أية أهداف للإنتفاضة بعد 6 حزيران؟

الثورة اللبنانية

قبل تحرّك 6 حزيران كان واضحًا ان الإنتفاضة بحاجة الى استراتيجيا تحدّد فيها أهدافها ووسائلها. بعد 6 حزيران أصبحت هذه الإستراتيجيا شرطًا لبقاء الإنتفاضة على قيد الحياة.

تمحور الخلاف بين مجموعات الإنتفاضة حول الهدف الذي يجب ان تعمل من أجل تحقيقه في مرحلة إعادة النشاط الى الساحات بعد وباء الكورونا. وانقسمت المجموعات بين فريق يريد التركيز على أولوية الإنتخابات المبكرة وفريق آخر يفضّل العمل على إسقاط الحكومة وتأليف حكومة مستقلّة ذات صلاحيات إستثنائيّة، وفريق ثالث أقلّوي وغير محدّد الهوية بوضوح كان يدعو الى نزع سلاح “حزب الله”.

إقرأ أيضاً: الثورة 6/6.. والسلطة 6 و6 مكرر!

الفريقان الأول والثاني لا يختلفان على أهميّة المطلبين لكن الثاني يعتبر ان لا إمكان لتحقيق مطلب الإنتخابات المبكرة بما يخدم تمثيلاً جيّداً للإنتفاضة بدون حكومة مستقلّة تضع القانون الجديد وتشرف على الإنتخابات، وبدون فترة زمنية مقبولة تسمح لمجموعات الإنتفاضة بتنظيم نفسها.

أمّا الخلاف حول سلاح “حزب الله” فقد اتخذ بعدًا مذهبيًّا ضمنيًّا أو بعدًا عقائديًّا (“اليسار” ضد نزع السلاح و”اليمين” مع نزعه).

حقائق الممارسة التاريخيّة والخلاف الفكري الحالي على الأهداف

ليست هذه الإهداف الثلاثة منفصلة بعضها عن بعض وقد أشارت الممارسة التاريخيّة للإنتفاضة إلى انها غير متناقضة بل متكاملة.
الحقيقة التاريخية الثابتة هي ان الإنتفاضة وفي عز زخمها الشعبي ووحدتها، كانت متّفقة على المسار الآتي: إسقاط حكومة الحريري، تأليف حكومة مستقلّة ذات صلاحيات إستثنائية وإجراء انتخابات نيابية مبكرة.

قبل سقوط حكومة الحريري وبعد ايام قليلة من إنطلاق الإنتفاضة، جاء موقف “حزب الله” حاسمًا وقاطعًا: لا لإسقاط الحكومة، لا لإسقاط العهد، لا لإنتخابات نيابية مبكرة. وكان هذا الموقف على لسان السيد حسن نصر الله.

المعنى “العملي” لهذا الموقف هو ان “حزب الله” سيقف في وجه المسار الذي وضعته الإنتفاضة. كيف؟ ميدانيًّا، من خلال هجوم أتباع “الحزب” على المنتفضين في الساحات أو في الخيم. رمزيًّا، من خلال وعي المنتفضين ان متابعة المسار يعني الاصطدام بـ”حزب الله”، أي عمليا الاصطدام بسلاحه.

من أدخل مسألة سلاح “حزب الله” على مسار الإنتفاضة، هو موقف “حزب الله” نفسه، حيث لم يكن أحد من المنتفضين يضع على جدول أعماله هذا السلاح. وبدا سلاح “حزب الله”، في وعي المنتفضين، ولو بشكل غير معلن، العقبة أمام استكمال مسار الانتفاضة بعد سقوط حكومة الحريري.

فعدّلت الإنتفاضة من مسارها من دون ان تعلن عن ذلك صراحة. وتقاعست عن الضغط الجدّي على رئيس الجمهورية لتكليف رئيس حكومة مستقل ترضى عنه الإنتفاضة، ومن ثم تلكّأت في الضغط على حسان دياب لتأليف حكومة مستقلّين، تحت حجج مختلفة أبرزها إعطاء فرصة للحكومة الجديدة.

وراحت التحركات تتشتت، بعضها يضغط على المصارف وعلى مصرف لبنان، بعد حجز أموال المودعين، وبعضها الآخر يستكمل رفع شعار “كلن يعني كلن” من دون ضغط فعلي وموجّه. ترافق ذلك مع نقاشات حول أرجحية الإقتصادي والمالي (مصارف، مصرف لبنان) أو السياسي (السلطة القديمة أو الجديدة) في التسبب بالأزمة.

من الضروري الإشارة الى ان التراجع عن الضغط على رئاسة الجمهورية لم يكن فقط خوفًا من ردّ فعل “حزب الله”، بل ايضًا نتيجة موقف متحفّظ من بعض “مسيحيي” الإنتفاضة غير المحبذين لإسقاط رئيس الجمهورية الماروني.

بهذا المعنى، بعض الذين يريدون التركيز اليوم على مطلب نزع سلاح “حزب الله”، ساهموا في وقف المسار الذي كان سيؤدّي حكمًا الى طرح موضوع السلاح، في حال كان السلاح سيتصدّى لإسقاط رئيس الجمهورية.

عودة الى المسار الأصلي للإنتفاضة؟

موقف السلطة واعلامها كان شبه موحّد من تحرّك 6 حزيران: على المنتفضين ان يركّزوا على المطالب المعيشيّة.

ذكّرني موقف السلطة اللبنانيّة هذا بالموقف الأميركي- الإسرائيلي الذي تجلّى في “صفقة القرن”. فـ”الصفقة” تنظر الى الفلسطينيين كما تنظر السلطة اللبنانيّة الى اللبنانيين.

معادلة “صفقة القرن” هي الآتية: نأخذ منكم السيادة الوطنيّة ومقوّمات الدولة الفلسطينيّة المستقلّة وأمن الحدود والمطار والمرفأ اللذين سننشئهما لكم، ونسلخكم عن تاريخكم وعاصمتكم، لكننا في المقابل نقدّم لكم الأموال لإعادة إحياء إقتصادكم وإيجاد فرص عمل وتأمين معيشة مواطنيكم.

معادلة السلطة اللبنانيّة لا تختلف: لا تتعاطوا بموضوع الحدود والمطار والمرفأ، واقبلوا بسيادة وطنيّة منقوّصة، ولا تتدخلوا في عملية إتّخاذ القرارات في الدولة، ولا تسألوا إذا كانت ديموقراطيّة أو محاصصة لا أخلاقيّة أو يؤثّر فيها السلاح، ولا تتمسّكوا بالحريات وبثقافتها، لكن ركّزوا ايها اللبنانيون، على المطالب المعيشيّة والمصارف والإقتصاد، ونحن كفيلون بتأمين المال عبر التسوّل على أبواب الجهات الدوليّة في الغرب أو في الشرق.

بالنسبة إلى الاميركيين والاسرائيليين، لا وجود لـ”المواطن الفلسطيني”، وبالنسبة للسلطة اللبنانيّة لا وجود لـ”المواطن اللبناني”. الموجود فقط هو كائن حي، عليه ان يكتفي بالأكل والشرب والنوم، وبملاحقة الهمّ المعيشي طوال حياته.

الإنتفاضة لم تهمل يومًا الهمّ المعيشي والمطالب الإقتصادية، لكنها لا ترى إمكاناً لإيجاد حلول لها بدون تغيير في السلطة السياسية التي أوصلت البلد الى الإنهيار والتي تتخبّط اليوم، مبدية عجزاً كاملاً عن معالجة الأزمة.

لا أعتقد أن تنظيم تحرك في 14 حزيلران تحت شعار “أحد الثورة يسقط النظام الطائفي”، هو الرد المناسب على ما حصل في 6 حزيران. فهو كناية عن رد فعل على الرد المذهبي للسلطة، في حين ان الانتفاضة تحتاج الى استراتيجيا تعطيها افقاً، إضافة الى أن مطلب إسقاط النظام الطائفي غير عملي ويخلق إنقسامات في هذه المرحلة.

في إعتقادي ان المسار الذي حدّدته الإنتفاضة عند إنطلاقتها لا يزال صالحا والمطلوب إعادة مناقشته وتقييم محطاته. مطلب حكومة مستقلّة ذات صلاحيات إستثنائيّة تعالج من خلالها الأزمة المعيشيّة – الإقتصاديّة وتضع خريطة طريق لإنتخابات نيابيّة مبكرة، هو مطلب موضوعي ومنطقي ودستوري في ظل عجز الحكومة الحاليّة وتسارع وتيرة الإنهيار.

وقد أضيف الى عجز الحكومة وقوف رئيس الجمهورية سدّاً منيعاً امام محاولة مجلس القضاء الاعلى تأمين إستقلالية القضاء، من خلال ردّه للتشكيلات القضائية، وهذا ضرب مباشر لأحد ابرز مطالب الانتفاضة الذي هو شرط لأي إصلاح.

وإذا أدّى الضغط من أجل اسقاط الحكومة، ومن ثم على رئاسة الجمهورية لتكليف شخصية مستقلة، ولاحقًا على الرئيس الجديد المكلّف من أجل تأليف حكومة مستقلّة، الى تدخّل “حزب الله” لمنع تحقيق المطالب، يصبح مطلب معالجة مسألة سلاح “حزب الله” مشروعًا.

لكن هذه المعالجة للسلاح، التي تأتي في ظل ضغط اميركي متصاعد على إيران و”حزب الله”، يجب الاّ تُطرح في هذا السياق. أي ان على المطلب الاّ يستند الى القرار الدولي 1559، الذي يضع مسألة تطبيقه بيد الاميركيين، بل يجب ان ينطلق من الدستور اللبنانيّ ومن اتفاق الطائف، ومن الحرص على الحفاظ على القدرة على مواجهة اسرائيل، لكن في إطار استراتيجيا دفاعيّة، تقرّها الدولة وتنفّذها. كل ذلك من منظور الحرص على الديموقراطيّة والسلم الاهلي في البلاد بعيدًا من تأثيرات السلاح.

ان مسؤولية فتح الباب للتدخّل الأميركي عبر القرار 1559، لا تقع على الإنتفاضة بل على “حزب الله” والعهد العوني اللذين يمانعان حتى الآن مسألة إقرار الإستراتيجيا الدفاعيّة. وكأنهما قي العمق لا يباليان بالويلات التي تتراكم على رؤوسنا جرّاء الأزمة المالية والحصار الدولي.

السابق
حساب وهمي يُشعل الجبهة بين جعجع والحريري.. والأخير يردّ: بعدك ما بتعرفني!
التالي
حسين الجسمي ونانسي عجرم بين نيران الإشاعات