الشخصية الشيعية العربية المعاصرة في مواجهة التعدين الإيراني لشيعة لبنان «المقاوم»

الحرس الثوري الايراني
نجح الايرانيون من خلال تجربة "حزب الله" في لبنان من إنتاج مجتمع روبوتات ناطقة مأدلج ومنظم ومن ضمن تطرف ديني ذكي، تمكن من "إبادة" كل التنظيمات اللبنانية اليسارية خلال 38 عاماً.

العلاقة بين شيعة لبنان وإيران قديمة جدا تمتد إلى القرن الخامس عشر ميلادي حينما نجحت الدولة الصفوية في تعزيز مراكز حكمها في الأقاليم الفارسية ذات الغالبية السنّية وإجبار سكانها على اعتناق المذهب الشيعي، الذي أضحى فيما بعد الدين الرسمي للبلاد.

عندها كان هناك حاجة ماسة لرفد المناطق المستسلمة للطغيان الصفوي المستجد بأئمة شيعة ينشرون التشيع في طول البلد وعرضها.

وبما أن حاضرة جبل عامل (جنوب لبنان) كانت في القرن الخامس والسادس عشر تزخر بكبار العلماء والمحققين الشيعة، كان من الطبيعي أن تقوم الدولة الصفوية بإغوائهم وجعلهم يهاجرون للعمل والإسترزاق فيها.

بقي علماء الدين الشيعة على تواصل مستمر مع ”أخوانهم“ الفرس، يروحون إلى إيران ويرجعون منها إلى بلدهم الأم تماما كما يحصل اليوم مع المغتربين اللبنانيين المنتشرين في بقاع الأرض، الذين يعملون ويكدون ويجتهدون في بلاد الغربة ليعودوا بعدها إلى موطنهم الأصلي يقضون ما تبقى لهم من سنوات مع أهلهم وربعهم ومن يحبهم ويحبون. وهناك المئات، أو حتى الآلاف، من الأشخاص الذين بقوا في تلك البقاع وانتشرت سلالاتهم فيها حتى أضحوا فرساً ولم يعد يربطهم ببلدهم الأم أي وثاق يذكر.

هذا ما حصل مع عائلة الإمام موسى الصدر الذي هاجر أحد أجداده إلى إيران من عشرات السنين وبقي فيها حيث أنجب سلالة كبيرة عدد كبير منها أفرادها إتجه إلى العمل في حقل الدين والتدريس وتجارة التنباك والسجّاد.

إذن، نستطيع الجزم بأن العلاقة بين شيعة إيران وشيعة لبنان هي علاقة وثيقة ومتينة وقديمة جدا، عمادها رجال الدين الكبار ممن كان لهم صولات وجولات في المدن الشيعية المقدسة كقم وأصفهان ومشهد والريّ وتبريز وغيرها حيث تنتشر العتبات الشيعية المقدسة والشهيرة.

وأن تلك الكوكبة من رجال الدين الشيعة كان لهم إمتداداتهم العائلية داخل مدينتي قمّ والنجف الشيعيتين حيث كان أولادهم وأقاربهم وأصدقائهم يدرسون ويعملون بجدّ واجتهاد.

وهذا كله كان عاملا مسهّلا لانتشار الفكر الخميني حتى قبل نجاح الثورة الإسلامية في إيران، وبخاصة بين أوساط المتدينين الشيعة المتزمتين في كل من العراق ولبنان حيث التواجد الكثيف للحوزات والحلقات والمدارس الدينية الإثنا عشرية.

فلما بانت بشائر النصر الخميني كانت الساحة الدينية الشيعية جاهزة لتلقف تلك الظاهرة الثورية بكل المعايير ورفدها بالعنصر الشيعي، المأوزم تاريخيا، والمستضعف من قبل الأنظمة العربية الحاكمة في حينها.

بلدة الشرقية

الشرقية بلدة معروفة في الجنوب اللبناني على أنها معقل آل شعيب؛ العائلة التي تشكل أكثر من ثلثي عدد السكان القاطنين فيها، والذين يقدّرون بحوالي ال3000 نسمة يتوزعون على مساحة الخريطة اللبنانية. وكغيرها من القرى اللبنانية، عدد كبير من عوائلها يقيم في صيدا وبيروت والضاحية الجنوبية.

كانت الأحزاب الرئيسية الموجودة بشكل فاعل في الشرقية، قبل وخلال الحرب الأهلية اللبنانية، تتمثل في التيار الأسعدي والحزبين الشيوعي والبعث (فرع العراق).

أما الأخير فقد كان ثلاثة من أهم قيادييه في لبنان من أهل البلدة ويتمتعون بمحبة وثقة الأهالي، ولا زالت وجوههم مرسومة في مخيال أغلب أهالي الشرقية، وقرى الجنوب للدور الإيجابي الكبير الذي لعبوه في نشر الثقافة والوعي في أرجاء البلدة، وأيضا على صعيد النضال الملتزم في منطقة النبطية والجنوب اللبناني بشكل عام.

شخصيات جنوبية مؤسسة للبعث العراقي

ومن المهم هنا ذكر حقيقة أن أحد الأعضاء الأوائل المؤسسين لحزب البعث العربي الإشتراكي كان من أبناء البلدة. وهناك طبعا الشخصية البعثية الفذة المعروفة على صعيد الوطن، والتي تبوأت عضوية القيادة القطرية لحزب البعث وكانت من أبرز الوجوه الأدبية في لبنان.

هذه الشخصية الجميلة والتي غنى من قصائدها مارسيل خليفة ”مررت أمس على الديار“ و“هيفاء تنتظر الباص على مفرق تل الزعتر“، وعُرفت لاحقا تلك الشخصية المميزة بالشاعر الذي ”قتلته قصيدته: أسرج خيولك إن الروم تقترب“، التي قرأها على مسمع صدام حسين في بغداد في العام 1980 وتم اغتياله بعدها بأيام معدودة من عودته من العراق إلى لبنان علي يد من أصبحوا اليوم مسؤولون كبار في “حزب الله”.

لا أريد هنا أن أذكر أي من الأسماء إحتراما لذكرى هذه الشخصيات الرائعة، ولعوائلهم الذين تحملوا ما لا يطاق بسبب مواقفهم الوطنية الخالصة، مع العلم أن بعض أقارب هؤلاء قد انجرف إلى الفكر الديني المتطرف الذي كان السبب الرئيسي في قتل أخيهم أوإبن عمهم.

كان أيضا للحزب الشيوعي قاعدة لا يستهان بها في بلدة الشرقية، تمثلت في وجود كوادرمهمة أوصلت أحد أبناء القرية، ممن نحب ونجّل ونحترم، إلى عضوية المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني.

كما أنني لا أستطيع أن أغفل، في هذه العجالة، ذكر إبن العم الحبيب المعروف على مساحة الوطن، قائد عملية ”بنك أف أميركا“، والذي غنّاه مارسيل خليفة في قصيدة عباس بيضون الشهيرة التي تُعرف، استحبابا، بـ”يا علي”.

وهناك الكثيرون من أبناء القرية الأبطال ممن يستحق ذكرهم، وأحدهم من المقاومين الحرّين الأوائل الذي سقط في عملية جهادية للمقاومة الإسلامية حينها، وكان مقربا جدا من الأمين العام السابق لحزب الله المرحوم عباس الموسوي الذي اغتالته آلة القتل الصهيونية بعيد مغادرته بلدة الشرقية حيث كان في زيارة مواساة لعائلة الشهيد الشعيبي المجاهد. وبالطبع لن نغفل ذكر شاعرنا الزجلي الكبير، حبيبنا أبوعلي زين شعيب، الذي هو أيضا قيمة وطنية كبيرة.

إذن، لدينا هنا قرية، كباقي قرى الجنوب، تتكىء على إرث ثقافي ونضالي وحزبي كبير، كانت لفترة طويلة مثقلة بالهموم الوطنية والعربية، أنجبت الفطاحل في مجالات عدة، وتبوأت مركزا مميزا في الحركة السياسية والأدبية والإجتماعية في الجنوب اللبناني، وصولا إلى باقي البلاد العربية.

كان للشرقية أيضا نادٍ ثقافي إجتماعي مهم، ومكتبة تابعة له، وحسينية كانت مركزا للأحزاب اليسارية ونشاطاتها السياسية والثقافية.

وكان في القرية نشاطات أهلية وتدريبية دورية، وكان لديها مستوصفا صحيا يعمل فيه أطباء وممرضون متطوعون، العديد منهم التحق بعدها بمستشفى النجدة الشعبية في النبطية.

الصناعة الإيرانية المهمة للمجتمعات مقتبسة من التجربة النازية وطائفة الحشاشين وقلعة الموت ومفادها أن التطرف الديني الذكي والمبرمج بشكل جيد قادر على التصنيع البشري

كانت الشرقية من منتصف الستينات حتى بداية الثمانينات خلية نحل لا تهدأ، حيث تعيش القوى السياسية فيها بكل محبة واحترام لخصوصية كل طرف منها.

وكانت العوائل ضمن العائلة الشعيبية الكبيرة منقسمة حسب أهوائها السياسية، لكنها كانت دائما مجتمعة ومتضامنة في المناسبات الإجتماعية، والحفلات، والمنتديات التي كان يقيمها نادي الشرقية الثقافي، جامعا فيها كل ألوان الطيف الشرقاوي.

وجوه غريبة

بدأت التحولات السياسية والإجتماعية والدينية تلفح بلدة الشرقية بعيد الإجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، وتظّهرت بشكل أوضح في بداية العام 1983 حين بدأنا، كصبية نجتمع في الليل للتسامر والمرح، نرى تحركات غريبة داخل القرية، وفي أزقتها الصغيرة لم نكن نعهدها من قبل.

بدأنا نلاحظ تواجد وجوه غريبة عن قريتنا، تأتي في الليل وتجوب الأزقة الضيقة، يتم استضافتها في بيوت بعض ”المهمشين“ في القرية، لتعود وتختفي صباحا.

أولئك المهمشون كانوا من النوع الذي يرتاد المساجد بشكل روتيني ولا يختلط كثيرا مع أحد، ولذلك كان يتم التعاطي معهم على أنهم من خارج التركيبة المجتمعية للبلدة الغارقة في الحركة اليسارية والتيار الأسعدي الموجود، تاريخيا، بقوة في القرية، والذي كان والد صاحب هذا المقال أحد أعمدته.

كان هؤلاء الغرباء، ومعهم بعض الأهالي، يذهبون بعد صلاة المغرب مباشرة لقضاء الليل مع إمام القرية.

لم نكن نعرف حينها ما كان يفعله هؤلاء لساعات طويلة مع إمام القرية والمقربين جدا منه.

لكن إتضح لاحقا أنها لم تكن أبدا أمسيات بريئة. كان هناك عدة أئمة معروفون على مستوى الجنوب ولبنان عاشوا لفترات طويلة نسبيا في الشرقية، حيث أقاموا في المنزل المتواضع المخصص لرجل الدين، الموجود على أحد أطراف القرية، والقريب من جبّانتها.

مثلا، كان المرحوم راغب حرب أحد هؤلاء، وهو كان محبوبا جدا لدى الصغير والكبير، ولعب دورا مركزيا في الأدلجة الدينية لعدد من شبّان القرية الذين أصبحوا فيما بعد كوادر مهمة في “حزب الله”.

شيخ آخر من آل كوراني، والذي اصبح فيما بعد أحد أهم وجوه “حزب الله” في لبنان، كان أيضا إماما للقرية ممن حامت حوله الشبهات، وتعرض لمضايقات من بعض شباب القرية اليساريين الذين اعتبروا أنه كان يتخطى دور الواعظ الديني ويتدخل في (المحظور) السياسة.

مع الوقت، بدأت أعداد الوجوه الغريبة عن القرية بالتزايد، ومعها بدأنا نشاهد عدد من الفتيات والنساء يعتمرن التشادور الإيراني خلال تنقلهن في القرية. كان هذا الشيء بالنسبة لنا غريب جدا، وبعيد عن تقاليد القرية والعائلة. إلا أن الملاحظ حينها أن معظم هؤلاء كانوا من خارج العائلة.

التناقضات العائلية

وقتئذ، لعب “حزب الله” على التناقضات العوائلية الموجودة في قرى الجنوب، حيث نجح في استقطاب الطبقة المهمشة وأفراد العوائل الصغيرة في تلك البلدات ممن كان يذوق مرارة العيش وسط عائلة كبيرة تتحكم بمفاصل القرار في القرية، وتعتبر أفراد العوائل الأخرى أقل شأنا وأهمية.

في بادىء الأمر، لم نعط تلك التغيرات الكثير من الإهتمام، حتى بدأنا نلاحظ أن عدد لا بأس به من أقربائنا وأصدقائنا راحوا يطلقون ذقون عرمرمية، ويتحدثون معنا بخطاب وعبارات دينية لم نكن نسمعها من قبل. مثلا، صار “السلام عليكم” تحيتهم الوحيدة والمفضلة.

بمعنى أنهم ينتظرون منك أن ترّد عليهم ب”وعليكم السلام” (وهذا بالمناسبة شيء لم أفعله في حياتي لدواعي مبدئية، وفي كل مرة “يشلخني” أحدهم بتلك العبارة أرد عليه بالمرحبا وأهلا وسهلا).

كما صار ارتياد مسجدَي القرية يزداد مع الوقت، ومعه تزداد الشعارات والترديدات والمناسبات الدينية الجديدة، مثل عيد ميلاد هذا الإمام وذاك، وذكرى استشهاد فلان وعلان من الإئمة والشخصيات التاريخية التي، وبكل صراحة وتجرد، لم نكن نسمع بها من قبل.

إخراج كامل الاسعد من المعادلة

إذن، بدأ ذلك التحول الثقافي في بلدتنا يزداد باضطراد بعد العام 1983، ومعه بدأت عملية انحسار دور الإحزاب اليسارية وانفراط عقد التيار الأسعدي، خاصة بعد أن رفض الرئيس كامل الأسعد الدخول في تسوية مع النظام السوري – كانت قد عُرضت عليه في زيارة له إلى دمشق تقضي بالإعتراف الواضح والصريح بأهمية الوجود السوري في لبنان، وبأن يكون هو أحد قيادات المصفقين والمستزلمين – ترجمت لاحقا في انتخاب حسين الحسيني رئيسا للمجلس النيابي طبقا للإرادة السورية، وإسقاط 17 أيار، وخروج الأسعد من الندوة البرلمانية وانكفائه الشبه كامل عن الحياة السياسية.

هنا، بدأت طلائع “حزب الله” في التواجد العلني في القرى والمدن ذات الغالبية الشيعية. ومع تلك الطلائع، بدأت صحيفة ”العهد“ بالإنتشار بين العامة على حساب جريدة ”النداء“ الشيوعية، وراحت المساجد والحسينيات تزدان بصور الخميني وموسى الصدر. وهذا الإخير لم يكن له أي تواجد يذكر في قريتنا، لا على المستوى الفكري ولا السياسي أو التنظيمي.

تصفية الحزب الشيوعي

هذا التمدد السريع لأصحاب الذقون والأكمام الطويلة والسلام عليكم أتى على حساب شعبية وسلطة الحزب الشيوعي اللبناني في القرى المعروفة بقوة اليسار فيها، مثل أنصار وكفررمان وكفرتبنيت ودير الزهراني، وغيرها من القرى الكبيرة في منطقة النبطية.

بعد ذلك، صدر القرار السوري-الإيراني بتصفية الحزب الشيوعي اللبناني على يد حركة أمل، بينما كان يعمل حزب الله بشكل حثيث على التعبئة الشاملة وتثبيت قواعده في قرى ودساكر ومدن الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية.

كانت تلك القواعد عبارة عن إنشاء مجموعات داخل القرى يتولى الإمام فيها دور التعبئة الدينية والأدلجة على الطريقة الإيرانية.

فأنشأت الحوزات الدينية في القرى التي سيطر عليها حزب الله بشكل كامل. وكان هناك حاجة ماسة لإنتاج سريع لرجال دين معممين.

فكان لهم ذلك عبر استحداث ”ميني حوزات“ في بعض المدن والقرى نجحت في تخريج ”فروخ رجال دين“ لديهم الحد الأدنى من المعرفة الشرعية، كان ولاءهم الأول والأخير للجمهورية الإسلامية الإيرانية وولي الفقيه.

كانت تلك الحوزات ناشطة جدا وساعدت بشكل فعّال في صناعة الشخصية الحزبإلهية الحالية من حيث الأدلجة الكاملة للشخصية الشيعية، وخلق هندام شيعي شبه موحد، وشعائر ورموز ومرويات شيعية يغلب عليها التقديس والغرق في الماورائيات والمتخيلات.

كان للشرقية حصة الأسد في الحوزات الدينية حيث أنشىء فيها ثلاث حوزات ساهمت في نشر الفكر الديني الفاشي في المنطقة، وفي تصنيع وتعدين رجال دين حديديين قاموا بتوزيعهم على قرى محددة حسب الحاجة والخطط الموضوعة مسبقا من قبل الحرس الثوري الإيراني. كما قام حزب الله بإنشاء مدرسة خاصة به في الشرقية تحت مسمى ”مدارس المهدي“.

“دجاج بشري”

لم تكن تلك المدارس أكثر من مصانع لتفريخ دجاج بشري زراعي لا يعرف من هذا العالم الرحب غير الشخصيات الدينية التي تم دمغها في عقولهم الصغيرة، وحتمية الشهادة والحراب المستمر في سبيل إعلاء ”راية الحق“ (راية أهل البيت) في أرجاء المعمورة.

كان لهذا التنظيم الغارق في المنهجية والأيدولوجيا الإيرانية الدور الأكبر في إعادة صقل الشخصية الشيعية التقليدية، وإنتاج جيل جديد من الشباب لا يعرف غير الصلاة ومجالس التعزية، والمرويات والمورثات الفارسية الصنع، والتدريب العسكري وتنفيذ الأوامر والتقيد بضوابط إجتماعية ودينية تم برمجتها وضبطها على المنهج والتوقيت الإيرانيين.

لم يمض وقت طويل على تصفية الشيوعيين والبعثيين في الجنوب اللبناني وضاحية بيروت الجنوبية وبعض المناطق في بيروت حتى وقعت الواقعة بين حركة أمل -التي كانت قد تولت ”تنظيف“ الجنوب من الشيوعيين بأوامر سورية صدرت لنبيه بري مباشرة- وحزب الله الذي كان قد أنشأ قواعد له في عقر دار الحركة التي كان قد انبثق عنها في فترة سابقة.

معارك “امل” و”حزب الله”

دخل الشيعة في معارك دموية ومجازر داخل البيت الواحد يندى لها الجبين (حصل أفظعها في إقليم التفاح – وقرية كفرملكي بالتحديد)، حيث قتل الأخ أخاه، لينجح فيها حزب الله من حسم المعركة وتثبيت وضعه كقوة شيعية عظمى مدعومة بشكل مطلق من نظام الملالي والحرس الثوري الإيراني.

كان الشيخ حسن نصرالله وقتئذ المسؤول العسكري لحزب الله في الضاحية. وكان لديه أخ مشاكس لقبه ”جهاد الحسيني“، وهو كان من كبار قادة حركة أمل في الضاحية الجنوبية.

وحصل في إحدى المعارك الطاحنة في الضاحية أن نجحت قوات حزب الله في تطويق بناية كان قد لجأ إليها أخ حسن نصرالله، جهاد الحسيني.

تصوروا ذلك المشهد السوريالي الذي يعبر بحق عن الشخصية الفاشية الحديدية التي نجح في صناعتها وبرمجتها ورثة السافاك الإيراني.

هناك أخ لنصرالله محاصر في مبنى في الضاحية الجنوبية، وهو (حسن نصرالله) المسؤول العسكري لحزب الله في تلك المنطقة المشرف على عمليات الحزب في الضاحية.

يصل خبر عبر جهاز اللاسلكي إلى غرفة العمليات التي يتولى إدارتها حسن نصرالله بأن أخاه محاصر في ذلك المبنى.

سرعان ما أتت أوامر حسن نصرالله الحاسمة إلى القوة المحاصرة للمبنى بأن يفجروه بمن فيه. لم يتفاجأ قائد المجموعة التي حاصرت ذلك المبنى من قرار نصرالله العنيف لأنه كان يعرف مسبقا شخصية قائده وسرعة وحجم قراراته.

هذه هي الشخصية الشيعية المستجدة التي دخلت الواقع الشيعي بقوة بدعم غير متناه من إيران وسوريا.

ولا زال هذا الدعم المادي والسياسي واللوجستي والأمني والإستخباراتي والثقافي والإجتماعي، إلخ قائما حتى يومنا هذا.

زد على ذلك التراكم الكميّ والنوعي للتجارب والخبرات السياسية والأمنية والعسكرية التي تأتت من المعارك الكبيرة التي خاضتها تلك الكتلة الإيرانية المتراصة مع ”أعداء“ الداخل والخارج، أكان مع الإسرائيلي أو السوري أو العراقي أو اليمني أو البحراني أو حتى البوسني والله وحده يعلم البلاد الأخرى التي يتواجد فيها حزب الله وفيلق القدس.

إذن، هي 38 عاما بالتمام والكمال تمكن عبرها المستثمر الإيراني من إنتاج أجيال من الإرهابيين والقتلة الفاشيين القادرين على خوض حروب قاسية غب الطلب، بأوامر محددة مسبقا من المرشد وممثليه الرسميين.

روبوتات ناطقة

لكن الأهم من كل ذلك الشخصية الشيعية المأدلجة حتى العظم التي نجح الإيرانيون نجاحا منقطع النظير في إنتاجها وبرمجتها لتصبح روبوتات ناطقة تتصرف طبقا للخوارزميات التي دمغوها في عقول الناشئة، والتي تم برمجتها لتعتبر مثلا ”صرماية السيد“ أهم بمليون مرة من أهلها وشعبها ووطنها ومستقبلها.

وحتى يكون هناك إستدامة للإنتاج البشري هذا، كان لا بد من خلق مجتمعات محلية في المدن والقرى التي تسيطر عليها إيران تتلقف تلك الروبوتات وتقوم بصيانتها وتلميعها بشكل جيد ووضعها في مصاف المقدسات.

فإن هي تلفت (“إستشهدت“) تقوم تلك المجتمعات بالإحتفال بذلك التلف و“إعادة تدويره“ بشكل من الأشكال عبر وضع صوره على الطرقات وفي الساحات والإحتفاء بتلك النماذج في كل مناسبة واستعمالها بشتى الطرق لتحفيز الأجيال القادمة على الإقتداء بها.

مجتمعات محلية مأدلجة دينيا

لقد أثبتت هذه الصناعة الإيرانية المهمة – المقتبسة بشكل كبير من التجربة النازية -وربما قبلها من طائفة الحشاشين وقلعة الموت – أن التطرف الديني، الذكي والمبرمج بشكل جيد، قادر على التصنيع البشري وخلق الأرضية اللازمة لتلك الصناعة لكي تنمو وتزدهر. ويكون ذلك عبر إنشاء مجتمعات محلية مأدلجة دينيا ومبرمجة هي أيضا بحيث تتحول إلى عنابر وهنغارات صناعية كبيرة قادرة على إستيعاب تلك الروبوتات ودوام سيرورتها ونجاحها في تحقيق ما يطلب منها.

لكن هناك سؤال كبير يبدو أن الإجابة عليه ضرب من ضروب المستحيل في وقتنا الحاضر: كيف لتلك الأوطان، التي ضربها ذلك الطاعون الديني المذهبي بإمتياز، أن تنجح في تفكيك تلك المنشئات الإرهابية الضخمة التي تقف حائلا في وجه وحدتها الوطنية وتقدمها الإقتصادي والعمراني ورقيّها وصيانة وحدتها الداخلية؟

السابق
حزب الله «يُشرّع» الحدود أمام مقاتليه ومهربيه..و«العزل المفتوح» يُمدد «التعبئة»!
التالي
هل صحيح أن «كوفيد 19» أقل فتكاً من الأنفلونزا الموسمية؟