الانتفاضة فرصة «الشيوعي» لتأسيس يسار جديد ومستقل: هل يضيّعها الحزب كما ضيّع ما قبلها؟

جمول

دعا الامين العام للحزب الشيوعي اللبناني حنا غريب في ذكرى التأسيس الرابعة والتسعين منذ يومين، الى “الجمع والتكامل بين انطلاقة “جمول” في ١٦ ايلول ١٩٨٢، وإنتفاضة ١٧ تشرين ٢٠١٩، اللتين تجسدان اليوم معنى المواجهة الواحدة للقضية الواحدة”.

لا يوضح الخطاب كيف ان الحدثين هما مواجهة واحدة لقضية واحدة، وما هي هذه القضية الواحدة. فالأحزاب العقائدية لا تبذل عادة مجهودا لتوضيح مفاهيمها، فهي تبدو لها كمسلّمات. فلندقق قليلا بما قاله الصديق حنا غريب.

ماذا اولا عن إنطلاقة “جمول” ودلالاتها وما تعنيه في الزمن الحالي؟ “جمول”، او “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية”، هي المقاومة التي كان الحزب الشيوعي احد أطرافها الاساسيين والتي أطلقت العمليات العسكرية ضد الاحتلال الاسرائيلي في بيروت وتمكنت من إخراجه بالقوة بعد مدة قصيرة. “جمول” هذه، جرى لجمها وقمعها لاحقا على يد النظام السوري، لصالح المقاومة الاسلامية الناشئة الممثلة بـ”حزب الله.”

اقرأ أيضاً: المبادرة الوطنية لإستعادة السيادة وتحرير لبنان من الوصاية

لا يزال الحزب الشيوعي يحتفل في كل سنة بذكرى انطلاقة “جمول”، وها هو حنا غريب يعتبر اليوم أيضا “إنطلاقة جمول”، مثالا للمواجهة الى جانب انتفاضة ١٧ تشرين.

أعتقد انه لم يعد هناك من فائدة من الإكتفاء بالتغني بإنطلاقة “جمول”، ففي المعنى السياسي العملي، أصبح التغنّي بمثابة بكاء على الاطلال. الإكتفاء بذلك، دون التوقف عند دلالات قمعها والقضاء عليها، ممّن هم اليوم حلفاء، يُسمّى باللغة الماركسية، بالترويج للوعي الزائف.

فالفائدة اليوم، كل الفائدة، هي في استخراج كل العبر السياسية من اسباب اغتيالها، ووعي الدور السياسي للذين اغتالوها. إن استذكار اغتيال “جمول” وليس إنطلاقتها فقط، هو المعبر الضروري لإحياء يسار لبناني مستقل، شكل في ما مضى العمود الفقري المكسور لـ”جمول”.

فاغتيال “جمول”، وليس إنطلاقتها، هو ما يمكن ان يشكل نقطة التلاقي والتكامل مع إنتفاضة ١٧ تشرين.

ذلك ان إنتفاضة تشرين لُجمت أيضا وإن لم يجرِ القضاء عليها نهائيا بعد. وهي قد لُجمت على أيدي أطراف عديدين، أهمهم الطرف نفسه الذي ساهم في اغتيال “جمول”، بهدف استكمال مسار آخر مناقض لها.

وإذا كان الحزب الشيوعي لم يشأ أن يدل بالاصبع وصراحةً، الى الطرف الاساسي الذي ساهم في لجم الانتفاضة، فهو اليوم قد اضطر الى رفض خيار هذا الطرف بترسيم الحدود مع إسرائيل.

ضرورة استيعاب الدلالات السياسية لاغتيال “جمول” كرافد ليسار لبناني مستقل، لا تقل أهمية عن استيعاب دلالات لجم الانتفاضة. فأية محاولة لتجديد اليسار اللبناني، لا بد ان تمر بتطعيم هذا اليسار بالمعنى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والوطني لظاهرة الانتفاضة، وبمعنى لجمها أيضا. فيسار جديد يمكن ان يولد من الانتفاضة، إذا فهم هذا اليسار ان تجربة الانتفاضة تشكل الخصوصية اللبنانية لتيار التغيير الشعبي في لبنان، التي يجب ان يستمد منها توجهاته. خصوصيتها هي في أنها حملت في آن واحد، نزعات طبقية ووطنية، وتطلعات تحررية، سياسيا وثقافيا وجندريا. الانتفاضة ظهّرت بالملموس طاقات التغيير والرجعية على حد سواء، وتجربتها هي اهم درس يمكن ان تستفيد منه قوى التغيير، مما يساعدها على اعادة النظر في توجهاتها وإستراتيجياتها.

الانتفاضة هي فرصة الحزب الشيوعي لتكوين وعي يساري مطابق للواقع اللبناني ولشروط تغييره. فهو مَن عليه التعلّم من الانتفاضة، من قوتها ومن ضعفها، وليس العكس. لعلها مناسبة أيضا لإعادة النظر في إسم الحزب، الذي يتمسك به وكأن النظام الشيوعي على الابواب. فالتمسك بالإسم رغم التغيرات الكثيرة التي تدعو الى تغييره، يعكس ربما خوفا من عدم القدرة على انتاج مقاربة جديدة للتغيير، خارج الإيديولوجيا المعتمدة لسنوات، وإستكانةً للطمأنينة النفسية التي تؤمّنها الإيديولوجيا، رغم كل الانكسارات والعجز المتفاقم.

نظم الحزب الشيوعي مسيرة في ذكرى تأسيسه هذه تحت عنوان “من أيلول التحرير الى تشرين التغيير… سنمضي سنمضي الى ما نريد، وطن حر وشعب سعيد”.

طبعا التحرير لم يحصل في ايلول ١٩٨٢ ولا التغيير تم في تشرين ٢٠١٩. لكن الحزب الشيوعي كان فاعلا في الحدثين التاريخيين، وهو، كما يقول، ماضٍ في نضاله حتى تحقيق حلم “الوطن الحر والشعب السعيد”.

يعجبني هذا التلازم في شعار الحزب الشيوعي، بين حرية الوطن وسعادة الشعب. فإذا كانت حرية الوطن يمكن ان ينادي بها اي نظام مستبد، ديني او عسكري، وهي حالتنا في المنطقة، فإن وضع سعادة الشعب في مستوى حرية الوطن، يسمح للحزب الشيوعي بالتمايز مبدئيا، عما تطرحه هذه الانظمة المستبدة. فسعادة الشعوب غائبة كليا في هذه الأنظمة، التي يعمّها الشعور بالأسى والقهر والإحباط.

يحتاج الحزب الشيوعي الى ترجمة سياسية فعلية لمناداته بسعادة الشعب. وهذا لن يكون، الا من خلال عدم إكتفائه بتصنيف الحلفاء والأعداء انطلاقا من موقفهم من اميركا وإسرائيل فقط، بل من خلال سعيهم الى إسعاد شعبهم، الذي يحتاج الى الحرية كما الى الخبز.
فإذا كان الخبز يساعد على الشعور بالإكتفاء الجسدي، وحدها الحرية تفتح الطريق نحو السعادة.

وهذا يحتّم علي الحزب الشيوعي العمل من اجل مناهضة النزعات العسكرية والدينية التي تقمع الحرية.
ولعل اصرار حنا غريب في كلمته على “الديموقراطية العلمانية” هو اول الطريق، بعيدا من تمويهات أطروحات “الدولة المدنية” التي تصدر عن نزعة واضحة للهيمنة المذهبية والطائفية.

الحزب الشيوعي هو أكثر الاحزاب اللبنانية دينامية في الساحات والشوارع. وإذا كانت الماركسية تزاوج بين الفكر والممارسة، مستخدمة مصطلح “البراكسيس” praxis، فإن الشيوعيين مدعوون الى الافادة أكثر من غنى ممارستهم، من اجل تطوير فكرهم ومطابقته مع الواقع اللبناني. حتى لو أعاد إكتشافهم للواقع، الإقرار باللون الحقيقي للسنديانة، التي هي “في نهاية التحليل”، خضراء وليست حمراء، كما جاء في كتاب “السنديانة الحمراء” للراحل محمد دكروب الذي يؤرخ لتاريخ الحزب الشيوعي اللبناني.

السابق
رغم اقتباسه عن قصة حقيقية.. تهميش فيلم افتتاح الجونة عن المآساة السورية!
التالي
بالفيديو: إشكال فردي في حي الشراونة.. إطلاق نار كثيف وقذائف صاروخية!!