حارث سليمان: تطبيق إتفاق الطائف يُطمئن الجماعات ويُحرر الأفراد كمواطنين أخيار!

حارث سليمان
شدد الناشط السياسي الدكتور حارث سليمان على أن ما رسم في الطائف شيء، وما طبق منه شيء آخر. وإعتبر جوهر ما يقدمه الطائف، أنه يطمئن الجماعات أولاً ومن بعدها الافراد ليكونوا نواة دولة المواطنة والعدالة التي ارساها "نظرياً" الاتفاق الذي أصبح دستورا وطنيا.

في لقاء حواري في “منتدى صور الثقافي” عنوانه : قضايا التغيير من الطائف حتى الثورة، ركز الناشط السياسي الدكتور حارث سليمان في محاضرة عن اتفاق الطائف على نتائج عدم تطبيقه التي أدت الى نسف مبدأ أساسي قام عليه وهو الغاء الطائفية بكافة اشكالها من النصوص والنفوس، وبيٌن على أرض الواقع، كيف تم تخريب الإدارة واسلاك الدولة من خلال تطييف التوظيفات في السلطة وحصر الدخول الى الوظيفة العامة، بمحاسيب زعيم الطائفة والمذهب على حساب أصحاب الكفاءة من المذهب ذاته.

وشدد على أن ما رسم في الطائف شيء، وما طبق منه شيء آخر. وإعتبر جوهر ما يقدمه الطائف، أنه يطمئن الجماعات أولاً ومن بعدها الافراد ليكونوا نواة دولة المواطنة والعدالة التي ارساها “نظرياً” الاتفاق الذي أصبح دستورا وطنيا.
ودعا الى المحافظة على القيم الجديدة التي أطلقتها الثورة : (أ) دولة مدنية كاطارللخروج من الطائفية، ولو بحسب اتفاق الطائف، (ب) والخروج من عباءة الزعيم وإدانة المنظومة السياسية بمجملها أي “كلّن يعني كلّن”، (ج) إدانة الفساد كجريمة بحق الوطن والشعب، (د) نبذ العنف وعدم اللجوء اليه ولو دفاعا عن النفس. وتبني الخيار السلمي لاسقاط السلطة واستعادة الدولة.

العيش المشترك

ستهل سليمان محاضرته بالقول ان وصف “اتفاق الطائف بأنه أنهى الحرب فقط، هو تجن وظلم عليه. فأهمُّ ما في اتفاق الطائف، ليس أنه تسوية، بل إنه إصرار على العيش المشترك.
وقال انه كان يسارياً وممن مارسوا الوهم بأنهم يستطيعون أن يحوًلوا لبنان، إلى قاعدة ثورية، إلى “هانوي” العرب، إلى بؤرة، نستطيع من خلالها أن ننطلق لفرض الديموقراطية في العالم العربي، أو فرض الثورة في العالم العربي، أو، أو، أو.. إلخ. وطبعاً، من ضمنها، تحرير فلسطين؛ هذا كان وهماً دفع لبنان ثمنه، في حينه، كان يقابله وهم آخر، يميني: أنه في ظل “فك الارتباط” الذي جرى بعد حرب تشرين ١٩٧٣، على الجبهة السورية وعلى الجبهة المصرية.

توهّمت بعض الأوساط في اليمين اللبناني، أنها تستطيع أن تُعيد صياغة لبنان، بما يجعله وطناً قومياً مسيحياً، عبرت عنه بشكل واضح مقررات “خلوة سيدة البير” وطروحات أمين ناجي وموسى البرنس ثم خطابات المرحوم بشير الجميل حول سقوط الصيغة اللبنانية.

كان هناك، هذان الوهمان، وكان يُقابل هذين الوهمين، مشروع حقيقي، إسمه “مشروع الرئيس حافظ الأسد” لإمساك مفاتيح التسوية في بلدان: لبنان، وفلسطين، وسوريا، والأردن. انفجرت الحرب، ولن نعود إليها، وأول الحرب كلام، وأغلبنا تبصر بعد “حرب السنتين”، وأدركنا جميعاً، عبثية هذه الحرب، وذهبنا إلى خيارات، من نوع : الحوار والوئام وإنهاء هذه الحرب؛ لكن هذه الحرب ذهبت، حيث لا نريد، ولم يكن في نيّتنا، أصلاً، أن تصل إلى ما وصلت اليه، وتمّ تطييف البلد بالكامل ومذهبته، وإنشاء ميليشيات طائفية.

اتفاق الطائف

اتفاق الطائف على ثلاث مراحل ، وهو أتى ليعالج هذه المعضلة، وليُعيد ما نسيناه جميعاً، حين توهّمنا، بإمكانية قيام قوة ثورية تكون “هانوي” العرب في ظروف لبنان، وحين توهّم غيرنا بإمكانية إقامة وطن قومي مسيحي. أتى اتفاق الطائف ليقول: لبنان يكون بصيغته، أي صيغة العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين، تأسيسا ولكنه يفتح باباً للمواطنة. مرة أخرى يُظلم أيضا اتفاق الطائف حين يقترن بالمحاصصة الطائفية، اتفاق الطائف، ليس ما نراه اليوم.

لم يفتح اتفاق الطائف باباً للمحاصصة. اتفاق الطائف، قال، بالمقدمة، :إن إلغاء الطائفية يتم بشكل تدريجي، بمقدمة الدستور.

الفقرة : ح

إلغاء الطائفیة السیاسیة هدف وطني أساسي یقتضي العمل على تحقیقه وفق خطة مرحلیة. المقدمة تعني أنها بند أساسي، رئيسي، ومن ثم في المادة 95، وغير الـ95، تم اعتماد إلغاء الطائفية في ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: “إلغاء طائفية الوظيفة”، و”اعتماد الجدارة والكفاءة”؛ وبالتالي كل ما فعله الجنرال عون وجبران باسيل، و”قصة” رفض التعيينات حسب نتائج “مجلس الخدمة المدنية”، هو مناقض – تماماً – لاتفاق الطائف. تم إلغاء طائفية الوظيفة، في الوثيقة الدستورية التي تقدم بها الرئيس الراحل سليمان فرنجية الجد، بعد زيارته إلى دمشق في شباط سنة 1976 وهذا الإجراء تم تكريسه في اتفاق الطائف، لاحقاً، في المادة 95.

فإذاً، اتفاق الطائف ودون إطالة، حدد طريقة إلغاء الطائفية، حدد، في البند الرئيسي “فوق”، في المقدمة، إلغاء الطائفية، بشكل مرحلي، وحدد، في المادة 95، وفي المادة 22، إجراءات أخرى، للانتقال إلى إلغاء طائفية أخرى. ما فعله اتفاق الطائف أنه اعتبر أنه هناك طائفية الوظيفة، وهناك الطائفية السياسية؛ وهناك الطائفية في الفكر والنفوس التي كان يُشار إليها – وعلى ما تعلمون جميعاً – خاصة المخضرمين منكم – من خلال الجدل الذي كان يدور حول: “إلغاء الطائفية من النصوص ومن النفوس”.

إقرأ أيضاً: حارث سليمان يرد على نصرالله: لم ينكش حتّى حاكوره في حياته.. ولكسر سطوة السياسة عن النقابات!

والاتفاق كان أن نمرحل إلغاء الطائفية في لبنان. أولا وبداية : إلغاء طائفية الوظيفة فيما خلا الفئة الأولى، اما بقية الوظائف في الفئات الثانية والثالثة والرابعة، فلا قيد طائفي فيها ولا مناصفة ولامحاصصة، والامتحان والجدارة هما المعيار، ثانيا : نذهب إلى إلغاء الطائفية السياسية، أي طائفية النواب، وطائفية مجلس الوزراء، وعندما ينتخب مجلس النواب بشكل وطنيّ، خارج القيد الطائفي، فمقابله وبموازاته وبتوقيته، يجري انتخاب مجلس شيوخ.

ثم بعد ذلك او بموازاتها، يتم تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، مهمة هذه الهيئة أن تذهب إلى المدى الابعد في إلغاء الطائفية، أي ما تبقّى من الطائفية؟ أي طائفية الأحوال الشخصية، طائفية كتابة التاريخ، الطائفية في النفوس، أي في المجتمع والثقافة، وعالم الفكر. فإذاً، هذا هو اتفاق الطائف كما رُسم، ولكن ليس كما طُبّق.

الذهاب إلى دولة المواطنة دولة القانون والمؤسسات حسب المواطنة هذا هوالطائف روحا ونصاهذا ما جرى الاتفاق عليه

واتفاق الطائف، وُضعت فيه مرحلتان: مرحلة أولى أسموها “تطمين الجماعات” أي الطوائف، لكي نستطيع حل الميلشيات، وبالتالي تقوم الدولة باستيعابها أو بتسوية مع من كانوا ميليشيات، تدمجهم في نسيجها؛ والمرحلة الثانية: هي: تقديم الضمانات للأفراد، فإتفاق الطائف يحتوي على مرحلة أولى: “تطمين الجماعات” ثم مرحلة ثانية، “تطمين الأفراد” أي الذهاب إلى دولة المواطنة. دولة القانون والمؤسسات حسب المواطنة، هذا هوالطائف روحا ونصا، هذا ما جرى الاتفاق عليه.

واتفاق الطائف، أنتم تعرفون أنه تبلور بورقة أبريل كلاسبي، وقبل ورقة أبريل كلاسبي، هناك الوثيقة الدستورية للمرحوم سليمان فرنجية ومن بعدها هناك “الاتفاق الثلاثي”، واعمال اللجنة العربية، وأوراق تبادلها الرئيس السيد حسين الحسيني مع البطريركية ثم مع الفاتيكان، إلخ. فإذاً، كل هذا النقاش وكل هذا العمل الفكري والسياسي والميثاقي وضع أُسساً للحل في لبنان.

انتهاك الطائف روحا ونصا

ماذا فعلت الطبقة السياسية؟ الظلم الاضافي للطائف هو وصف الطبقة السياسية التي أمسكت السلطة ب ” منظومة الطائف “هذه ليست منظومة الطائف، إنها “منظومة التنكُّر للطائف”، طبعاً، ما الذي ساعد هذه المنظومة على أن تتنكّر للطائف؟ هي الوصاية السورية، التي ساعدتها على ذلك. وبالتالي: ذهبنا الى ما وقعنا به، وبدل أن نذهب بشكل متدرّج من الطائفية إلى طائفية أقل، أو مستوى من الطائفية أدنى، أصبحنا نُراكم طائفية، يوماً بعد يوم.
بدل أن نذهب من التحاصص بالوظائف في الإدارة العامة، الى إلغاء طائفية الوظيفة، بما يعني أن مجلس الخدمة المدنية الذي يعتمد الامتحان والكفاءة هما المعياران لبناء الإدارة، ذهبنا إلى ماذا؟ إلى دولة المحاسيب.

أي أننا عيّنا من هم محاسيبنا، ومن يدينون بالولاء إلينا، وألغينا، بشكل مدروس ومنهجي أي امتحان لمجلس الخدمة المدنية، لا يتوافق مع محاسيبنا. وقد فعل ذلك، كل أطراف السلطة، ليس هناك من بريء من دم هذا الصدّيق، وبالتالي، تم تجويف الإدارة من كفاءتها، ومن فعاليتها، ومن إنتاجيتها.

وهذا سبب في ما وصلنا إليه في (17 تشرين)، هذه احدى الاسباب: الإدارة لا تُنتج، لأنه تم أيضاً اختراع أشياء لم تسمع بها أي دولة في العالم، لدينا موظف، ولدينا مُياوم، ولدينا أجير، ولدينا عامل فاتورة، وعامل إكراء ومستعان به، لدينا عاملون في المؤسسات العامة لا يخضعون لقانون الموظفين ولا لسلاسل رواتب الدولة، لكنهم يخضعون لسلطات الوزير ويعينون بقوانين وبشكل جماعي من مجلس النواب بدلا من مجلس الخدمة المدنية والسلطة التنفيذية.

في قانون الانتخاب اعتماد المحافظة كدائرة بعد إجراء تعديل بالتقسيمات الإدارية النص واضح

كل هذه الممارسات، هي لعب على حبال “السعادين”، من أجل الالتفاف على القانون. من أجل إدخال موظفين من المحاسيب، خارج إطار قانون الإدارة العامة، ببساطة وبدون حاجة إلى هؤلاء. كان ذلك مخالفة فادحة للدستور.
أما المخالفة الثانية الأساسية للدستور، وهنا، سأقفل باب انتهاك الطائف، ومظلومية الطائف مع هذه الطبقة السياسية، هو أمر “قوانين الانتخاب” التي اعتمدت جميعها : في باب قانون الانتخاب، ماذا قالت وثيقة الطائف؟

قالت : “اعتماد المحافظة كدائرة، بعد إجراء تعديل بالتقسيمات الإدارية” النص واضح. وفي الوقت الذي يقول فيه المشرّع: إجراء الانتخابات النيابية على أساس المحافظة دائرة، بعد إجراء ماذا؟ إجراء تعديلات على التقسيمات الإدارية.
فماذا كانت التقسيمات الإدارية في لبنان في زمن كتابة هذا النص؟ كان هناك خمس محافظات و26 قضاء. فلو كانت نية المشرّع، أن “يعتمد” خمس دوائر لكان قال: تجري الانتخابات على أساس المحافظة وبدون اضافة عبارة ” تعديلات التقسيمات الإدارية”.

ولو كانت نية المشرّع أن “يعمل” 26 دائرة، لكان قال: تجري الانتخابات النيابية على أساس القضاء، اذن ما أراده واضح وجلي؟ إنه يريد شيئاً أصغر من المحافظة (المحافظات الخمس)، وشيئاً أكبر من القضاء، يعني: قضاءين، مثلاً، ثلاثة، ممكن، فإذاً هو وضع اطارا محددا لعدد الدوائر. والذي يريد أن يقول لي الآن، رغم أن الحركة الوطنية، في السابق، قالت: “لبنان دائرة انتخابية واحدة”، ووقتها كنا مسرورين “بهذا الخيار”، لأسباب مختلفة عن الوضع القائم، لكن في الطائف، لا يوجد “دائرة واحدة”، فلا يقولن لي أحد: “أنا مع الطائف وأنا في الوقت نفسه، مع “دائرة واحدة”، فهاتان المسألتان، لا تتوافقان أبداً، فعليه أن ينتقي واحدة منهما فقط. فإذاً لا توجد “دائرة واحدة، في الطائف، إنما يوجد ما بين ثماني دوائر، وبين ثلاث عشرة دائرة.

(26 /2 = 13)، (5×2) أو (ضرب .1.6)… يعني ان الحصيلة هي 8 أو 10على الأكثر). اذن عدد الدوائر حسب الطائف يتراوح عددها بين 8 و13 دائرة.
وقد قامت هذه المنظومة، منظومة الفساد والفشل والارتهان إلى الخارج بمخالفة اتفاق الطائف، في كل القوانين الانتخابية، التي حدثت، منذ سنة 1992، حتى الآن. فلا يوجد شيء في الطائف إسمه “أقضية” و”محافظات خمس”. أي لا وجود لأقضية، ولا وجود لمحافظات خمس في اتفاق الطائف. وطبعاً، إضافة إلى المخالفة المذكورة.

التزوير، و و و… وكل ما عرفتموه ومرّ عليكم في العمليات الانتخابية، فإذاً، هذا هي نصوص اتفاق الطائف وانتهاكات من حمل لواء تنفيذه. فماذا يبقى من اتفاق الطائف؟ تبقى نصوص كانت قد وُضعت، ولم تُنفذها أطراف السلطة، مثلاً: “اللامركزية الإدارية”، التي لا يأتي على ذكرها احد ، وسأسّمي الأشياء بأسمائها عندما يطالب المسيحيون بـ اللامركزية الإدارية” ينبري أحد ليقول لهم: “منشكّل” هيئة إلغاء الطائفية السياسية، “بيتهددن” “بيعملوا حفلة زجل”.

فإذن، تركوا الجزء الإصلاحي من الطائف، في الدُّرج. انتهكوا الجزء الميثاقي، وألغوه، وحوّلوا الدولة الى غنيمة، نعم كان هناك فساد في بنيان الدولة، لكن الفساد الذي حصل في السلطة من العام الـ1985 إلى اليوم، قد يوازي أضعاف أضعاف الفساد الذي كان موجوداً منذ العام 1943 إلى الآن.

وبالتالي، لا تظلموا الطائف، فالطائف لم ينفذ، ولا تظلموا الطائف، لأن البعض يرفض الطائف دون أن يقرأه، ولا تظلموا الطائف، لأنه في روح الطائف، هناك دولة مدنية فنحن لسنا بحاجة إلى ميثاق جديد من أجل أن نصل إلى دولة مدنية في لبنان. فالطائف، مرحلتان: مرحلة أولى “تُطمّنُ فيها الجماعات، ومرحلة ثانية تُعطي فيها السلطة للأفراد والمواطنين. في الطائف هناك دولة مواطنة وقانون ومؤسسات.

ولذلك، نستطيع من خلال الطائف، أن ندفع بالانتقال من المرحلة الأولى التي “خرَّبوها”، إلى المرحلة الثانية المنصوص عليها في الطائف والانتقال إلى دولة مدنية.

من الوثيقة الموؤدة الى الثورة المولودة؟

وبالنسبة للكلام بـ”الثورة” الناس لم يقوموا بثورة، الناس اكتشفوا أنهم خُدعوا، واكتشفوا، أنهم نُهبوا، وتبين لهم أن من التجأوا اليه في بعض الأحيان، نتيجة الخوف الذي اعترى نفوسهم جميعاً، طالبين حماية زعيم من عصبيتهم، تبين لهم ان هذا الزعيم يفترسهم كغنيمة أو “غَنَمة”، لأنه ذئب.

وبالتالي، نزل الناس، يعلنوا غضبهم، يعلنوا خوفهم، يعلنوا استنكارهم، البعض من الثوار، اعتقدوا أن النزول إلى الشارع بمليون شخص، أو بـ500 ألف شخص، أو 300 ألف شخص، كاف، لكي تذهب هذه الطبقة السياسية إلى البيت. وبعضهم اعتقد أنه من السهل بقطع الطرقات، وعرقلة الحياة العامة، أن هؤلاء السياسيون سوف يخجلون، ويقدمون استقالاتهم، ويرحلون، لكن الشباب (الثوار) اكتشفوا، وهنا أوجّه حديثي إلى هؤلاء الشباب، إن هؤلاء السياسيين، أصبح لهم – على الأقل مدة 35 سنة أو أكثر، ينهبون، ويمارسون التسلط، ويعمرّون قصوراً؛ فلا تفكّروا في أنهم سيرحلون بسهولة.

ولا تفكروا في أن الثورة هي مسيرة يوم أو يومين أو شهر أو شهرين. لا تفكروا أن الثورة ممكن تُنجز أهدافها من دون تضحيات، ولا تفكروا إن الثورة هي، فقط، مربوطة، بالحشد، وإن أهمّ ما عملته هذه الثورة، (وهو مذكور في كتابي عنها)، متمثّل بـ”أربع أشياء”: أولاً: أنها خرجت من عباءة الزعيم والطائفة الى رحاب المطالبة بالدولة المدنية. وثانياً: أنها أدانت الفساد، كجريمة بحق الشعب والوطن.

“ومن زمان كان اللي بسيرق شاطر، إمش مع الراعي وكول من زوّادتو”. أليس كذلك؟ “هادا دبَّر حالو” غيّرنا اللغة العربية، صرنا نقول: “شاطر” مش حرامي، “نقول هادا استفاد”، “شو استفاد يعني”، مع أن الفائدة تأتي من عمل مشروع، بينما “منقول إنو (الحرامي) استفاد، يعني نحنا قصدنا أنه “سرق”.

لكن لا نريد أن نقول أنه “سرق”. من هنا فإن هذه الثورة لقد أعادت الى اللغة العربية نصابها، باعتبار الفساد جريمة، وهذا شيء مهم جداً، ومن ثم يا إخوان وخاصة الشباب، لا وجود لثورة بالقيم القديمة، فالثورة، “تكون” إذا أصبحت القيم متحركة في طور التغيير، وإذا كان هناك قيم جديدة، والثورة وضعت هذه القيم وهي أربعة: الخروج من عباءة الزعيم والطائفة الى الدولة المدنية، إدانة الفساد كجريمة.

والقيمة الثالثة هي عدم اللجوء إلى العنف، لماذا، لأننا نحن “جرَّبنا” العنف، ونحن نعرف ما معنى العنف، ونعرف ما معنى الحرب الأهلية وكيف يكون واحدنا نيته صافية وطيّبة، ويعتقد أنه في سياق عملية التغيير من اجل سرعة الانجاز يتعجل باستعمال العنف، فتنقلب الحالة، ويصبح ذاهباً إلى مكان لا يريده، ولم يكن يريده أصلا، ولم يفكر فيه يوماً.

ولذلك فأن هذه الثورة أيضاً، نبذت العنف، حتى لو تم استخدام العنف ضدها. والأخطاء الأساسية للثورة، إذا ما أردتم، الإشارة إليها، أنها إنجرّت (الثورة) في بعض الأحيان، بإسمها، زوراً أو حقيقة، إلى بعض الممارسات العنفية، وهذه أثّرت على جماهيريتها، وأثّرت على دعم الناس لها، وعلينا أن نحرص أن لا تتكرر.

والمسألة الرابعة: هي لها علاقة بالشباب والمرأة. لأول مرة في لبنان، إن فئة الشباب وفئة المرأة، تكون في قيادة هذه الثورة. وهذا شيء أساسي، وهذا شيء بنيوي في صميم الثورة. وعليكم كشباب أن تحافظوا على هذه الريادية، وعلى هذا الموقع الريادي في صميم الثورة.

أخيراً: إلى أين؟

الثورة هي هذا الوعي، وادامتها بادامة هذا الوعي وتوسيع مضامينه إذا حافظت الناس على هذا الوعي بقيت الثورة، هذا الوعي المؤلّف من أربع مسائل بسيطة هو الثورة، لقد وضعت الثورة أجندة سياسية كمطالب مختصرة، بدل سلطة الفساد والفشل والارتهان إلى الخارج، نريد حكومة بديلة، مستقلّة، ونزيهة، ونظيفة.
نريد إعادة تكوين السلطة، والحكومة المستقلّة التي نريد هي مفتاح لإعادة تكوين السلطة، وإذا كانت هذه الحكومة ليست آتية لتساهم في إعادة تكوين السلطة فليس لنا شأن بها، ولا فائدة ترتجى منها، وأول هدف أساسي من أهداف الثورة، هو قيام حكومة مهمتها المساهمة بإعادة تكوين السلطة، وكيف نقوم بإعادة تكوين السلطة؟

نقوم بإعادة تكوين السلطة عبر الانتخابات، فإذن عبر قانون انتخابي مناسب، وعبر انتخابات نزيهة، وإشراف نزيه ودولي على الانتخابات من أجل مجلس نيابي جديد، وبقيت مسألة، مرت في وسط حديثي هذا، ولم أركّز عليها، وهي مسألة: “كلن يعني كلن”.

لماذا؟ لأن أهمية هذه الثورة هي أنها قالت: “كلن”، فهؤلاء (السياسيون) هم جهة واحدة بإدارة أقواهم، فأقواهم هو من يُدير السلطة ويُحدد الخيارات ويحدد الحصص، ويصنع الأحجام.
والبعض من شباب الثورة يعتبر أن نجاح الثورة، يأتي من الحشد الكثيف في الشارع، وعندما خفّ الحشد في الشارع، سألني بعض شباب الثورة، “أين هي الثورة”؟ فأجبت وأكرّر الآن القول: إن الثورة هي موجودة في وعيك وليس في الشارع. الثورة هي بفهمك لهذه البنود الأربعة:

  • كلّن يعني كلن
  • الفساد جريمة.
  • نبذ العنف.
  • الخروج من عباءة الزعيم والذهاب إلى الدولة المدنية.
    هذه القيم التي تشكل قناعة لا يستطيع أمن السلطة انتزاعها من فكرك.

تنظيم الصفوف وحماية المكتسبات

هذه القيم، هي الوعي، وهي الثورة، وهي القيم التي علينا ترسيخها في عقولنا وقلوبنا ووجداننا، هذه القيم هي محرّكنا في الشارع للنهوض بالثورة، وربما يخف التحرك، لكن الثورة هي التي تبقى، وبالتالي فإن إنجاز أهداف الثورة متعلِّق بالإحتفاظ بهذا الوعي ونشره، حتى يصبح مزهراً و”متألقا”، وموجوداً في وجدان الناس، وعندما يسود في كل المناطق والمواقف، فإن الثورة، تكون عندئذ، ماضية في تقدُّمها، وهناك ملاحظة أخيرة: اليوم، تحاول كل أطراف السلطة استعادة مشهد، يقال عنه إنه “مشهد لمّ الشمل”.

أي العودة إلى مشهد ما قبل (17 تشرين)، على أساس أنهم يعتبرون أن هذه الثورة “هي غيمة صيف”، وذهبت، لكن هذا الأمر هو غير ممكن. لأن هذه الطبقة السياسية قد فقدت عناصر قوتها، فما هي عناصر قوة الرجل السياسي في لبنان؟ الزعيم السياسي في لبنان، يجب أن يكون له حصة في القرار السياسي، في قدرته على توزيع مغانم السلطة ووظائفها مواردها وجعالات الفساد والتربح من السلطة، (هذا في الداخل).
وفي نفس الوقت، فمن يريد أن يكون زعيماً سياسياً في لبنان، يجب أن يكون له “مربط فرس” في دولة خارجية، أو”مربط فرس” عند شخص ما، له علاقة بدولة خارجية.
يعني إما بشكل مباشر وإما بالواسطة، فهذا المربط الفرس، يؤمن للزعيم الدعم المالي والمادي لمؤسساته الاجتماعية والتربوية والرعائية. لكن هذه الطبقة السياسية فقدت ركني قوتها: فقدت “البقرة الحلوب” والتي اسمها موارد السلطة لبنان (أي الدولة اللبنانية) التي جفّ ضرعها، ويمكن قد يكون أصاب الضرع “التهاب”، وبالتالي فالقدرة على حلْب هذه البقرة، أصبحت قدرة غير جاهزة او قائمة.
وليس هذا فحسب. بل يضاف إليه، أن كل المكاسب، التي يمكن للطبقة السياسية أن توزعها على الزبائنية السياسية (على زبائنها وعلى محاسيبها) أصبحت بخسة. ولم يعد لها قيمة بعد الانهيار المالي والاقتصادي وتدني قيمة اجور الدولة.
أما ركن القوة الثاني، فإن الخارج، كل الخارج، لم يعد مهتماً بلبنان، لأن هذه الطبقة السياسية اصبحت متهمة قاصرة. وبالتالي فإن عناصر قوة هذه الطبقة السياسية أصبحت ضعيفة واهنة ولذلك يمكن إسقاطها.
ونحن علينا أن ننظم أمورنا، ونحافظ على وعينا وعلى القيم الجديدة التي أطلقتها الثورة: دولة مدنية، والخروج من الطائفية، ولو بحسب اتفاق الطائف، “ماشي الحال”، وبشكل متدرّج، ولا نريد أن نستعجل..

ونبذ العنف والخروج من عباءة الزعيم، إدانة “كلّن يعني كلّن”، إدانة الفساد كجريمة بحق الوطن والشعب. وتصدُّر الشباب والمرأة هذه الثورة.
بهذه الآلية، بهذه الدِّينامية، أعتقد أننا سننتصر ولا ينتظرن أحد أن “نربح” بسرعة، ربما سنة… أو سنتان… أو ثلاثة.

السابق
عدّاد الكورونا يرتفع في حاصبيا.. خالطا وافداً من قطر!
التالي
على وقع الغلاء الفاحش.. اليكم الطرقات المقطوعة!