في نقد الثورة(3)

محمد علي مقلد

إن لم تكن ثورة دستورية فهي ثورة تحت سقف الدستور. إذن هي حدّدت دائرة فِعلها وتأثيرها: ممارسة الضغط على السلطة الحاكمة، الضغط السلمي فقط وبكل الوسائل، بالتظاهرات والتجمّعات والاعتصامات واحتلال الساحات والبيانات واليافطات والعرائض والاحتفالات والأغنيات، وباستخدام وسائل الإعلام ووسائل التواصل، وغير ذلك من أشكال التعبير. وقد أبدعت الثورة في استخدام هذه الوسائل، وابتكرت منها ما يفوق الوصف. من ذلك على سبيل المثل، العرض المدني الرائع بديلاً من العرض العسكري بمناسبة عيد الاستقلال، والسلسلة البشرية التي ربطت الساحل اللبناني من شماله إلى جنوبه.

الضغط السلمي فقط، وشرطه أن يكون مُجدياً، أي مؤلماً. وإن لم يُصب خصومها فسيرتدّ ضدّها. بالرغم من طابعها السلمي، هي معركة هجومية تشبه بآلياتها أي معركة عسكرية. يبدأ الهجوم بقصف، بضغط مكثّف على كل المواقع. مع تقدّم المعركة، يتركّز الضغط وتزداد الأهداف دقة ووضوحاً. في البداية ضغط عشوائي على منابع الفساد والإفساد، وما كان أكثرها. وإذا ظلّ عشوائياً أساء.

أينما حلّ ضغط البدايات أصاب. على مراكز القرار السياسي والمالي والإداري والقضائي. كيفما اتجهت تجد أثراً لاختلاس مال عام أو لانتهاك قانون. أما انتهاك الدستور فلا حاجة للبحث عنه، إنه في أروقة السلطتين التنفيذية والتشريعية، في تعطيل المؤسسات كرئاسة الجمهورية ومجلسي النواب والوزراء، في إلغاء الفصل بين السلطات وتسييس القضاء، في الجمارك والحدود المشرّعة أمام لصوص التهريب، تهريب العملة الصعبة والمواد الغذائية والمشتقات النفطية.

بعد عام، بل خلاله، استسلم بعض السلطة وخرج من المواجهة. حتى لو كان هروبهم تهرّباً أو مناورة، فقد كان على الثورة أن تكتفي بمحاصرة من ارتضى منهم طوعاً البقاء قيد المراقبة والمحاسبة أمام القضاء، وتركّز جهدها ضدّ من استمرّ في المكابرة والتعطيل وعرقلة الحلول والتغطية على المجرمين.

في البداية، كان مبرراً أي تعبير عن الغضب بسبب أزمة مستدامة طاعنة في السن. بعد عام ضاق الخناق على المذنبين. الوطن في أزمة مستدامة وهو معرّض اليوم للانهيار. قد تكون الحريرية وراء الأزمة وقد تكون الحرب الأهلية ومن شارك فيها يساراً ويميناً، أو أول انقسام لبناني بين الناصرية وحلف بغداد، غير أنّ المؤكّد بعد عام على الثورة، أنّ سبب الإنهيار هو عدم الالتزام بأحكام الدستور، وأن من تسبّب بالإنهيار هو تحالف في رأس هرم السلطة بين المافيا والميليشيا.

بعد هذا الوضوح في بنك الأهداف باتت الانتخابات المبكرة لا تشكل حلّاً إذا لم يتعدّل قانون الانتخاب، وباتت المحاسبة مستحيلة في ظلّ سلطة قضائية مستباحة، وإعادة إعمار بيروت أمراً صعب التحقيق في ظلّ إدارة فاسدة، ومعالجة الإنهيار المالي والنقدي والاقتصادي غير ممكنة إذا ما استمرّ التحالف الحاكم مُمعِناً في انتهاك الدستور والقوانين.

الثورة أنجزت، لكن الثوار لا يستندون إلى ما أنجزوه، بل يستأنفون في كلّ يوم كما لو أنّهم في أوّل يوم. باتت الثورة مُطالبة بالإستفادة من تجربتها الغنية والناجحة لتتابع معركتها الهجومية وتحدّد أهدافها بمزيد من الدقّة والتركيز، وتُعيد تنظيم نفسها بما يجمع قواها ويحفظ تنوّعها، ويعزّز الأجواء الديمقراطية بين مكوّناتها.

السابق
دريان: نحن بأمسّ الحاجة الى حكومة.. ولوضع حد للبطالة والتدهور الإقتصادي!
التالي
ملف أمير«الكبتاغون»:إتهامية بيروت تُصادق على مذكرة التوقيف في حق بدري ضاهر!