«مقاوم» يتلو فعل «التحول» عن «حزب الله»..من ولاية الفقية إلى مظلة الثورة!

كان ذلك في مُسْتَهَلِّ بُلُوغي الحُلُم عام (١٩٨٩م) حينما التحقتُ في صفوف (حزب المقاومة) إِبَّانَ الاحتلال الإسرائيلي؛ فكان أول معسكر شاركتُ فيه برعاية (الحرس الثوري الإيراني).

كان ذلك منذ نعومة أظافري حينما سحرتني فكرة الثورة كأي شاب مراهق يبحث عن هدف ما يفرّغ فيه غضبه. وكان ذلك تحت مظلة لم أكن أفقه منها شيئا نظرا لقصر باعي وضيق أفقي وصغر سني، ألا وهي مظلة (ولاية الفقيه).

وأنا في هذه الأجواء النابضة بالثورة، لم تكن بُغْيَتي حينئذ – رغم نعومة أظافري – سوى أنْ أكونَ جنديًّا مُخْلِصًا أُشارك على قدر بَذْلِ يميني وبكلِّ المجالات، بانتزاع أراضي وطني التي أطبق عليها الكيان الصهيوني بأنيابه وبراثنه.

وَلِخُلُوْصِ نِيَّتي كفاني أَجْرُ ربي عن أَجْرِ عباده مقابل مشاركاتي سواء العسكرية المتواضعة والتربوية…

مهما يكن من شيء، فقد استمررتُ كواحد من أفراد (التعبئة التربوية والعسكرية) على قدر وسعي ووقتي آخِذًا باعتباري أنْ لا يتعارض كلُّ هذا مع دراستي المدرسية الأكاديمية.

وتمر السنون وأنا كُلِّي ثقةٌ بهذا الطريق؛ بحيث لا يصل جهابذة الفلسفة والسياسة إلى إقناعي بعدم صوابيّة عقيدتي في خيار (المقاومة).

اقرأ أيضاً: الشرنقة تُصنع من داخلها… ولو على طريق الحرير

وعلى هذا مضت سنة إثر سنة حتى جاء يوم التحرير في (أيار ٢٠٠٠م) . فشدَّني التفكير في دور (حزب المقاومة) بعد تحقُّق التحرير، وما هي رؤيته المستقبلية لوجوده، وبقيتُ اُراقِب عن بُعْدٍ ماذا هم فاعلون؟! إلى أنْ شعرتُ أنّ هذا الخطَّ بدأ ينغمس في دِمَنِ السياسة، ويتوه في دهاليزها، ويلفُّ في دوائرها؛ نظير أيِّ حزب آخر تربَّيْنا على انتقاده، وربما تخوينه، أو على الأقل وَضْعِه موضع الشبهة أو التهمة المُرِيْبَتَيْن.

فقد كانت مشاركة (حزب المقاومة) في المجلس النيابي، ومن ثَمَّ الحكومة، نقطة تحوُّل خضَّت عصب التوتر العالي في قعر دماغي؛ وذاك بسبب التهافت بين ما كان يُمْلى علينا من الباب العالي؛ فكان الفرمان الأول: “أما النيابة فَنَعَم، وأما الحكومة فلا”، ثم أجيزت الحكومة بفرمان لاحق. ولكني ظَلَلْتُ أتريَّثُ في الحُكم مُحْسِنًا الظنَّ حتى تنجلي الحقيقةُ كاملة؛ فإنّ سقوطَ هذا الخطِّ يعني سقوطًا لِقِوَامِ منهجيةٍ ضاربةٍ في أعماقنا، ومتجذِّرةٍ في عقولنا وقلوبنا؛ لذا وَجَبَ التَّأَنّي والحذر الشديدان.

حرب تموز

وعلى حين غِرَّة اندلعتْ حربُ تموز (٢٠٠٦م) لِتُعِيْدَ دَفْقَ نَزَقِ الثورة في عروقنا، إلى أنْ وضعتْ الحربُ أوزارها، وأرْخَتْ عن صَهْوَتِها كلاكِلَها، وشَرَعَتْ في نَفْضِ الغبار عن كَواهِلها. هنا دَقَّتْ ساعةُ مرحلةٍ سياسيةٍ جديدة بامتياز؛ تتمثّل بالاحتجاج على الحكومة اللبنانية التي كان يرأسها حينها (فؤاد السنيورة)؛ حيث اجتاح مؤيِّدوا المقاومة وحلفاؤها وسط بيروت لِيَنْصُبُوا فيه خِيَمَهُم قُبالةَ مبنى السراي الحكومي. وقد كنتُ – وبكلّ صِدْق – مثابِرًا على المشاركة وبشكل يومي.

وهكذا سقطتْ الموازينُ المبدئية؛ إذ لم نَعُدْ نُدْرِكُ مَوْطِنَ الحُسْنِ لنختارَه، وَمَوْطِنَ القُبْحِ لِنَتَجَنَّبَه؛ فتارة تقتضي المصلحةُ أن نَصْدَعَ بخيانة وعمالة الحزب الفلاني، وأخرى تقتضي المصلحةُ نفسُها التحالفَ معه

وعلى هذا الحال صمدتْ الخِيَم من تشرين (٢٠٠٦) إلى أيار (٢٠٠٨)؛ حين توافق الأفرقاءُ السياسيون على اتفاقية عُرِفَتْ بـ(اتفاقية الدَّوحة) التي لم تكن بنظري سوى إجهاض لثمانيةَ عَشَرَ شهرا من النضال الوطني، والإرادة الصلبة، والرغبة الصادقة في التغيير الجذري للحكومة الخائنة التي كشفتْ ظَهْرَ المقاومة في حرب تموز (على ما تناهى إلينا). ولكن ما هالني أنّ نوّاب (حزب المقاومة) أعادوا انتخاب رئيس الحكومة نفسه، ألا وهو (فؤاد السنيورة) وبالإجماع أيضا؛ حيث صَوَّت له كُلُّ النوَّاب المائة والثمانية والعشرين؛ فَحَقَّ على الحزب قوله تعالى: {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا}.

تَسَاءَلْتُ وَفَحَصْتُ وَمَحَّصْتُ ولكن دون جدوى؛ فثمَّة أجوبة  تقليدية حاضرة لمثل هذه المواقف غير المنطقية تُسَمَّى بـِ(الأجوبة الإسكاتية)، مثل: (مصلحة البلد تقتضي ذلك)، أو(رَضِيْنا بِأَهْوَنِ الشرَّيْنِ دَفْعًا لفتنة كبرى لا يحتملها البلد). أما أكثر الأجوبة غموضًا إلا أنه صالح لكل المواقف الشبيهة، هو: (الموضوع أخطر مما تتصوَّرون، المؤامرة كبيرة…).

وهكذا سقطتْ الموازينُ المبدئية؛ إذ لم نَعُدْ نُدْرِكُ مَوْطِنَ الحُسْنِ لنختارَه، وَمَوْطِنَ القُبْحِ لِنَتَجَنَّبَه؛ فتارة تقتضي المصلحةُ أن نَصْدَعَ بخيانة وعمالة الحزب الفلاني، وأخرى تقتضي المصلحةُ نفسُها التحالفَ معه! بل تارة تقتضي المصلحةُ التحالفَ معه في انتخابات نقابية ما، بينما تقتضي العكسَ في نقابة أخرى وفي آنٍ واحد! فماذا يبقى حينئذ من حُكْمِ العقل بعد أنْ جَرَّدْناهُ مِنْ صلاحيَّة إدراك الحُسْنِ والقُبْح؟!

وبناء على ذلك كله، لم أحْتَجْ بَعْدُ للتفكير مَلِيًّا؛ فإنّ (حزب المقاومة) الذي أعطيناه ثمرة طفولتنا ومراهقتنا وشبابنا دون أيِّ مقابل، صار مثيلا لباقي الأحزاب التي تشتغل بـ(فن الممكن).

ومن هنا، اشْرَأَبَّتْ عُنُقِي لاَعْتَنِقَ منهجًا لا لَبْسَ فيه، ولا شبهة، ولا مواربة، ولا كَيْلَ بِمِكْيَالَيْن، ألا وهو: (العَدْلُ بَيِّنٌ، والظُّلْمُ بَيِّنٌ، ولا يَقْبُحُ العَدْلُ ما دام عَدْلًا، ولا يَحْسُنُ الظُّلْمُ ما دام ظُلْمًا).

نعم، هو ذا منهجُ الربِّ عَيْنُهُ الذي اسْتَخْلفَنَا في الأرض لأَجْلِ إقامته وَوَضْعِ ميزانه السماوي العادل في كل شيء وفوق كل شيء؛ سياسيا كان أم عسكريا أم ثقافيا أم إعلاميا… وعلى هذا اسْتُشْهِدَ إمامنا الحسين الذي ما فتئنا نُحْيي ذكراه وسيرته كل عام للتأكيد على المنهج عينِه، وهو نُصْرَةِ المظلوم والوقوف في وجه الظالم حتى الرََّمقِ الأخير.

وهأنذا اليوم أقف على هذه السكّة التي اخترتُها بِمِلْءِ إرادتي، والتي كلّفتني الكثير الكثير من منافع الدنيا وزخارفها وزبارجها، ولكن عيني ما انفكّتْ تُحَقِّر مُتَع الدنيا الزائفة الزائلة في قبال قول كلمة الحق، ولا شيء سوى الحق.

اقرأ أيضاً: «حزب الله» هم «المترفون»؟!

إذا عرفتم ما تقدَّم، وآمنتم به وصدَّقتموني عليه، فَسَتَسْتَخْلِصُونَ مقامي في هذه الأيام الطَّخْياء العَمْياء، وهو أني – وبلا أدنى تردّد – مع ثورة الشعب (#ثورة_١٧تشرين)، وما زلتُ معها وسأبقى مقاومًا في قلبها ما دام فييَّ عِرْقٌ ينبض؛ فهذا ما تنتهي إليه القِيَمُ العليا لأيِّ دين وشريعة ومنهجٍ ينسجم مع نفسه بعيدا عن البراغماتية والميكافيلية الشيطانية وباقي أحابيل السياسة المقيتة، وهو أنّ رَفْضَ الظلم ونصرةَ المظلومين ليس لهما وجهان متعاندان؛ فمن قاوم غُزاةَ وطنه من خارجه، فالأولى به أنْ يقاوم غزاةَ وطنه من داخله، وهم أولئك الذين نهبوا ثروات البلاد، وَعَتَوْا في الأرض الفساد.

زبدة المخاض

أعترفُ أمامَ اللهِ الواحدِ العادلِ أني كنتُ إلى صفِّ (المقاومة) فيما مضى، وأني ما زلتُ على أُهْبَة الاستعداد لأُلقي بنفسي أمامها – فيما إذا تعيَّنَ عليَّ ذلك، كما فعلتُ في حرب (تموز ٢٠٠٦م) ودون إشارة من أحد – حتى يُظْهِرَ اللهُ الحقَّ أو أهْلَكَ دونه.

أما (حزب المقاومة)، فلا أُصَادِقُ على الكثير من خياراته السياسية التي لم تَعُدْ تُشْبِهُ أَصَالَتَهُ الأُولى، ولا تُنَاسِخُ جَوْهَرَهُ المُضَرَّجَ بدماء الشهداء الذين لم يبذلوا مُهَجَهُم لِيُدارُوا فاسدًا هنا، أو يَحْمُوا فاسدًا هناك. وإني آسِفٌ على ما آلَتْ إليهِ الأمورُ أَسَفَ مُحِبٍّ لا قالٍ، حَقَّتْ عليَّ الحُجَّةُ أنْ أقولَ ما أُبْرِئُ به ذِمَّتِي، ويكونَ حُجَّةً بيني وبين ربي إلى أنْ تُدْرِكُنِي مُنْيَتِي.

أما أنتم، فأسألُ اللهَ الواسعَ العليمَ أنْ تكونوا في ساحته وبين يديه معذورين، وإنْ أصْرَرْتُم أنْ تُصَنِّفُونا في خانَةِ المُعادين.
ولكن الحقَّ الحقَّ أقولُ لكم: إِنَّنا صادقون في غيرتنا عليكم، وخائفون من أن تخسروا ما تبقَّى بين أيديكم. والله على ما أقول شهيد. والسلام.

السابق
لقاء «تأسيسي» بين باسيل وبرّي.. والأخير يُعلّق: ما حدا يجرّب يفوت بيناتنا!
التالي
الكورونا يستشرش في لبنان.. 39 إصابة جديدة والمجموع على شفير الـ2000!