السودان.. الطريق إلى الدولة المدنية

 الأول – تطورات الوضع في جنوب السودان بعد وصول الحلول المطروحة جميعها إلى طريق مسدود، خصوصاً باستمرار القتال وتجدده وخروج مناطق كاملة عن سيطرة الحكومة دون التوصل إلى حلول سلمية على أساس المواطنة السليمة والمتساوية. ومثلما فشلت جميع الحكومات المتعاقبة على دست الحكم منذ استقلال السودان العام 1956 في التوصل إلى حلول سلمية لمشكلة الجنوب لم تنجح الحركة الجنوبية هي الأخرى في تحقيق مطالبها بالوسائل العسكرية، وخسر السودان عموماً الكثير من موارده، فضلاً عن تعطل التنمية، بسبب عدم احترام الهويّة الخصوصية لسكان الجنوب واللجوء إلى الحلول العنفية والمسلّحة، التي زادت المشكلة تعقيداً.

 والثاني – استقطاب النظام الجديد خلال السنوات المذكورة عدداً من الفاعليات والأنشطة الموسومة بالإرهاب، لاسيّما من جانب المجتمع الدولي والقوى المتنفذة فيه، وخلال تلك الفترة استقبلت الخرطوم كل من أسامة بن لادن مؤسس تنظيم القاعدة، والذي جاء دوره لاحقاً في أفغانستان بعد مناورتها العام 1996 [2]، وكارلوس أحد أبرز الشخصيات العالمية التي لوحقت لأكثر من ربع قرن حتى ألقت السلطات القبض عليه في الخرطوم العام 1994 وتم تسليمه إلى فرنسا[3]في مساومة رخيصة لتبرئة ذمتها من العلاقات بالإرهاب الدولي.

الثالث- شحّ الحريات وارتفاع موجة القمع والاستبداد والتفرد بالسلطة لدرجة فقد النظام جميع حلفائه بمن فيهم الترابي، وفشلت جميع المحاولات التي اقترحتها للحوار مع المعارضة، خصوصاً وأن الشعور العام لدى قوى المعارضة كان يميل أن ما يسمى بالحوار والرغبة في المشاركة، ليس سوى تسويف وكسب للوقت ولعب من موقع السلطة لتفتيت مواقف معارضتها.

الرابع- الحصار المفروض على السودان ونظام العقوبات الذي بدأ يؤثر على تطورها، علماً بأنه تم فرضه ابتداء من العام 1988، بأوامر تنفيذية من الرئيس الأمريكي جورج بوش (الأب) وبتشريعات من الكونغرس، وذلك بهدف الضغط على السودان المتهم برعاية الإرهاب، خصوصاً باستضافة زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن وكارلوس المتهم بالعديد من قضايا الإرهاب الدولي، واتخذ الرئيس بيل كلينتون عقوبات مالية وتجارية في العام 1997 ومنع تصدير التكنولوجيا، كما قام بتجميد الأصول المالية، بل أكثر من ذلك قام بقصف مصنع الأدوية في الخرطوم (العاصمة) في 20 أغسطس 1998، لكن السودان تراجعت عن توجّهها هذا، فأبرمت اتفاقية تعاون لمحاربة الإرهاب بعد هجمات سبتمبر، إلّا أن العقوبات استمرت ضد أشخاص ومسؤولين اتهموا بالإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

         وقد جدّد العقوبات الرئيس أوباما وإنْ أقدم على تخفيضها، لكن المطالبة بتقديم الرئيس البشير للمحكمة الجنائية الدولية زاد المشهد تعقيداً، حيث أصدرت أمرين بين عامي 2009 و2010 بشأن موضوع دار فور (2003) وكرّرت ذلك بعد اعتقاله والمطالبة بتسليمه إليها إثر انطلاق ثورة ديسمبر 2018[4]

         يومها أخذت ترتفع مطالبات بالفيدرالية والانفصال وحق تقرير المصير، وتكوين كيانية خاصة، وهو الأمر الذي حصل لاحقاً في العام 2011 بإعلان الاستفتاء بواسطة الأمم المتحدة وتأسيس دولة جنوب السودان[5].

         وكنتُ قد سألت الرئيس البشير في الحوار المتلفز: ما السبيل الذي تفكّر الحكومة المركزية بانتهاجه بعد فشل الخيار العسكري؟ فأجاب: إذا لم يوافق الجنوبيون على الفيدرالية والعيش المشترك، فليس أمامنا سوى الانفصال. وأعدت عليه السؤال بأسلوب آخر قائلاً: هل لديكم خطة حول حق تقرير المصير ؟ أو هل هناك مشروع جنوبي مطروح لدراسته بهذا الشأن؟ فأجابني حينها: ” نحن مستعدون لكل الخيارات”، وكنت أظن إن ما قاله كان من باب الذهاب إلى أبعد نقطة لاستباق أي أسئلة أخرى حول هذا الموضوع وذلك بفارق زمني زاد على عشر سنوات، لكنه حسبما يبدو كان جاداً فيما ذهب إليه، ولكن المهم أن يبقى هو في السلطة حتى لو تم اقتطاع نصف البلاد.

         من جهة أخرى كانت قضية بيوت الأشباح واعتقال المعارضين في أماكن سرّية وتعريضهم للتعذيب، كلها أمور مطروحة للحوار مع الرئيس البشير في ذلك المساء السوداني الذي ظلّت فيه عيون السودانيين ترنو إلى شاشات التلفاز في ذلك الحوار الساخن.

         وكان فاروق أبو عيسى أمين عام اتحاد المحامين العرب وزميلنا في المنظمة العربية لحقوق الإنسان (القاهرة) وكذلك الصديقة فاطمة أحمد ابراهيم عضوة البرلمان سابقاً والقيادية الشيوعية (أرملة الشفيع أحمد الشيخ الذي أعدم في العام 1971) قد أخبراني، إن السودان يومها لم تنم بعد بث المقابلة، من محطة التلفزيون السوداني الرسمي (الخرطوم) وبالتزامن مع تلفزيون المستقلة (لندن)، ومدّدت المقابلة من ساعتين إلى ثلاث ساعات، وكان الحوار حامياً والنقاش صريحاً والسجال حيوياً بشأن القضايا المطروحة للنقاش، والتي جاء الصديق د. محمد الزين محمد على ذكرها في كتابه المهم.

          وحسناً فعل الزين محمد باختيار موضوع الطريق إلى الدولة المدنية في السودان، أولا- باعتبارها قضية إشكالية يواجهها السودان اليوم، ولاسيّما بعد انتصار ثورته،وثانيا- لأنها مسألة غير ناجزة، أي أن أمامها في الطريق عقبات وكوابح تقليدية دينية وعسكرية وآيديولوجية عديدة، بعضها من تراث الحرب الباردة وبعضها الآخر صراع على مواقع النفوذ، فضلاً عن الامتدادات الإقليمية والدولية. وثالثا- لأن الحوار والنقاش والجدل يمكنه أن يرسم خريطة طريق بكل تضاريسها ومنعرجاتها، بل ودروبها الوعرة أيضاً، والهدف هو استكشاف معالم ذلك الطريق والسعي لاختبار الأنسب فيه، ورابعاً- جلب الانتباه إلى أهمية مشروع خلاص وطني اتفاقي ضمن عقد اجتماسياسي يمثّل التوجه الجديد لدولة تحترم جميع تنويعاتها الثقافية الإثنية والدينية واللغوية والسلالية خارج دائرة التمييز أو الاستعلاء أو محاولات فرض الهيمنة لأي سبب كان وخامسا- التركيز على المواطنة المتساوية والمتكافئة الضامن الأساس للتقدم والتنمية.

         فما هي الدولة المدنية، خصوصاً حين ربطها الباحث بموضوع جنوب السودان؟ وعلى أي الأسس تقوم المواطنة باعتبارها حجر الزاوية فيها ارتباطاً مع عناصرها الأربعة الأساسية وهي: الحرية والمساواة والعدالة، لاسيّما الاجتماعية والشراكة والمشاركة في الوطن الواحد؟ وهي العناصر التي كانت غائبة في السودان، وشكّلت طموحاً سعت إليه القوى المؤمنة بالدولة المدنية والتي تبلورت رؤيتها بالتدرج والتراكم وبعد فشل التجارب الأخرى ووصولها إلى طريق مسدود، الأمر الذي دفع السودان ثمنه باهظاً من التفتت والتمزّق وهدر الموارد وتعطيل التنمية ثم ما هو الدور المنوط بالنخب الفكرية والثقافية في الوصول إلى موضوع الدولة المدنية وفق فهم مشترك؟ وفي كل الأحوال لا بدّ من التوقف بالذي نعنيه بالدولة المدنية، وكيف السبيل إلى تحقيقها؟ وأي التحديات التي تواجهها على المستويين النظري والعملي والداخلي والخارجي؟

*****

         حسب متابعاتي يمكنني القول إن مصطلح الدولة المدنية طرح في السودان كشعار ودعوة لأول مرة خلال الثمانينات حين تبنته بعض القوى السياسية، لاسيّما في المشاورات التي أجراها مجلس رأس الدولة مع الكتل البرلمانية بعد إقالة حكومة الصادق المهدي الثانية، وذلك في النقاش حول طبيعة الدستور، فهل هو دستور إسلامي أم علماني؟ وعليه يتأسس السؤال: على نحن بصدد دولة دينية أم دولة مدنية؟ وكان ذلك في العام 1988؛ وقبل هذا التاريخ لم يكن شعار الدولة المدنية قد تضمنته بشكل واضح وصريح برامج القوى والأحزاب السياسية، علماً بأن الجدل احتدم عشية فرض قوانين سبتمبر لعام 1983 التي اعتمدت تطبيق “الشريعة الإسلامية” حين نصّب الرئيس محمد جعفر النميري نفسه إماماً، وكان قد وصل إلى السلطة في مايو 1969، متحالفاً مع اليسار، لكنه اتجه إلى التشدد الديني بالتدرّج غالقاً الباب أمام أي خيارات أخرى سوى فرض الشريعة بالقوة وخارج سياق قناعات الناس، حتى أطيح به بالانتفاضة الشعبية في أبريل العام 1985.

         الجدال حول مصطلح الديني والعلماني دفع محمد ابراهيم نقد السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني السابق وخلال فترة قضاها ما بين الاختفاء والسجن، للتفكير بالخروج من هذا المأزق لاختيار مصطلح ” الدولة المدنية “، وكان قد بدأها في الفترة بين عامي 1990-1991 واستكملها في العام 1994 وما بعدها، وجاء ذلك مترافقاً مع خصوصية الوضع السوداني من جهة، ومن جهة أخرى متساوقاً مع انهيار جدار برلين في 9 نوفمبر 1989 وانحلال الكتلة الاشتراكية واختفاء الاتحاد السوفييتي في نهاية العام 1991 [6].

         ولعلّ ذلك كان أحد الأصوات السودانية التي ارتفعت مطالبة بالدولة المدنية التي زاد رصيدها في العالم بشكل عام وأخذت طريقها إلى الأدب السياسي ودراسات العلوم السياسية في العديد من البلدان العربية، خصوصاً بانتهاء عهد الحرب الباردة وبداية شكل جديد للعلاقات الدولية، وبروز دور المجتمع المدني والهوّيات الفرعية على الصعيد العالمي، وعلى الرغم من أن رياح التغيير التي شهدتها أوروبا الشرقية قد انكسرت حدتها عند شواطئ البحر المتوسط في موجتها الأولى (أواخر الثمانينات) لكن الموجة الثانية المستمرة كانت وتيرتها أقوى ودورها أكثر اتساعاً وعمقاً، وذلك لامتدادها، وهي التي عُرفت بموجة الربيع العربي التي دشنتها ثورة الياسمين في تونس وثورة النيل في مصر.

الدولة المدنية: مشكلة أم حل؟

الدولة مفهوم حديث نشأ ما قبل الثورة الصناعية وتطوّر بعد قيام الثورة الفرنسية العام 1789، ولاسيّما ما يتعلّق بموضوع الحقوق والحريات؛ وهي منجز بشري بامتياز ومؤسسة دنيوية من صنع الإنسان هدفها رعاية المصلحة العامة بحفظ أرواح وممتلكات الناس وضبط النظام والأمن العام.

وبهذا المعنى فهي تقوم على اتفاق الناس وإراداتهم، وبالتالي فهي خيارهم، الذي هو في الوقت نفسه تعبير عن حاجتهم لإطار جامع يحميهم ويرعى مصالحهم ويحفظ حقوقهم، لاسيّما في حماية السلم والأمن المجتمعيين، حيث لا يمكن تطور البشر من دونهما.

ويعتبر مفهوم ” الدولة المدنية” أكثر حداثة في علم السياسة، خصوصاً في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، حيث كثر استخدامه في العقود الأربعة الماضية، وإن ازداد النقاش والجدل حوله خلال موجة ما سمّي بـ”الربيع العربي” كما أشرنا، وأريد به توسيع دائرة الحرّيات وإعلاء شأن المواطنة والمساواة والمشاركة والعدالة، ولاسيّما العدالة الاجتماعية، ولذلك أصبحت شعارات الحرية والعدالة رديفة لشعارات الكرامة الإنسانية.

تحدّث أرسطو ومن بعده ابن سينا وابن خلدون وميكافيلي وصولاً إلى توماس هوبز وباروخ سبينوزا وجون لوك ومونتسكيو وجان جاك روسو وهيغل وماركس، عن كون الإنسان مدني بطبعه، الأمر الذي سيعني إن القواعد التي تنظّم حياته وعلاقته مع غيره ومع المجتمع، هي قواعد مدنية، وهذه ليست سوى منظومة من القوانين التي يخضع لها أفراد المجتمع، وتتطلّب وجود قضاء يفصل في المنازعات ويرسي مبادئ العدل، وتطبّق أحكامه سلطة تنفيذية يكون من مهماتها فرض القانون على من يقوم بانتهاكه أو مخالفته أو الامتناع عن تنفيذه. وهكذا تكون الدولة ضرورة لا غنى عنها للاجتماع الإنساني.

وإذا افترضنا وجود “عقد اجتماعي” تتوافق عليه إرادات الحاكمين والمحكومين، فإن الدولة ستكون بهذا المعنى: اتحاد أفراد يعيشون في مجتمع ويخضعون لطائفة من القوانين والأنظمة التي يتم تشريعها، وهذه تحتاج إلى سلطة لفرضها، مع وجود سلطة قضائية للفصل في المنازعات، وهذا بالضبط ما نعنيه بفصل السلطات، التي ينبغي أن تكون مستقلة عن بعضها ومتكاملة في الآن ذاته.

والدولة بشكل عام كمنجز تاريخي ينبغي أن تتوفر ثلاث أركان لها هي: الإقليم والشعب والسيادة (حكومة تبسط سلطانها على الجميع) وهناك من يضيف ركناً رابعاً ألا وهو الاعتراف الدولي، وتختلف الدولة عن السلطة، فالأخيرة مؤقتة، أما الدولة فهي ثابتة، وقد نشأت الدول وفقاً لنظريات مختلفة.

الدولة إذاً نشأت وفقاً للحاجة والضرورة وعلى أساس اتفاق وتوافق وتمت بإرادة بشرية، وولايتها بهذا المعنى مدنية وهي مسألة عقلية وليست دينية، وإنها من لوازم السياسة وليست من لوازم المعتقدات، ويُفترض بها حفظ حقوق الجماعة والأمة وتحقيق وحدتها واستقرارها، وهي لا تتم بناء على تكليف ديني أو وفقاً لنص إلهي، وبالتالي فإن ولاية الدولة تكون على ولاية الاجتماع البشري داخل مجتمع معين.

 ويكون من وظيفة الدولة وحدها حق احتكار السلاح لبسط سلطة القانون والإشراف على المجال العام الذي يدخل تحت ولايتها، حماية الحقوق والحريات وكل ما يؤثر في العلاقات العامة ويمتد صيانة إلى السلم والأمن المجتمعي، إضافة إلى تنظيم ومراقبة الحياة الاجتماعية والسياسية وإخضاع جميع المؤسسات للنظام القانوني ومنع التلاعب بكل ما من شأنه المساس بوحدة الوطن والأمة وتحت أي مسمّى أكان دينياً أم عشائرياً ام فئوياً أم جهوياً أو غير ذلك.

وإذا كان الغرب قد سبقنا إلى تحديد فكرة الدولة في إطار التطوّر القانوني والدستوري الذي يمتد إلى نحو أربعة قرون من الزمان، فإن الحضارة العربية – الإسلامية ساهمت هي الأخرى برافدها فيما يتعلق بالارهاصات الأولى لفكرة الدولة، ابتداء من “صحيفة المدينة” إلى فكرة “الشورى” و”الاستخلاف” و”البيعة” و”أهل الحلّ والعقد”، وذلك بهدف توسيع دائرة المشاركة، بما يستجيب لروح العصر ويتساوق مع التطور القانوني والدستوري على المستوى العالمي[7].

وبما أن الدولة المدنية هي منتج إنساني، فهي لا تخص مجتمعاً دون سواه، وإنها تتويج لما وصل إليه الفكر القانوني الإنساني، وهي مسألة تعني جميع الشعوب والبلدان، ولهذا نرى الجدل الثائر حولها بما يتلاءم مع خصوصيتها الثقافية وتاريخها وتراثها، ولعلّ مجتمعاتنا ودولنا معنية بها على نحو شديد، خصوصاً للّحاق بالركب العالمي والتطوّر الحضاري، وذلك انطلاقاً من قاعدة فقهية معروفة في الإسلام تقوم على ” تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان” فما كان صالحاً لزمان ربما لم يعد نافعاً لزمان آخر، وحسب ما يقول الإمام علي ” لا تعلّموا أولادكم عاداتكم لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم”.

واليوم حين ينطلق الجدل وينفتح النقاش لدرجة التعارض حول فكرة الدولة، ولاسيّما بين المتشدّدين من الفريقين، فلأنها ليست ترفاً فكرياً بقدر ما هي حاجة ومشروع للتغيير الديمقراطي المطلوب ولتوسيع دائرة المشاركة والحرّيات، فالاتجاه الشديد المحافظة يعتبر فكرة الدولة المدنية بدعة وخروجاً على الدين، بل واستهدافاً للإسلام وليس ذلك سوى إخفاء للفكرة العلمانية المريبة. أما الاتجاه المعاكس والمتطرّف لمثل هذا التوجه، فهو يريد فك الارتباط بالدين والتاريخ والتراث، بزعم إن التطوّر لا يمكن أن يحدث في مجتمعاتنا دون القطيعة الأبستمولوجية (المعرفية) بين الحاضر والماضي.

اقرأ أيضا: السودان تُطبّع مع «إسرائيل».. وتُعلن تصنيف «حزب الله» كمنظمة إرهابية!

 ولعلّ كلي المفهومان لا يعبّران عن حاجة مجتمعاتنا، فلا إنكار التطور الدسوري والقانوني يصل بنا إلى التضامن المجتمعي، ولا إنكار دور تراثنا وحضارتنا في رفد الحضارة الإنسانية يصل بنا إلى شاطئ الأمان ويحقق السعادة والعدالة المنتظرة لمجتمعاتنا، لأن دولنا ومجتمعاتنا لا تعيش في جزر معزولة، وبقدر ما يمكننا الاستفادة من التطوّر العالمي على هذا الصعيد، فإنه يمكن ضمّه إلى تراثنا الإيجابي بما يراعي خصوصيتنا الثقافية والدينية.

يمكن أن تنشأ دولة مدنية عصرية وحديثة، بخلفيات تراعي مرجعيتها الدينية، فليس في ذلك ما يتعارض مع الحداثة والعقلانية والديمقراطية، خصوصاً إذا التزمت بالحقوق والحرّيات وقامت على أساس حكم القانون ومبادئ المواطنة والمساواة والمشاركة والشراكة واستندت إلى قواعد العدالة، ولاسيّما الاجتماعية. وإذا كان للدين حقله، فإن من واجب الدولة حماية الحق في الدين والضمير وحق ممارسة الشعائر والطقوس بحرّية تامة ودون أي تمييز.

وبالمناسبة ليس هناك شكلاً واحداً للدولة المدنية، فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن فرنسا وألمانيا هما دولتان مدنيتان وكذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وهي دول تقوم على حكم القانون وفصل السلطات واستقلال القضاء واحترام الحقوق والحرّيات ومبادئ المواطنة وعدم خلط السياسة بالدين، لكنها تختلف من حيث نظامها السياسي، فمنها ما هو جمهوري وما هو ملكي، وآخر نظام برلماني أو نظام رئاسي، وهكذا توجد دول مدنية بخلفيات إسلامية مثلما هي تركيا وماليزيا ودولاً أخرى بخلفيات مسيحية.

         وبتقديري إن الدولة المدنية يمكنها استيعاب التراث العربي – الإسلامي الحضاري وإسهامات المبدعين المسلمين على مرّ التاريخ، سواء ما يتعلق بالحكم وفلسفته أو ما يتعلق بالاجتماع الإنساني والأدب والفن والعمران والجمال، وهذا الموقف يتجاوز التيار الإنكاري الرافض للفكرة، كما يتجاوز التيار التغريبي الذي يعتقد بالقطيعة مع التراث.

         ويواجه هذا الرأي المتطرّف رأي آخر مغرق في رجعيته وانغلاقه يستخدم الإسلام وتعاليمه السمحاء ضد الإسلام وهو ما ندعوه “الإسلاملوجيا”، كما هي التنظيمات الإرهابية التكفيرية مثل القاعدة وداعش وأخواتها، وعلى النقيض منه هناك التوجه الاستشراقي الذي يعتبر الإسلام دين يحض على العنف والإرهاب في نظرة استعلائية نطلق عليها “الإسلامفوبيا” أي “الرهاب من الإسلام” [8].

         ولعلّ هذه المواقف تحتاج إلى نقاش وحوار انطلاقاً من معايير الدولة المدنية، بهدف تأصيلها وتعضيدها أي تبيئتها وجعلها تتنفس هواءً عربياً وسودانياً وأفريقياً وحسب تطور كل بلد وحاجاته، وهو استمرار للنقاش الذي ساد لعقود من الزمان حول الأصالة والمعاصرة والتراث والحداثة والتقليد والتجديد، وكأنه استمرار لمدرسة الكوفة والبصرة حول النقل والعقل والسلفية والإصلاح في عهد النهضة، تفاعلاً مع محمد عبدة والأفغاني والكواكبي والطهطاوي والتونسي.

         إن المفهوم الحضاري يختلف عن الدعوات الإنكارية والتغريبية في آن، مثلما يختلف عن المحاولات التوفيقية الانتقائية، لأنه ينظر إلى الإسلام باعتباره يمثل حضارة كاملة ولا يمكن تجاهل تأثيره السابق والحالي والمستقبلي في الحضارة الإنسانية والفكر البشري، بما فيه قضية الدولة المدنية بإرهاصاتها الأولى ذات الطابع الجنيني، ولذلك فلا خشية من التفاعل مع الحضارات الأخرى، بدلاً من إنكارها أو الذوبان فيها، وعليه فلا غضاضة من اعتماد المعايير التي تمثل المشتركات الإنسانية للفكر الدستوري القانوني الدولي، مع مراعاة الخصوصيات وعدم القفز فوقها [9].

         وأيا كانت الآراء والدعوات بالإنكار أو بالتغريب أو غيرها، فإنها جميعها بعيدة عن مفهوم الدولة المدنية، التي تقوم على العقلانية واستيعاب التراث وإسهامات المبدعين المسلمين لتجاوز الإنكارية والإقصائية والاغترابية في آن، وهو الأمر الذي يحتاج إلى تطوير النقاش بشأن بعض قواعد الحكم في الإسلام،وصولاً إلى الديمقراطية وقواعدها العامة، مع مراعاة الخصوصيات واحترام الهوّيات.

         واليوم حين يثور الحوار لدرجة الاشتباك حول مصطلح الدولة المدنية، فإنه قد يكون مخرجاً معقولاً للصراع بين الدولة الدينية والدولة العلمانية، إذ كان هو الآخر مصدر صراع حاد واستئصالي بين المتشدّدين من الفريقين، فإن فكرة الدولة المدنية يمكن أن يكون مصدر توافق ونقطة لقاء للتيارات الوسطية: الدينية والعلمانية التي يمكن أن تلتقي عنده، باعتباره يمثل لقاء إرادات على قواعد يمكن أن تلبي طموحات جزء غير قليل من طموحات الأطراف المختلفة، خصوصاً حين يتم ربطه بحكم القانون، ولعلّ هذا ما يحتاج إليه السودان وعدد من البلدان العربية في المشرق والمغرب، خصوصاً حين يتم التوافق على ” عقد اجتماعي” جديد يلبي طموحات جميع القوى في إطار المشترك الإنساني والموحّد الجامع وليس الواحد، بدلاً من التشبث بادعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة وتعظيم الفوارق بدلاً من تقليصها.

         وبالعودة إلى الدولة الدينية، فبغض النظر عن مسمّياتها، فإن تدخل الدين بالسياسة يفقده حقله الوعظي الأخلاقي القدسي، لأن للدولة قوانينها التي تحكم بها وهي قوانين وضعية حتى وإن أخذت بنظر الاعتبار قواعد الشريعة الإسلامية الأكثر إجماعا واتفاقاً واستجابت لروح العصر، وسواء كانت دولة الخلافة (أمير المؤمنين) أو دولة الولي الفقيه (المرشد الأعلى ) أو الحق الإلهي أو دولة التصور الداعشي (أمير الجماعة) فإنها في نهاية المطاف تعني فرض نمط فوقي سيؤدي إلى الاستبداد بزعم “القدسية” على الآخر، التي غالباً ما يستغلّها الحكام سواء حكموا باسم الدين أو بدعم من رجال الدين.

         أما الدولة “العلمانيّة” فإنها ارتبطت في أذهان الكثير من الناس بمعاداة الدين وممارسة سياسة لا دينية أفضت إلى تقليص الحق في الحرية الدينية وحق العبادة وممارسة الشعائر الدينية، وهو ما ذهبت إليه الأنظمة الشيوعية السابقة التي كرّست دساتيرها عقيدة رسمية للدولة في الوقوف بوجه العقائد الدينية، الأمر الذي جعل العلمانية مفهوماً مستنكراً، بل ومريباً في عالمنا العربي والإسلامي، حتى وإن كانت العلمانية تعني شيئاً آخر.

         ولذلك وفي إطار التطور التدرّجي أخذت أوساط واسعة تتقبّل فكرة الدولة المدنية، بل إن بعض الجماعات الدينية بسبب فشل مشروعها والنظام الذي أقامته أخذت تعلن قبولها فكرة الدولة المدنية، سواءً عن قناعة أم ركوباً لموجة قوية بشّرت بها حركة التغيير في العالم العربي، أو أن مثل هذه القناعة تختلف باختلاف المواقع، فحين تكون في المعارضة يصبح الحديث عن الحريات والخصوصية واحترام التعددية أمراً مقبولاً، وحين تكون في السلطة أو بالقرب منها تتغير بوصلة الحديث، فيصبح إجماع الأمة وهويتها ومبادئ الشريعة ركناً أساسياً من أركان مشروعها.

         إن شروط العلاقة بين الدولة والمجتمع والفرد هي مدنية وليست عقائدية، وهي تقوم بالدرجة الأساسية على حفظ أرواح وممتلكات المواطنين وضبط النظام والأمن العام وإدارة الحياة المشتركة للناس وفقاً لقانون يتم تطبيقه على الجميع على نحو متساوي مثلما هي الحقوق والحريات. وعلى هذا الأساس تحترم الدولة الفضاء الخاص للفرد وحريّاته وتصدر القوانين التي تنظم الفضاء العام، وسيكون من وظيفة الدولة المدنية، حماية عقائد الأفراد والإشراف على التعليم بما فيه الديني وحماية الحق في العبادة، ومثل ذلك هو أحد مداخل الإقرار بالتعدّدية والتنوّع الذي تديره الدولة المدنية باعتباره إحدى وظائفها.

         وبالعودة لأصل المصطلح في علم السياسة، فتوصيفه وليس تسميته يعني في الغالب إيجاد تخارج وتقابل بين حقلي السياسة والدين، وبقدر تمايزهما وفصلهما عن بعضهما، فإن الوصل بينهما ليس بعيداً، وبالتوصيف فإن عدم التمييز بين المواطنين بسبب الاختلاف في الدين أو الجنس أو العرق أو العنصر أو اللغة أو الأصل الاجتماعي، هو إحدى أساسات الدولة المدنية التي يكون الحكم فيها للقانون، بمعنى خضوع الحاكم والمحكوم للمساءلة والمحاسبة، أي وحدانية السلطة السياسية، حيث يطبق القانون على جميع الأشخاص، وحسب مونتسكيو “القانون مثل الموت لا يفرق بين الناس” بمعنى لا يستثني أحداً، وتلك من خصائص حكم القانون في الدولة المدنية.

         ونرى اليوم إن غالبية الأحزاب والجماعات الإسلامية تعلن عن قبولها بفكرة الدولة المدنية، بل إن الكثير منها لا يفتأ من تكرار أن لا دولة دينية في الإسلام، بل إن بعضها يذهب أبعد من ذلك بالقول إن “صحيفة المدنية” التي نطلق عليها “دستور المدينة” والذي اعترف بالآخر وحقوقه، مهّد لإقامة دولة مدنية لاسيّما بعد وفاة الرسول. ومن جهة أخرى إن العديد من الأحزاب والجماعات اليسارية والعروبية، التقدمية والمحافظة تقرّ بالدولة المدنية منتقدة تجربة سيطرة الجيش على الحكم، ومع ذلك، فإن هناك إشكالات ومشكلات عديدة برزت، سواء في فترة مقاربتها للحكم أو عند إعداد الدساتير العربية في بلدان ما بعد الربيع العربي، وهو ما يواجه السودان اليوم على نحو شديد.

         وبغض النظر عن التعبير الديني والعلماني للدولة، فإن المسألة الأساسية هي: التوافق على إقامة دولة مدنية تحترم الأديان بالطبع ويتم فيها فصل السلطات وتداول السلطة سلمياً وبصورة ديمقراطية والقبول بالتعايش والتنوّع والتعدّدية واحترام حقوق وحريات الأفراد والمجموعات الثقافية حتى لا يتغوّل أحد على الآخر بسبب معتقده، سواء كان في السلطة أو خارجها، وتلك مسألة محورية تواجه مجتمعاتنا التي لم تصل بعد إلى صيغة عقد اجتماعي جديد لحكم القانون ووجود مؤسسات حامية وضامنة للتطوّر في إطار احترام حقوق الإنسان.

إن جوهر النقاش اليوم حول فكرة الدولة المدنية يدور بسبب المأزق التاريخي الذي وصلت إليه الدولة العربية التي تحتاج إلى إعادة قيام الدولة خارج نطاق الآيديولوجيا، سواء كانت دينية أو علمانية، بل مواكبة التطور الحديث دستورياً وقانونياً، بما يضعها على مسافة واحدة من الجميع.

*****

         المهم في الدولة المدنية أن تكون ديمقراطية، فقد كان النظام الذي أقامه الجنرال عبود علمانياً أو قريباً من ذلك، لكنه دكتاتورياً، ونظام النميري قبل تحوله إلى دولة دينية كان يسارياً، لكنه دكتاتورياً، وهكذا فالأساس في الدولة المدنية والمهم في قربها من الناس هو شكل نظام الحكم الذي ستختاره هل سيلبي طموحات الناس في المواطنة المتساوية والمتكافئة؟ وهل يؤمن حكم القانون في ظلّ الإقرار بالتعددية والقبول بالتنوّع ؟ الأمر الذي يتطلّب فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وحق المحكومين في اختيار الحكام وعزلهم بانتخابات دورية يختار فيها الشعب ممثليه.

         وقد تبنى التجمع الوطني الديمقراطي [10] في اجتماعه بلندن 26 يناير – 3 فبراير 1992 في المادة 10 من الدستور الانتقالي (المقترح) ما يأتي، تعامل الدولة معتنقي الأديان السماوية وأصحاب كريم المعتقدات الروحية دون تمييز بينهم فيما يخص حقوقهم وحرياتهم المكفولة لهم في هذا الدستور كمواطنين ولا يحق فرض أي قيود على المواطنين أو مجموعات منهم على أساس العقيدة أو الدين…”

         أما ميثاق نيروبي الذي صدر 17 ابريل (نيسان) العام 1993 فقد اعتبر ” المواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان جزءًا لا يتجزأ من القوانين السودانية ويبطل أي قانون يصدر مخالفاً لها ويعتبر غير دستوري. كما نص على عدم جواز تأسيس أي حزب على أساس ديني وتعترف الدولة بتعدد الأديان وكريم المعتقدات وتسمح بحرية الدعوة السلمية للأديان وتمنع الإكراه أو أي فعل أو إجراء يحرص على إثارة المعتقدات الدينية والكراهية العنصرية في أي مكان أو منبر أو موقع في السودان.

         وكان مؤتمر أسمرة يونيو (حزيران) 1995 قد أكد على هذه المبادئ للأخوة والتعايش السلمي والعدل، فضلاً عن المواثيق والعهود الإقليمية والدولية لحقوق الإنسان ويعتبر باطلاً وغير دستوري أي قانون أو إقرار مخالفاً لها.

         وأود هنا أن أثبت وجهة نظر الحزب الشيوعي السوداني الذي أكّد في مايو (أيار) 1999 وجهة نظره في ورقة بعنوان: قضايا استراتيجية عالجت قضية علاقة الدين بالسياسة وذلك بإقرارها: السودان متعدد الديانات والمعتقدات، حيث توجد أغلبية مسلمة وكذلك مسيحيون ومعتقدات أفريقية، من هنا شرط التسامح والاحترام في المعتقد الديني كمقدمة للمساواة في المواطنة، حيث لا تخضع المعتقدات لمعيار وعلاقة الأغلبية والأقلية[11] مع التأكيد أن الدين يشكّل مكوّناً من مكوّنات فكر ووجدان شعب السودان.

*****

         إن كتاب د. محمد الزين محمد هو جهد أكاديمي كُتب بقلب حار ورأس بارد، لمعالجة قضية الدولة المدنية ومتفرعاتها التي ما تزال مطروحة للنقاش في السودان بشكل حاد، ولاسيّما قبيل وبُعيد التجربة الانتقالية وما ستؤول إليه البلاد، وهو يقدم حلولاً ومقترحات عملية انطلاقاً من فهمه لمفهوم الدولة المدنية وكان الزين محمد كان قد وصل من منفاه في النرويج ليشارك في الانتفاضة السودانية الظافرة التي أطاحت بالرئيس البشير والذي كانت المحكمة الجنائية الدولية تطالب بتسليمه لارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تقترب من جرائم الإبادة الجماعية، في دارفور وغيرها، وخلال مشاركته كانت قد تبلورت لديه فكرة الكتاب بصيغته المطروحة، والتي كانت قد اختمرت خلال نحو عقدين من الزمان.

         وقد قسم الكتاب إلى توطئة وستة فصول، تناول فيها تاريخ الدولة السودانية بشكل عام ومشكلة الجنوب بشكل خاص، وخصص الفصل السادس للحكومة الانتقالية الحالية ما بعد الانتفاضة السودانية 2019-2020، وهو محاولة لاستبصار رؤية للأزمة العميقة التي عاشتها الدولة السودانية، خصوصاً بالحرب في الجنوب التي استمرت لنصف قرن تقريباً.

         ويقول الزين محمد أن فكرة الكتاب نشأت لديه منذ العام 1996 بعد نيله الماجستير في العلوم السياسية (جامعة الخرطوم) وكانت أطروحته عن مشكلة جنوب السودان وأسباب النزاع ومساعي السلام. ولعل أهم استنتاجاته أن مشكلة الجنوب لا يمكن حلّها دون حلّ مشكلة السودان ككل عبر دولة مدنية، وعكس ذلك فالأزمة ستتفاقم كما استنتج، وهو ما حصل فعلاً وأدى إلى انفصال الجنوب واستمرار النزاعات المسلحة في دارفور وجنوب كروفان والنيل الأزرق وشرق السودان (المقدمة ص 9).

         وبعد استعراض تجربة الدولة السودانية بصل الكتاب في خاتمة محطاته إلى الحكومة الانتقالية الرابعة برئاسة د. عبدالله حمدوك، ليستعرض تجربة الدولة المدنية (2019- 2020) علماً بأن الحكومة كما يقول تحت التجربة ولم يرغب في إصدار حكم قاس عليها وما يزال هناك عامين لتقييم الفترة الانتقالية، ولكنه يعود ليقول بأن الاخفاقات خلال العام الذي انقضى كانت أكثر بسبب الصراعات السياسية والمحاصصات الحزبية وعدم كفاءة بعض الوزراء والفشل في التوصل إلى حلول ناجعة للمشاكل الاقتصادية، إضافة إلى التدخلات الإقليمية والدولية، ناهيك عن تداخل السياسي بالعسكري بالأمني (ص 378).

         إن هدف ثورة ديسمبر الاستراتيجي كما يقول هو بناء الدولة المدنية وهو الحل التوافقي لعملية الانتقال الديمقراطي ويدعو إلى التزام المؤسسات العسكرية والأمنية والشرطية بوظائفها التقليدية المعروفة وفقاً للدستور والقانون وإبعادها عن أي نشاط حزبي أو سياسي، ولكنه يضع مشكلات الدولة المدنية في ثلاث محاور.

  • أولهاالدولة المدنية كفضاء للتعايش السلمي بين مكوّنات الشعب المتعود ثقافياً وعقائدياً وعرضياً وقبلياً.
  • وثانيها- مشكلة الدستور وصياغته وعلاقة ذلك بالدولة المدنية والتجاذب بين العلماني والديني.
  • وثالثها الدولة المدنية والجيش، إذ يبدي ارتياباً أو خشية من احتمال الانقلابات العسكرية التي ينبغي وضع حد لها وذلك انطلاقا من التجربة السودانية ذاتها.

         ولعلّ أساس الدولة المدنية الذي يركز عليه هو المساواة وعدم التمييز على أساس العرق أو اللغة أو الجنس أو اللون، لأنها دولة حكم القانون واستقلال القضاء والفصل بين السلطات، ويدعو لإجماع وطني في صياغة الدستور بإنجاز عملية السلام العادل والشامل وإطفاء بؤر النزاع ومحور آثار الحرب وتحقيق التنمية، وذلك عن طريق الحكم اللّامركزي (الفيدرالي)، مع أن هناك فرقاً بين اللّامركزية والفيدرالية، ويعتبر الحكم الاتحادي والحكم المحلي من مقومات بناء الدولة المدنية على أساس المواطنة، وذلك بالتربية على الدولة المدنية في جميع مراحل التعليم في المؤسسات المدنية والعسكرية ويدعو إلى إقامة المجلس التشريعي الانتقالي بالتوافق السياسي [12].

          ويقترح مشروع ميثاق وطني سوداني يطلق عليه مبادئ ما فوق دستورية لقيادة التوافق السياسي والمجتمعي وجميع مكونات الثورة وهو يدعو لحوار جاد ومسؤول له. وتكمن أهميته أنه نشره في 5 مايو (أيار) 2019 وهو أشبه بدستور مؤقت أو مبادئ دستورية عامة تضع إطاراً لدستور الدولة المدنية، وهي مساهمة جادة على هذا الصعيد.

         وكما يقترح مشروعاً للعدالة الانتقالية (مفوضية) (ص 386) وهذه تتطلب كشف الحقيقة والمساءلة وجبر الضرر والتعويض وإصلاح النظام القانوني والقضائي والأمني، لكي لا يتكرر ما حصل، والهدف هو تحقيق المصالحة المجتمعية، كما يدعو لمؤتمر وطني دستوري، وذلك بهدف تحديد وجهة الدولة المدنية التي يعتبرها دولة التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، وذلك أساس شرعية الحكم وإدانة الناجح، أي منجزة في نهاية المطاف.

         الكتاب بقدر ما يقدم من معلومات ومعرفة، فهو يقدّم في الوقت نفسه اجتهادات ووجهات نظر مدعومة بمعطيات أكاديمية، وأعتقد أنه سيرفد المكتبة السودانية والعربية بالجديد حول فكرة الدولة المدنية وأنواعها وسبل الوصول إليها، لذلك فهو يستحق التقدير، لاسيّما ما سيثيره من نقاش يضاف إلى النقاش الموجود عملياً في الساحات والجامعات والنقابات والاتحادات والمجتمع المدني، وفي أروقة السلطة المدنية والعسكرية، وداخل كل تيار سياسي وفكري أيضاً.

          ولعلّ طريق الحوار ونبذ العنف ومنع استخدام السلاح واعتماد الحلول السلمية وسيلة لفضّ النزاعات وحل الخلافات هو الذي ينبغي الركون إليه للمفاضلة بين برامج الأحزاب والقوى السياسية، هو ما يمكن أن يضع السودان على طريق السلام الحقيقي والتطور والتنمية المستدامة، خصوصاً بالتوافق على دستور مدني يحظى بتأييد الجميع ويحتكمون إليه، وهو ما ذهب إليه د. محمد الزين محمد.

نُشرت في جريدة “الزمان” العراقية (بغداد – لندن) يوم 20 ديسمبر (كانون الأول) 2020.

مقدّمة كتاب د. محمد الزين محمد السودان – الطريق إلى الدولة المدنية:

    حين طلب منّي الدكتور محمد الزين محمد الأكاديمي والناشط الحقوقي السوداني كتابة مقدمة لمخطوطة كتابه ” السودان – الطريق إلى الدولة المدنية” مع عنوان فرعي جنوب السودان من الحرب إلى الانفصال استعدتُ في ذاكرتي اللقاء الذي تم تنظيمه لعدد من المثقفين العرب مع الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير[1]، والذي تناول جوانب مهمة من موضوع الدولة المدنية وعلاقة الدين بالدولة والدين بالسياسة وتعتّق الحرب في جنوب السودان حتى غدت بؤرة مستديمة للصراع وغيرها من القضايا الملحّة حينها.

         وقد التأم ذلك اللقاء مع الرئيس البشير قبل عقدين من الزمان عشية الانتخابات النيابية التي قاطعتها المعارضة العام 2000، والتي فازت بها قوائم السلطة بما يسمّى بـ “الإجماع السكوتي أي الفوز بـ”التزكية” بمعنى عدم وجود منافسة أو انتخابات حقيقية، وهي حسبما أعرف غالباً ما تكون حامية الوطيس في السودان في ظل استقطابات وتقاطعات واختلافات سياسية وبرنامجية.

         عشية الألفية الثالثة كانت السودان تعيش مخاضاً جديداً يتعلّق بالجدل الدائر حول فكرة الدولة المدنية، خصوصاً بعد أن شهدت تجربة الحكم انسداداً في الآفاق وضيقاً في الهوامش، إثر قوانين سبتمبر (أيلول) 1983 المتعصبّة والمتطرّفة التي اعتمدت تطبيق “الشريعة الإسلامية” وفقاً للمفهوم المتخلّف، ولاسيّما نظام العقوبات والردة وإقامة الحد والموقف من المرأة وحقوقها وغير ذلك، لدرجة أن مفكراً ومجتهداً إسلامياً مثل محمد محمود طه تم إعدامه في 18 يناير العام 1985 بسبب تلك القوانين، وبعد نحو عشر سنوات من الانقلاب العسكري الذي قاده البشير في 30 يونيو العام 1989 بتعاون وتنظير من الشيخ حسن الترابي زعيم الجبهة الإسلامية القومية، كانت السودان تواجه ذات الإشكاليات التي واجهها النميري، بل زاد عليها تدهور الوضع الاقتصادي وشحّ الحريات وهجرة العقول والأدمغة وأصحاب الكفاءات العلمية.

         وكانت حركة الإنقاذ الوطني قد أعلنت عن هوّيتها بالتصريح أنها لا تعرف الفصل بين الدين والسياسة، فالموضوع غير قابل للنقاش، وكان لإعلان الشريعة الإسلامية الأثر الأكبر في إنشاء “التجمع الوطني الديمقراطي” (المعارض)، لاسيّما باستمرار الحرب في جنوب السودان ؛ ولم يكن مثل ذلك الجدل والنقاش بعيداً عن أربع عوامل أساسية.

السابق
هذا ما كشفه وزير الصحة عن المصاب بالسلالة الجديدة لـ«​كورونا»!
التالي
بالصور: إنفجار قوي يهزّ مدينة أميركية!