كي لا «يبخسوا» الناس مقاومتهم.. «جمول» نموذجاً!

جمول

حتى لا نساهم في تزوير التاريخ 

بعيدا عن أخبار جائحة الكورونا التي تتطور صعودا ، وعن ” كورونا ” السياسة التي ضربت محاولة تشكيل الحكومة فأدخلتها ومعها البلد برمته غرفة العناية الفائقة ، وكذلك ” كورونا ” الإقتصاد التي أصابت الليرة اللبنانية وحياة المواطن في مقتل ، و” كورونا ” الإصلاح الذي أطبق على التحقيق الجنائي وأدى لإنسحاب شركة التدقيق ” الفاريز ومارسال ” من مهمتها ، بعيدا عن هذا كله الذي بات لا علاج له بوجود هذه السلطة الفاجرة المجرمة المافيوية على طريقة فالج لا تعالج ، هناك النوع الأخطر من ” كورونا ” وهو الذي يضرب الذاكرة والتاريخ وهو بذلك يخرِّب الحاضر ويضع المتاريس أمام المستقبل . 

نقول هذا الكلام تعليقا على حدثين طَبَعا الأسبوع الماضي الجنوب الذي يمثل اليوم البوصلة والمؤشر لما تتجه إليه الأمور في البلد بما هو مركز ثقل الثنائي الشيعي ، الحاكم الفعلي للبلد خاصة في ظل مفاوضات الترسيم ، وبمدى إرتباطه بالتطورات الإقليمية التي قد تتصاعد وتيرتها في الفترة المتبقية من ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يسعى لفرض أجندته التي كان يسعى لتطبيقها في السنوات الأربع المقبلة فيما لو أعيد إنتخابه وهو الأمر الذي لم يحصل والذي وضعه في سباق مع الوقت لتحقيق ما كان يصبو إليه أو على الأقل ليضع العراقيل والمعوقات أمام الرئيس المنتخب ، وما زيارة نتنياهو للسعودية – رغم نفي وزارة الخارجية السعودية لها – وتسريع خطوات التطبيع بين إسرائيل و الدول العربية والخليجية بشكل خاص تطويقا لإيران ، وإيفاد طائرات B52 إلى المنطقة إلا دليل على ما نقول خاصة في ظل الإرتياح الذي يشعر به محور الممانعة في المنطقة بقيادة إيران التي تحاول تمرير هذه الفترة بأقل الخسائر الممكنة عبر تحركاتها في العراق لتمديد الهدنة مع الأميركيين ومنع إستفزازهم ، وكذلك في لبنان عبر غياب ذراعها حزب الله عن واجهة المساعي الرامية لتشكيل الحكومة الجديدة وظهوره بمظهر المسهل والداعم لتشكيلها ولتحقيق الإصلاحات المطلوبة . 

الحدث الأول جنوبا هو حركة إعتراضية قام بها بعض الأشخاص على إقامة لوحة تذكارية منذ حوالي الشهر لأحد شهداء جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ” جمول ” الشهيد سهيل حمورة الذي أستشهد في إحدى أشهر عمليات المقاومة الوطنية ضد الإحتلال الصهيوني ألا وهي عملية عاشوراء عام 1983 في مدينة النبطية وكان لهذه العملية يومها صدىً كبير وتأثير على معنويات الإحتلال كما على معنويات المقاومين وباتت من العمليات التي يضرب بها المثل في الشجاعة والإقدام والتضحية . 

الحدث الثاني كان كشف الحزب الشيوعي اللبناني عن تفاصيل عملية تفجير مركز تلفزيون الشرق الأوسط التابع للعملاء من جيش لبنان الجنوبي في العام  1985 وإسم الشهيد الذي قام بالعملية ، وهو حدث مهم وإن جاء الكشف عنه متأخرا بعض الشيء بما يعتبر تقصيرا بحق المقاومين وحق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ” جمول ” التي لا يعرف عنها الجيل الجديد من اللبنانيين الشيء الكثير . 

هذان الحدثان يسلطان الضوء على قضية خطيرة ومهمة بدأت منذ أوائل التسعينات مع نهاية الحرب الأهلية رسميا وبداية عهد الطائف تحت رعاية ووصاية النظام السوري ، ألا وهي قضية تزوير التاريخ أو طمسه على أقل تقدير بما يخص المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الإحتلال الصهيوني الذي بدأ بإجتياح العام 1978 وأستكمل بالغزو الإسرائيلي العام 1982 الذي وصل إلى بيروت وخلف دمارا هائلا وتغييرا في المعادلات السياسية والوطنية ، وإحتلالا للأرض إبتداءً من بيروت وصولا إلى الحدود الجنوبية مرورا بالبقاع الغربي وراشيا . 

حتى النصف الثاني من عقد الثمانينات كان العمود الفقري للمقاومة اللبنانية ضد الإحتلال الإسرائيلي يتكون من جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ” جمول ” المكونة من الأحزاب اليسارية والقومية التي كانت تشكل الحركة الوطنية اللبنانية بشكل أساسي ، ومن حركة أمل دون أن نغفل دور المقاومة الإسلامية التي كانت قد بدأت بالظهور العلني بأيديولوجيتها الدينية والسياسية والجهادية المستمدة من فكر الثورة الإسلامية في إيران ما جعلها تصطدم بداية بالأحزاب اليسارية والقومية اللبنانية على خلفية الأحداث في إيران والتصفيات التي طالت القوى اليسارية الإيرانية وعلى رأسها حزب تودة الشيوعي ، وكذلك على خلفية الحرب العراقية – الإيرانية بالنسبة للأحزاب القومية، هذا الصدام الذي خلف العشرات من الضحايا من المفكرين والكتاب والصحفيين الشيوعيين والقوميين خاصة الذين كانوا رأس حربة في الدعوة للمقاومة الوطنية ضد الإحتلال الإسرائيلي .

هذه المرحلة التي لم يكن من الممكن فصلها أيضا عن الصراع الفلسطيني – السوري بين منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات والنظام السوري بقيادة حافظ الأسد الذي غطى هذه الممارسات التي كانت تطال حلفاء منظمة التحرير ، والتي إنتهت بإضعاف وحصار المقاومة الوطنية ، فكان أن إنتقل الصدام بعدها ليتحول إلى صراع على السيطرة على الساحة الشيعية ميدانيا وسياسيا فكانت الحرب بين حزب الله وحركة أمل التي إستمرت لسنوات لتنتهي بإنكفاء حركة أمل بعد إتفاق دمشق الذي رعته كل من إيران وسوريا لتخلو ساحة الجنوب لحزب الله تحت مسمى المقاومة الإسلامية في لبنان خاصة بعد تصفية قادة حركة أمل الميدانيين داوود داوود ومحمود فقيه وحسن سبيتي ، ترافق هذا كله مع هزيمة إيران أمام العراق وإجبارها على وقف الحرب ما أوجد لها موطئ قدم في لبنان إعتبرته بديلا وتعويضا لها عن هزيمتها أمام العراق ، وترافق كذلك مع توقيع إتفاق الطائف لإنهاء الحرب في لبنان وما تلاه من أحداث داخلية وإقليمية أدت إلى تسليم لبنان للوصاية السورية الأمر الذي أفرغ إتفاق الطائف من مضمونه بفعل التحولات الإقليمية وحاجة القوى الكبرى للنظام السوري في ظل حرب الخليج الأولى ومن بعدها مسار مدريد للسلام ما أدخل المنطقة ولبنان في تعقيدات جديدة جعلت من لبنان ورقة مساومة وضغط في يد النظامين السوري والإيراني وجعلت من المقاومة حكرا على طرف سياسي  ومذهبي واحد وبدأ العمل على إبراز هذا الفريق الذي أبلى بلاءً حسنا بلا شك في المقاومة وهو أمر لا يمكن أن ينكره أحد ، ولكن بالمقابل بدأ التعتيم على بطولات وتضحيات من سبق وأعلن عن قيام جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ” جمول ” في نداء شهير أطلقه القائدان محسن إبراهيم وجورج حاوي يوم 16 أيلول من العام 1982 وكانت إسرائيل لا تزال في قلب بيروت ، وكذلك الذين كانوا يعملون في ظروف صعبة نفسيا وعملياتيا سواء منظمات وحركات أم أشخاص كانوا رأس حربة في الدعوة لتحدي ومقاومة الإحتلال ومنهم على سبيل المثل لا الحصر السيد محمد حسن الأمين وكان قاضي شرع صيدا يومها حين إعتقلته قوات الإحتلال الإسرائيلي وأبعدته إلى بيروت ، وغيره من الشخصيات الوطنية السياسية والدينية التي لم نعد نسمع عنها شيء ولا يعرف عنها جيل ما بعد الثمانينات شيء يذكر ، وما هذا إلا لتسويق فكرة أن هناك طرف واحد فقط هو حزب الله هو من حرر الجنوب وهو ما شهدناه في برامج وثائقية عدة على فضائية ” الميادين ” مثلا وأثار يومها نقاشات وجدل بين أنصار طرفي الثنائي الشيعي نفسه ، مع أن الواقع يقول بأن تحرير الجزء الأكبر من لبنان بدءا ببيروت وصولا إلى صيدا وصور والنبطية وغيرها قد تم على أيدي مقاومي جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية وحركة أمل حتى أواخر الثمانينات حين لم يتبق سوى الشريط الحدودي الذي كان لا يزال تحت الإحتلال منذ العام 1978 .

لا نقول هذا الكلام تبخيسا لحق أحد في المقاومة والتضحية ولا لتزكية فريق على آخر فالمقاومون أخوة وهم في نظرنا سواسية لا نفرق بينهم لسبب حزبي أو طائفي أو مذهبي ، ولكن نقول هذا خدمة منا للحقيقة والتاريخ وإعتراف بجميل كل من ضحى في سبيل هذا الوطن وأرضه سواءً بالإستشهاد أو الأسر أو الإعاقة أو بالرزق والصمود ولكي لا تتكرر حركة الإعتراض التي تشهدها النبطية ضد لوحة تكريمية ، مجرد لوحة تحيي ذكر من ضحى بشبابه ودمه في سبيل حرية بلده وناسه، وكي لا نشعر بأن هناك شهداء في مراتب عليا وآخرون في مراتب أقل.

فالشهادة لا رتب فيها ، والشهداء هم أكرم منا جميعا، وما نشهده اليوم من تزوير أو طمس للتاريخ هو عار على كل من يقوم به ويساهم في التعتيم على تاريخ وطني مجيد، وهنا لا نخلي مسؤولية بعض الأحزاب المقاومة التي كانت تتشكل منها جبهة المقاومة اللبنانية ” جمول ” من المساهمة في هذا التعتيم بسبب من ضعف حركتها لأرشفة هذا التاريخ ونشره للنشء الجديد كي يتعرف على أبطال وبطلات قدموا حياتهم فداء للوطن يوم عز الفداء، والذين قاتلوا باللحم الحي يوم كانوا محاصرين من الداخل والخارج لا داعم لهم ولا نصير.

لذلك نطالب كل الناشطين والمقاومين السابقين والأسرى المحررين ندعوهم لكتابة تجاربهم وتوثيقها ، وندعو أصحاب هذا التاريخ لجمعه ونشره بدل التلهي بالصراعات السياسية اليومية على الساحة اللبنانية البعيدة كل البعد عن روح المقاومة الحقيقية والتي أوصلت البلد إلى ما يعانيه اليوم بحيث أصبحنا دولة فاشلة بإمتياز نتيجة البعد عن الفكر الإصلاحي والتحرري الحقيقي الذي كان يحلم به المقاومون من كل الأحزاب والفئات والحركات كي لا يبقى وطننا ونبقى سلعة تباع وتشترى في سوق السياسة والإستراتيجيا الإقليمية بحجة المقاومة والممانعة التي هي أبعد ما تكون عن روح المقاومة الوطنية اللبنانية الحقيقية.

وما جرى في النبطية إبان الثورة من قمع وسحل وتضييق على الثوار ، وكذلك ما حصل الأسبوع الماضي ، وما قد يحصل في المستقبل ما هو إلا الدليل على ما نقول ، فالمقاومة فعل إستمرار والتحرير لا يمكن أن يكون ناجزا إلا بالتحرر من كل تسلط وقمع ، فإحتلال إرادة الناس بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى لا يختلف كثيرا عن إحتلال الأرض وجبت مقاومته بالنضال السلمي المتواصل القائم على الوعي ووضوح الرؤية والأهداف ، وبنشر الحقيقة والتاريخ الصحيح لكل طرف مهما كان ، بعيدا عن الطمس أو التزوير خدمة للوطن والأجيال والحقيقة والتاريخ.

السابق
أصالة وتركي آل الشيخ معاً.. “فرق كبير”!
التالي
قوى الأمن تكشف تفاصيل جديدة عن جريمة بشرّي: هذا ما اعترف به القاتل!