حمايته، وبين انتهاك سيادة الدولة اللبنانية واخضاعها لنفوذ خارجي، فالطائفية تختصر حقوق الفرد بحقوق الجماعة، ثم تختصر حقوق الجماعة بنفوذ الزعيم وسطوته، ثم تختصر نفوذ الزعيم لتجعله في خدمة سياسات دولة ترعاه وتُسيّرَه حيث تفقد الدولة قرارها وسيادتها.

لذلك تضمن الطائف تحديد ثلاثة أقانيم متوازنة :

  • الحيز الجيو_سياسي للدولة، باستعادة حدودها وانسحاب كل جيش اجنبي منها، بدءا بالاحتلال الاسرائيلي وانتهاءً بجيش الوصاية السورية
  • حيز انهاء الإحتراب الأهلي واستعمال العنف كأداة سياسية، وذلك بتأكيده على نزع سلاح الميليشيات كافة، وبسط سلطة الدولة بقواها الشرعية على كامل الأراضي اللبنانية، واسترداد حق الدولة الحصري باحتكار العنف عبر تطبيق القانون، واحتكارها موارد المعابر والحدود والمرافق العامة.
  • حيز الانتقال التدريجي من دولة الطوائف الى دولة المواطنة، عبر الغاء الطائفية بكل اشكالها، مع لحظ جدول زمني يبدأ، بـ

١. المرحلة الاولى ؛ الغاء طائفية الوظيفة أولا  بشكل فوري (الغاء الطائفية الادارية) واعتماد الكفاءة والامتحان سبيلا لإعادة بناء الادارة العامة، وقد تم تنفيذ هذا الالغاء منذ سنة ١٩٩٢ ( طبعا باستثناء وظائف الفئة الاولى وما يعادلها في المؤسسات العامة) وتكفي العودة الى التعيينات التي جرت في مختلف دوائر الدولة والقضاء وامتحانات مجلس الخدمة المدنية وكتاب العدل، ليتبين ان المناصفة لم تكن سارية او مرغوبة أو موضع تنفيذ أو تطبيق. 

(الجدير ذكره هنا ان المناصفة لم تكن انجازا ناله المسيحيون في الطائف، بل هي انصاف ناله المسلمون، فتعادل تمثيلهم السياسي مع المسيحيين في الطائف.)

٢. المرحلة الثانية ؛ وهي الغاء الطائفية السياسية ( أي التوزيع الطائفي في المؤسسات السياسية)عبر اعتماد نظام المجلسين :”مجلس شيوخ” بتوزيع طائفي يمنح ضمانات للجماعات و”مجلس نيابي” خارج القيد الطائفي وبقانون انتخاب يعتمد المحافظة كدائرة انتخابية ( لبنان بين٩ و١٢ دائرة).  وتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية ( المقصود الطائفية الشاملة وليست السياسية فقط) وقد كان منتظرا ان يتم هذا الامر انطلاقا من انتخابات ١٩٩٦ النيابية، لكن الوصي السوري بادل تأجيل انسحابه من لبنان، بتأجيل تشكيل هيئة الغاء الطائفية.

٣. المرحلة الثالثة؛ الغاء الطائفية بكل أشكالها او ما اعتدنا على وصفه ب”الغاء الطائفية من النفوس” اي الغاؤها في المجتمع والثقافة والفكر، ويطال هذا الالغاء الذهاب الى نظام القيم والتربية، عبر اعادة كتابة تاريخ لبنان وابتكار تنشئة وطنية مدنية واقرار قانون احوال شخصية موحد الخ… وهو عمل كان المأمول ان تديره “الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية” وتشرف عليه، جامعةً سلطاتُ الدولة اضافة لنخب المجتمع والثقافة والقضاء واكاديميين وكادرات في مجالات الاعمال والاقتصاد والتنمية.

وباختصار شديد فان الطائف في جوهره هو مسار لإعادة بناء “دولة سيدة على حدودها وداخل حدودها، تحتكر استعمال العنف لتطبيق العدالة والقانون، وتعيد تشكيل الداخل اللبناني عبر آليات سلمية اصلاحية وتراكمية للانتقال من الدولة الطوائفية الى دولة المواطنة المدنية.

حزب الله، الذي هو رأس هذه المنظومة  وادارتها، هو بطبيعته ضد اقانيم الطائف الثلاثة

وقد شكلت مبادرة نقابة المحامين  التي حملت عنوان ” استعادة الدولة عبر اعادة تكوين السلطة” جهدا مهما في اعادة صياغة جدول اعمال وطني، يبني الجسر والتواصل بين اهداف ثورة ١٧ تشرين المجيدة وقيمها، وبين الحاجة الوطنية، لاستعادة قوة دفع دينامية، لتنفيذ مالم ينفذ من اتفاق الطائف وبنوده، واعادة قراءته كنص حي ومتحرك، وكشفت الحملة الشرسة على هذه المبادرة، التي قامت بها، كل أطراف المنظومة السياسية التي قادت لبنان منذ مؤتمر الطائف ولتاريخه، مضافا اليها حذر وخوف ابدته مرجعيات دينية مختلفة ومتعددة، كشفت شراسة هذه الحملة، أن منظومة الفشل الفساد والارتهان للخارج، والتي حكمتنا خلال عقود باسم اتفاق الطائف ومندرجاته، لا تريد من منطوق الطائف الا قشوره، ولا تحرص على بند منه، الا نقطة بداية تطبيقه، وهي بداية اهلتها لاستلام زمام السلطة، كما كشفت الحملة ان حقيقة مصالح المنظومة وتوجهاتها، تتعارض جذريا مع اقانيم الطائف الثلاثة اعلاه باستعادة دولة سيدة على حدودها وداخل حدودها، تحتكر استعمال العنف لتنفيذ القانون، وتتبنى الاصلاح السلمي الهادئ لبناء دولة المواطنة والغاء الطائفية.

ويتبدى واضحا ان حزب الله، الذي هو رأس هذه المنظومة  وادارتها، هو بطبيعته ضد اقانيم الطائف الثلاثة ومضامينها كلها، وفيما تشارك حركة أمل الحزب تحفظاته ولاءاته،  يتبدى أن عداء الحركة للطائفية والمطالبة بإلغائها، تشبه نزعة طماع يريد تدمير اسوار بستانه وبستان جاره، علّه يقتطع أرضا، يضمها الى أرضه.

يجهد رئيس الجمهورية الجنرال عون لخوض معاركه ضد الدستور اللبناني بعد تعديلات الطائف

على مدى سنوات طويلة، تقاذفت أطراف المنظومة الفاسدة الحاكمة، تهما عديدة  حول اتفاق الطائف ومآلاته؛ من اعتبار الاتفاق امتيازا للطائفة السنية يعزز نفوذها، فيما وقائع الحياة تظهر ان سنوات حكم الطائف التي مرت، كانت زمنا لصعود الثنائية الحزبية الشيعية واطباقها على مقاليد السلطة والاعمال، الى اتهام الاتفاق بانه شرع المحاصصة الطائفية وسهل قيام دولة المحاسيب، وهو اتهام يعكس حقيقة الواقع الاداري القائم، ويدين ممارسات من تولوا السلطة، لكنه لا يطال مضمون النص الدستوري الذي فرض اعتماد الكفاءة والمباراة، والذي جرت المحاصصة خلافا له روحا ونصاً.

من جهة أخرى يجهد رئيس الجمهورية الجنرال عون لخوض معاركه ضد الدستور اللبناني بعد تعديلات الطائف، في كل مناسبة واستحقاق دستوري، متجاوزا صلاحيات موقعه، ومنتهكا حدود صلاحيات السلطات الاخرى في مجلس النواب ورئاسة الحكومة، كما في التدخل  في التشكيلات القضائية التي اقرت باجماع مجلس القضاء الاعلى، وهو يبغي تكريس اعراف جديدة، تجعل منه حاكما منفردا لا يخضع لأي مساءلة.

لبنان دولة تحكم خلافا للقانون والدستور، وتدار من خارج مؤسساته الدستورية، وخلافا لأصول حياته البرلمانية والديموقراطية، والمطلوب تنفيذ الدستور والقانون كل قانون، ودستور الطائف، الذي لم يطبق بعد، هو محطة نضج سياسي وحياتي، ومنهج اعتدال، هو ظرف واطار يحتاج اكتماله، الى نمط آخر من الرجال.

السابق
مستشار الحريري يردّ على «الحرس الثوري»: لن ندفع اثمانا عن النظام الايراني!
التالي
غادروا عرسال لتناول الطعام.. واختفوا!