17 تشرين.. سيرة ثورة لا تهدأ

لبنان ينتفض
قبل عام، فرضت وزارة الاتصالات اللبنانية ضريبة على تطبيق الواتساب، بحجة سداد ديون الدولة اللبنانية التي بلغت مئة مليار دولار، مع نسبة بطالة مرتفعة تصل إلى ثلاثين بالمئة، فكانت الشرارة لاندلاع ثورةٍ أخرجت مليونًا و200 ألف لبناني من بيوتهم باليوم الثالث وحده من اندلاعها، بحسب وكالة رويترز، للاعتصام في ساحتي الشهداء ورشيد الصلح، وامتدت لطرابلس الشام بالشمال، والنبطية جنوب لبنان، وتم إغلاق طريق مطار بيروت ومعظم الطرقات الرئيسية في لبنان، وعمّت التظاهرات معظم المدن اللبنانية، وأصبح الهدف منها إسقاط النظام الطائفي في لبنان.

اللافت أن ثورة 17 تشرين الاول 2019،  تجاوزت المناطقية والطائفية والحزبية، وثانياً لأنها اتسمت بسلمية كاملة، شعار واحد هو المواطنية والعلم اللبناني وقد أدت الى هز أركان الطبقات السياسية الحاكمة كلها والأحزاب السياسية التي تتقاسم النفوذ على الشارع والدولة منذ نحو ثلاثة عقود.  

فشل الدولة وتراكم المعاناة 

معظم الخبراء والاعلاميين  يرون ان الثورة لم تشتعل 17 أكتوبر/ تشرين الأول رداً على فرض ضرائب على خدمة تطبيق الواتساب فحسب، بل اتت بسبب سلة كاملة من التراكمات في الفشل في الادارة وتفشي الفساد وانعدام الخدمات وارتفاع معدلات البطالة، علاوة على وضع اقتصادي ومالي صعب تعيشه البلاد واستهتار وقلة مسؤولية السياسيين اللبنانيين في إدارة أي أزمة. 

اقرأ أيضاً: هكذا عاقبت السلطة ثوار 17 تشرين.. شهادات حية عن القمع والقتل والاعتقال وفقأ العيون! 

انتشرت التظاهرات في كل المناطق اللبنانية وتوحّدت حول المطالب بتلقائية دون أي اتفاق أو تنسيق مسبق وبات رحيل الحكومة (قبل الاستقالة) وتشكيل حكومة من مستقلين واجراء انتخابات مبكرة هي أهداف الثورة. 

غير ان الثورة ما لبثت ان أدركت صعوبة مهمتها، وانها ستكون صعبة ومعقّدة لأسباب تتعلّق بطبيعة النظام الطائفي المتجذّر، واختراقها من قبل بعض من الطبقة السياسية، إضافة إلى ارتباطها بمناخات الصراع الإقليمي الساخن، وغياب قائد أو قيادات أو حتى مشروع أو رؤية سياسية موحّدة لمكوّناتها. 

ثورة شباب: “كلن يعني كلن” 

كانت المطالبة بإسقاط النظام التي تجسدت في عبارة “كلن يعني كلن” هي الاختلاف الجذري الذي حدث هذه المرة. ومنذ الليلة الأولى صدحت شوارع بيروت متبوعة بجميع المدن والمناطق التي انضمت الى التظاهرات بهتافات المطالبة بإسقاط النظام. “كلن يعني كلن” هي صحيح امتداد للشعار الذي انطلق في 2015، ولكن المفارقة هذه المرّة هي أن من يطالب بإسقاط النظام يعني النظام بكامله، أي إسقاط النظام اللبناني القائم على أساس المحاصصة والزبائنية والذي يتمثل في علاقة الطبقة السياسية بالشعب وعلاقة الشعب بالدولة؛ وإسقاط نظام الزعامات التي ملّ منها اللبنانيون ولا يروا فيها الّا رموز فساد وسرقة؛ وإسقاط النظام الطائفي من أجل إرساء نظام مدني – علماني يهتم بإعطاء الحقوق الفردية للمواطن قبل حقوق الطائفة حيث تكون فيه علاقة المواطن مباشرة مع الدولة دون أن تكون من خلال الطائفة؛ وأخيراً إسقاط نظام الاقتصاد الريعي الذي أوصل البلد إلى هذه الازمة وإرساء اقتصاد منتج بديل. 

لا يوجد عند المتظاهرين إجماع حول طرح بديل عن النظام أو خارطة طريق متفق عليها من الجميع. ولكن من الواضح أن الحراك قد كسّر آخر خيط في العلاقة مع النظام القائم؛ وظهر ذلك عبر انتشار الاعتصامات في كل المناطق، وإن اختلفت حدتها من منطقة لأخرى. في حوارات أجريتها مع عدد من الشباب الذين يشاركون لأول مرّة في مظاهرات مشابهة ويهتفون بـ “كلن يعني كلن” وضد النظام ويطالبون بإسقاطه، كان هناك تقريباً إجماع على انّه لا امكانية لإصلاح هذا النظام، وبالتالي على أي سلطة تنبثق من جديد أن تعيد إنتاج قواعد ترعى وتؤسس لنظام مغاير للنظام القائم. 

بروز جيل الشباب  

مع الأخذ بعين الاعتبار أن النقاش الجدي حول ماهية عملية إسقاط نظام وبناء نظام آخر لا يزال في أوله لكن مما لا شك فيه أن وعياً جماعياً تكوّن حول ضرورة إسقاط النظام. ولعب العنصر الشبابي دوراً رئيسياً في انتشار هذا الوعي.فجيل الشباب والشابات الذي شارك في الثورة اليوم ويعد عصب الثورة اذ يشكل أكثرية المتظاهرين (الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و 25) لم يعش فترة الانقسام الحاد في المنظومة السياسية التي عاشها الجيل السابق فترة ال 2005 وما تلاها،  ولا هو جيل لديه ارتباط بذاكرة الحرب. فهو جيل شاب عاش فترة من الفساد غير مسبوقة في الدولة اللبنانية وفشل معظم الأحزاب في تقديم طروحات جدية بديلة وفترات حكومات ائتلافية تتفق فيها كل المنظومة السياسية. وبالتالي هذه الفئة الشابة لا تملك أي ارتباط بالنظام القائم وهي مستعدة ومتحمسة لإسقاطه والذهاب الى إرساء نظام جديد يتجاوب مع تطلعاتهم. 

تصدي الثنائي الشيعي للثورة 

تصدت في مرحلة لاحقة عناصر حزب الله وحركة أمل لم بقمع المتظاهرين المنتمين إلى “ثورة 17 تشرين” وهي ازدادت شراستها خصوصا بعد تشكيل حكومة اللون الواحد برآسة حسان دياب في الشهر الأول من العام الحالي ، مستخدمة العصي والأدوات الحادة، في ساحة الشهداء وسط بيروت، بل أطلقت هتاف “شيعة، شيعة، شيعة” و”لبيك يا حسين”، فاستخدمت بذلك التحريض الطائفي ضدّ الثوار، مدعوما بخروج امين عام حزب الله السيد حسن نصرالله مرارا وتكرارا، متهما من يقطع الطرقات على المقاومة بالخيانة والعمالة لأميركا واسرائيل. 

وكما تقول الدكتورة منى فياض انه “ربما على المجموعات الثورية أن تعترف باختلاف أهدافها وأولوياتها ولا بأس من وجود خطان للثورة. هناك فئة تريد أن تجد أن سلاح “حزب الله” سلاح مقاوم لا يمس ويكفيها أن تقضي على الفساد الاقتصادي والإداري كي يستعيد البلد عافيته. فليكن لهم خطتهم وتحالفهم. لكن ليتجمع الباقون الذين يعتبرون أن حماية سلاح “حزب الله” للفساد هي التي تمنع أي قدرة على الإصلاح، وأن ترك الأمور تحت رحمته والسلطة التي يحميها سيؤدي إلى الدمار الشامل. 

مسار الثورة ومستقبلها بعد انفجار 4 آب 

مع تكشف حقائق فظيعة حول علم مجمل المسؤولين في البلاد بوجود أطنان نترات الأمونيوم التي أدت إلى تلك الكارثة في مرفأ بيروت، لاسيما أن رئيس الجمهورية أقر أمس الجمعة أنه كان على علم بوجود تلك الكمية منذ فترة قصيرة، وتحت شعارات “يوم الحساب” و”الغضب الساطع” و”علقوا المشانق”، تظاهر الاف من المواطنين الغاضبين في وسط بيروت، بعدما علقوا المشانق في الساحة إصراراً على محاسبة المسؤولين عن الكارثة التي هزت العاصمة. 

وتوافد آلاف المتظاهرين الناقمين على السلطة يوم السبت في 8 آب إلى وسط العاصمة اللبنانية تحت شعار “يوم الحساب”، مطالبين بمعاقبة المسؤولين عن التفجير الضخم في مرفأ بيروت الذي حوّل عاصمتهم إلى ساحة خراب.  

وانطلقت مسيرة حاشدة وفق مراسل فرانس برس من شارع مار مخايل المتضرر بشدّة إلى وسط بيروت، رافعين لافتة كبيرة ضمّت أسماء قتلى الانفجار. وسُرعان ما سُجلت مواجهات بين القوى الأمنية ومحتجين في طريق مؤد إلى مدخل البرلمان. وأطلق الشبان الحجارة على عناصر الأمن الذين ردوا بإطلاق القنابل المسيّلة للدموع في محاولة لتفريقهم. 

ونجحت هذه التظاهرة الغاضبة باسقاط حكومة حسان دياب بعد يومين في 10 اب 2020، وشكل هذا النجاح للثوار انطلاقة جديدة لمسار الثورة التي كشفت تلاشي الدولة وضعف السلطة وعجزها عن تشكيل حكومة بديلة حتى يومنا هذا، كما لم يستطع حزب الله وهو القوة المهيمنة على السلطة ان يتفادى المطلب الاميركي الدولي بترسيم الحدود مع اسرائيل، فوافق مرغما، وعقدت امس الجلسة الاولى للمفاوضات مع اسرائيل برعاية اميركا في الناقورة جنوب لبنان. 

غير ان السؤال يبقى هنا، هل يكفينا في لبنان رزمة اصلاحات اقتصادية وسياسية جديدة كي نتخلص من أزماتنا ام نحن بحاجة لإرساء نظام جديد بعقد اجتماعي جديد وشكل حديث للدولة على اعتاب المئة سنة من دولة لبنان؟  

السابق
الاحتفالات بالسنوية الأولى لـ«17 تشرين» انطلقت.. تحركات ومسيرات تعمّ المناطق!
التالي
ثورة 17 تشرين الأنثى: «الركلة الأولى» تُرنح السلطة الحاكمة!