الحراك اللبناني: ثورة أم مجرد انتفاضة؟

الحراك في صور

يصعب إعطاء توصيف دقيق لما حصل في ساحات لبنان من تجمعات بشرية غير مسبوقة ابتداءً من 17 تشرين الاول 2019. والسبب في ذلك يعود الى ان تلك التجمعات تنوعّت في الشعارات المطلبية، وتفاوتت في النبرة، وتباينت في الأساليب. وكان من نتائج ذلك هو الاختلاف في آراء المحللين والإعلاميين والمراقبين في توصيف ما جرى: هل هو ثورة أم انتفاضة أم حراك احتجاجي؟ وما زاد الأمور تعقيداً ان هناك مَن حاول ان “يركب” موجة التظاهرات، او العمل على شرذمتها، او تصفية حسابات سياسية من خلالها.
سنحاول في هذه العجالة تقييم نتائج 17 تشرين الاول 2019 من خلال قراءة سياسية لأسبابه وظروف انطلاقته ونتائج سيرته حتى حينه.

في التوصيف:
أُطلِقت على التظاهرات المطلبية توصيفات عدّة من قِبل كتّاب ومحللين ووسائل إعلام. واندرجت هذه التوصيفات تحت ثلاث تسميات: احتجاج، انتفاضة، وثورة؛ ولكل من هذه التسميات مدلولاتها في علم الاجتماع السياسي، وهي مدلولات تعكس حالة الاختلاف بين المدارس الفكرية المنوط بها قراءة الاحداث من خلال تحديد الأفاهيم اللصيقة… السبيل الوحيد لوضوح رؤية المشهدية بشكل شامل.
لقد اجتهد الدكتور فارس إشتي في وضع التفاسير لكل حالة من الحالات على أساس المعايير الآتية: قهر وظلم واقع، جماعة مقهورة ومظلومة، استهداف لرفع الظلم والقهر، عمل لرفع الظلم بقوى وأساليب ووسائل محددة موجهة ضد القاهرين والظالمين. وتتباين كل من هذه المعايير في طبيعته وحدوده وعمقه1، وعليه:
الاحتجاج: ينطلق في الغالب ضد ظلم وقهر مباشرَين ومحسوسَين في قضية محددة؛ محصوراً بجماعة محددة ضمن منطقة محددة؛ قد يصل الى حدود الشغب؛ عفوياً وغير منظّم. اما الظالم فقد يكون رب عمل او صاحب موقع في السلطة او السلطة العامة نفسها.

اقرأ أيضاً: معادلة «التظاهرة بتظاهرة مضادة» تعود إلى الشارع اللبناني

الانتفاضة: تنطلق ايضاً ضد ظلم وقهر مباشرَين ومحسوسَين في قضية محددة؛ تنخرط فيها مجموعة من المظلومين والمقهورين؛ تنشأ عنها قيادة موحدة؛ تعتمد اسلوباً فجّاً وعنيفاً في بعض الاحيان؛ ويكون القاهر او الظالم المستعمر او السلطة العامة.
الثورة: تنطلق من عموم الشعب ضد الظلم والقهر الواقع في حقول السياسة والاقتصاد والاجتماع؛ تستهدف تغيير الوضع القائم (Status quo) بشكل جذري واستبداله بواقع اكثر عدلاً؛ لها قيادة معروفة؛ تعتمد اساليب عنفية متعددة ضد الظالمين من الحكّام.
يمكننا من خلال هذا التمييز في الحقل الدلالي ان نلحظ أوجه الشبه والاختلاف بين الاحتجاج، الانتفاضة، والثورة من خلال الجدول الآتي:

في أية خانة نضع ما جرى في 17 تشرين الاول 2019 في لبنان؟:
لا تتوافر فيه شروط الثورة لغياب القضية الواحدة والقيادة، ولغياب البرنامج الشامل، ولغياب النيّة بالخروج عن الأطر الشرعية.
2- لا تتوافر فيه شروط الانتفاضة لغياب القضية الواحدة ولضعف الاجماع الشعبي حوله.
3- الحراك هو الأقرب الى توصيفه. فشروط الاحتجاج متوافرة فيه من حيث رفض سياسات السلطة واعلان مبدأ الرفض، ومن حيث غياب البرنامج الشامل والقوة المنظمة القائدة. لكنه يختلف عن الاحتجاج من حيث انضواء سلّة من المطالب تحت عنوان رفض الحكام، وهي سلّة تراوح ما بين مطالب جزئية لقطاعات مختلفة يصلح كل منها ليكون موضوع احتجاج قطاعي، وبين مطلب اسقاط النظام من دون تحديد اي نظام، ويتدحرج بينهما نزع سلاح “حزب الله” عند البعض ومحاسبة الفاسدين من دون المساس ببنية الفساد.

بالنسبة إليّ، المصطلح الأفضل لتوصيف الحالة هو “هبّة لبنانية”، عفوية، متعددة المطلب، سلمية من دون قيادة، وفي بعض الاحيان غير مسؤولة. وبالإنكليزية الهبّة تعني Wind of change. نصوغ هذا للقول إن الهبّة اللبنانية تنوّعت في طبيعة المشاركين، كما تنوّعت مطالبهم بحسب تموضعهم المناطقي. وعليه، فقد لاحظنا ثلاثة انواع من الحراك:
الحراك مطلبي معيشي في طرابلس وبعلبك، وضد الفساد والطبقة الفاسدة في بيروت والنبطية وصور وصيدا وكفررمان.
الحراك في جبل لبنان: عكس الصراع السياسي بين “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية”، وتموضع بين البترون وكفرشيما.
صراع بين الولايات المتحدة الاميركية وحلفائها من جهة وجبهة المقاومة من جهة أخرى.
دخول لاحق لـ”تيار المستقبل” بعد استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري وسقوط التسوية الرئاسية.
في حيثيات الفشل ومعايير النجاح.

ما أضعف من زخم الهبَّة اللبنانية وحدَّ من تمددها وأعاق استمرارها يعود الى الأسباب الآتية:
طغيان شعار «كلن يعني كلن» الذي جهّل الفاسد الحقيقي الذي يجب محاسبته.
طغيان أسلوب قطع الطرقات الذي أغضب الأكثرية الساحقة من اللبنانيين.
دخول أحزاب طائفية شاركت بشكل او بآخر في السلطة منذ عام 1992، وحاولت ان تركب موجة الاحتجاجات: الحزب التقدمي الاشتراكي، حزب الكتائب اللبنانية، حزب “القوات اللبنانية”، و”تيار المستقبل”.
تغليب المنحى الشخصي في المطالب واستخدام تعابير منفّرة ومقزّزة.
لم تنجح قوى الحراك في توصيف حراكها وصوغ برنامج عمل له وبلورة اطارها التنظيمي.
الموبقات التي حصلت في وسط بيروت، وتحديداً في محيط المجلس النيابي، وما رافقها من اعتداء على الاملاك العامة.

من انجازات الحراك المبتورة نذكر:

نجحت في انخراط آلاف اللبنانيين في موجة الاحتجاجات، اذا اخذنا بعفويتها، ونجحت في اطلاقها واستمرارها.
نجحت في تكثيف النقاش السياسي والاقتصادي والمالي، إن في الخيم المقامة في الساحات، او عبر وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي… وهو نجاح اعاد الاعتبار الى السياسة لكنه اتسم بالتعبوية.
نجحت في اشراك واسع للمتضررين من سياسات الدولة العميقة، وفي استدراج قوى السلطة الى ساحاتها، فانبرى كل منها الى المشاركة الميدانية بشكل او بآخر الى درجة غدا الخصم شريكاً و”ضاعت الطاسة”.
نما الحراك بشكل سريع ولافت، آخذاً حيزاً بارزاً في الاعلام العالمي والعربي. وهذا ما ساعد على خلق مناخ دولي متعاطف مع حركة التغيير في لبنان. ولا بأس من التذكير بان الدعم الدولي للبنان كان دائماً مشروطاً بتغيير نهج الفساد السياسي على مستوى السلطة.
اعاد الى الرأي العام حضوره ومكانته، كما أعاد الى الشارع فعاليته، بحيث غدت الساحات مجالاً للتلاقي والتفاعل والحوار الديموقراطي.

قراءة في السياسة والدور

على رغم انجازاته المتواضعة، لا يمكن أحداً ان يتنكّر لرياح التغيير التي لفحت لبنان منذ 17 تشرين الاول 2019. يكفي ان نشير الى الجرأة (كسرهم لحاجز الخوف) التي تمتع بها المواطنون في التنديد بالسلطة العميقة التي تحكّمت بمفاصل السياسة اللبنانية منذ عام 1992، اي لحظة دخول الميليشيات الى الحكم. عمدت هذه الميليشيات الحاكمة، وبناء على تجربتها خلال الحرب العبثية، الى اقامة دويلات ضمن الدولة، فأنشأت «مؤسسات» وزعتها حصصاً في ما بينها، الى درجة بات التوظيف في كل مؤسسة حكراً على اناس ينتمون الى حزب مذهبي معيّن. وكان من نتائج ذلك ان تمذهبت المؤسسات العامة ما أنتج حالة من النهب المقونن، أي استشراء ظاهرة الفساد حتى اصبحت نمط حياة. هذا ما فعله اتفاق الطائف في انتاجه لنظام طائفي ومذهبي قوي في مقابل دولة ضعيفة افتقدت ادنى مستوى من آليات المساءلة والمحاسبة. وفي هذا الزمن لم يعد وجود الدولة مرتبطاً بشروط الشعب والأرض والسلطة، بل علينا ان نضيف مبدأ المال العام. وعندما يصل الدَّين العام الى 90 مليار دولار يعني ان الدولة لم تعد ذات سيادة.

في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين لم يعد بإمكان الفاسدين تغطية فسادهم وخداع الناس بعد انتشار المعرفة عبر وسائل التواصل الالكترونية الحديثة، كالفايسبوك والتويتر والانترنت. ويقول العميد الاستاذ طوني عطاالله في هذا السياق: “وكما انهى المدفع النظام الاقطاعي في القرون الوسطى، هكذا الانترنت تقوّض آخر حصون انظمة الحكم السلطوية. وما يحصل اليوم هو أمثولة بل درس قاسٍ يلقنه المجتمع اللبناني لكل سلطة تحاول تجاهل تعدديته وحريته العريقة، وينطوي على رد على محاولات وضع القيود على الحريات وتطويع الاعلام”…2.
ولا يمكننا التغاضي عن الدور المحوري الذي لعبه، ولم يزل، الاعلام اللبناني في تغطيته المباشرة لتطورات الرياح التغييرية. لقد اسمع الاعلام صوت المحتجين الى آذان عصابة الفساد التي نهبت الدولة وافقرت الناس عبر الحجز على ودائعهم في المصارف، بينما سمحت لأصحاب النفوذ بتهريب اموالهم الى الخارج. وعليه، فإن وسائل الاعلام ونقابتي المحامين في بيروت وطرابلس ساهمت في ادخال الطمأنينة الى نفوس المواطنين في مجال صون حرية التعبير وحماية حق التظاهر. فالدولة العميقة الفاسدة والمفسدة لا يمكنها ان تمنع التجمّع إلا في حدود ضمان أمن المواطنين.

وهنا لا بد من الاشارة الى الدور الريادي الذي اضطلع به الجيش اللبناني في حماية المتظاهرين ومنع العناصر المخربة من إحداث الشغب في وسط بيروت. فالعناصر المخربة أساءت الى حركة التغيير أكثر مما أساءت الى رموز السلطة. فالجيش الضنين بحماية حق التظاهر أظهر حرصاً أكثر ايضاً في حماية حق المواطنين في التنقّل بحرية. وهكذا بتنا امام مشهدين متناقضين: مشهد افتراش المواطنين الأرض لمنع القوى الامنية من فتح الطرقات الدولية، ومشهد التحام رائع حيث احتضن المواطنون الجيش بأبهى صور.

أخيراً، استعرت الرياح التغييرية بسبب حالة الارباك التي أصابت رموز الدولة العميقة. فرموز الفساد عملوا على تخويف الناس من خطرين:
خطر الانهيار الكبير بكل آلامه ومعاناته.
خطر المستقبل الغامض حيث الآتي اعظم بعد سقوط الهيكل على رؤوس الجميع.

لكن كل هذا التهويل لن ينجح في دفع الناس الى التمسك بجلاديها لأن بقاءها هو المجهول بحد ذاته والمصير القاتم المعلوم. والمضحك المبكي في آن هو ان تسمع احد رموز الفساد وهو يتهكّم على القوانين المرعية الاجراء التي تمنع محاكمة الفاسدين ومكافحة الفساد. هذا يعني العمل على محاسبة القانون كي نحاسب المسؤول، مما يؤدي عملياً الى تبرئته من سوء ادائه وتهرّبه من تحمّل المسؤولية وتلكؤه عن القيام بالمعالجات اللازمة. ولقد غاب عن بال الفاسدين الاغبياء ان لبنان ليس بحاجة الى قوانين جديدة، اذ تتوافر على مستوى الدولة مجموعة قوانين لمكافحة الفساد. فالاموال المنهوبة، مثلاً، يمكن استعادتها بموجب احكام قضائية لأنها ناتجة من جرائم ارتكبها مسؤولون شغلوا مناصب عامة بصورة دائمة او موقتة. فقانون الاثراء غير المشروع (18-4-1953)، على سبيل الدلالة لا الحصر، يعتبر اساسياً في مكافحة الفساد.

ماذا عن المستقبل؟

إننا نعوّل على حكومة الاختصاصيين التي يرأسها الدكتور حسان دياب كمرحلة انتقالية لا بدّ منها بين الواقع والمرتجى. فالمطلوب من الحكومة سلسلة اجراءات تعيد ثقة المواطن بدولته، وتعيد أيضا ثقة المجتمع الدولي بلبنان. الخوف الكبير هو أن يستمر الفاسدون في التذاكي في زمن الحروب السيبرانية، فيتخذون من الحكومة قناعا لسلطة خفية تتحكم بها قوى امر واقع تتخذ الدولة رهينة للحفاظ على سيطرتها وتوظيفها في خدمة مصالح اقليمية ودولية لا علاقة لها بلبنان وبالتغيير الديموقراطي المرجو.

يجب الاعتراف بان الهبَّة الشعبية لم تعدّل ميزان القوى في البلد لمصلحتها، ولا تزال في موقع الطرف الاضعف. فالفعل السياسي لا تستقيم معه الطروحات المطلقة والمطالب القصوى. وعليه، فإن الحالة التغييرية حتى تنجح تتطلب العمل بما يأتي:
تنقية جسدها من القوى الطائفية التي ركبت موجة التغيير للحفاظ على وجودها داخل النظام القائم، لا بل هي من اشرس القوى محافظةً على النظام الطائفي.
على قوى التغيير المدنية مراجعة ما جرى والعمل على وضع برنامج مرحلي للاصلاح بأهداف “متواضعة” تكسر بها الحلقة المفرغة التي يتخبط بها لبنان.
لا شك في أن الهبّة الشعبية انتجت دينامية سياسية قد تؤسس لحركة أوسع تؤجج الصراع الذي لا بد منه بين قوى التغيير المدني ورموز النظام الطائفي الفاسد.

انني على يقين بان الهبّة الشعبيّة سوف تنتج احزاباً وحركات وطنية عابرة للطوائف تكسر احتكار تمثيل اللبنانيين عموديّاً بالاحزاب الموجودة. فلا يمكننا الذهاب الى انتخابات نيابية مبكرة اذا لم تكن قوى التغيير جاهزة تنظيمياً لخوضها.
يتعيّن على الشباب والشابات الذين رفعوا الصوت عالياً لإسقاط النظام الطائفي الفاسد، ان ينتجوا خطاباً جديداً او لغة جديدة تحاكي اوجاع الناس وتحقق احلامهم في بناء دولة اكثر عدالة واكثر انسانية. وهذا لن يتحقق الا من خلال برنامج مرحلي شامل بقيادة حكيمة واسلوب سلمي. ويبقى قانون عصري للإنتخابات البرلمانية يعتمد القاعدة النسبية ولبنان دائرة انتخابية واحدة المدخل الحقيقي للإصلاح. من جهتي فإنني انتظر ثورة الجياع لقلب الطاولة على رؤوس الطبقة الفاسدة من سياسيين وغير سياسيين.
إن أيّة عملية اصلاحية في ظل وجود طبقة الفاسدين تبقى عملية تجميلية للنظام القائم تؤسس لحروب اهلية جديدة.

السابق
في صور: مغنية ضحية جديدة لبطش المصارف.. خسر والدته بعدما رفض المصرف اعطائه المال لعلاجها!
التالي
برجا تُصارع الكورونا.. 6 حالات جديدة مُثبتة!