لا دروس من الفيروس… الدول تتصارع ولا تتعاون

فيروس كورونا
ما يصيب الفرد حيال وباء "كورونا" من خوف وحذر، يصيب الحكومات في محاولتها فكّ الحظر وفتح الأسواق. مقلق جداً أن الفيروس لم يوحدّ العالم، بل أفضى الى حرب "باردة" أميركية -صينية.

ما لم يتعلّمه الحكام، ما لم يعترفوا به، في مواجهة الاجتياح الفيروسي، يضطرون للتعامل معه الآن في ما يُعتبر “ما بعد الوباء”. وقبل أن يُصنع اللقاح المناسب ويعمّ المعمورة لن يكون هناك “ما بعد”. سيبقى التهديد ماثلاً. تحاول حكومات الدول الأكثر تأثراً بالوباء تنظيم التعايش القسري مع الفيروس مجتهدةً الى أقصى حدّ في وضع القواعد والضوابط، فقبل كل شيء وبعده لا يمكن أن يبقى الناس، أن يبقى الاقتصاد، في الحجْر. لكن الاختصاصيين المخطّطين لهذا “التعايش” يرتعدون خوفاً في مكاتبهم، لأن ثمة مجازفة في إعادة الناس الى أعمالهم، بل أن المجازفة صارت مخاطرة كبرى يجب أن يتحمّل الأهل جزءاً منها في التحضير لإعادة التلاميذ الى مدارسهم. مهما بلغت الجهود لتعميم التعقيم، تبقى الأسئلة كيف سيجلسون في صفوفهم، كيف سيتباعدون في الملاعب والباصات، كيف سيتعلّمون، هل يبقى للمدرسة معنى؟ ثمة مهمات كثيرة تُرك للمعلمين والمعلمات حُسن تدبيرها. لكن إلامَ؟
الى حدٍّ كبير بدا الإقناع بلزوم البيوت صعباً. استلزم استخدام كل الوسائل لإبلاغ كل شخص بأن وجوده في الخارج خطرٌ عليه وعلى الآخرين. استلزم تعبئة عامة وحال طوارئ وحظر تجوّل وقيوداً صارمة ولجوءاً الى الشرطة وأحياناً الى الجيش… أكثر صعوبة تبدو الآن محاولة العودة الى حياة طبيعية لا شيء طبيعياً فيها. سيكون اختباراً مزعجاً ولن يخفّف من ازعاجه سوى الاعتياد على قيوده: كمّامات، قفّازات، معقّمات، تباعد، لا ثقة في الآخر، لا ثقة في نادل المقهى أو المطعم، ولا في “حمولة” الطاولات والأكواب والصحون وسائر الأدوات… فالفيروس قد يكون هنا، في كل مكان، وليس معروفاً كيف يتنقّل ويتغلغل. حياة شبه عادية، نعم، فهذا كلّ ما يمكن توفيره موقّتاً. سيصبح أمراً مألوفاً سماع أخبار “إصابات جديدة” ربما ارتكب أصحابها أخطاء في المحاذير، سيكون صدفة أو أعجوبة أن لا يكون واحدنا بين المصابين. الجميع مدعوون الى خوض المخاطرة التي لا بدّ منها.
هذا ما حلّ بالحياة، وتتعذّر الإحاطة بالتفاصيل المتغيّرة على نحوٍ إرادي/ لا إرادي، فالمقلق أن الواحد لا يستطيع أن يسمح لمرضٍ أن يلمّ به مهما كان بسيطاً، لأن وقتاً سيمضي قبل أن تستعيد الخدمات الطبّية مسارها. لكن الأكثر هولاً ما حلّ بالموت، الموت نفسه، في سياق هذا الوباء. كأنه فقد معناه. كأن الشخص يرحل، يمّحي، ولا يموت. نعرف كيف سلّمت عائلات مريضها للمعالجة، ولأيام وأسابيع لا يبلغها عن أحواله إلا النذر المقتضب الذي يقال لها بالهاتف، والأشد إيلاماً أن يأتي الخبر السيّء وأن يُدفن الراحل من دون وداع ولا تعزية. كان ممضّاً سماع شهادات أولئك، في اسبانيا وايطاليا ونيويورك، الذين علموا لاحقاً أن فقيدهم أمضى زمناً في كيس أسود في شاحنة مبرّدة قبل أن يوارى. في الحروب حتى القذرة منها يبقى ثمة معنى للموت، أما في هذه فلم يبقَ منه سوى قدريّته الطائشة، المُسَخَّفة.
في غضون الأسبوعين الأخيرين أصبحت الإصابات أربعة ملايين والوفيات أربعمئة ألف، بزيادة مليون للأولى ومئة ألف للثانية، ولا تزال منظمة الصحة العالمية تحذّر من الأسوأ. الباحثون في المختبرات يحرزون تقدّماً لكنهم يقولون إن التوصّل الى اللقاح يحتاج الى عنصر حيوي: مصدر الفيروس. المصدر؟ المنشأ؟ ذاك هو سؤال التريليون دولار. وحده دونالد ترامب وجد الجواب: إنها الصين. ولا علاقة لهذا الجواب بعلم ولا حتى بسياسة أو بمعلومات الاستخبارية وب، “أدلّة مهمّة” أشار إليها مايك بومبيو مصطنعاً الفوازير لدعم رئيسه: ترامب لا يكترث بالمتوفين والمصابين بل يبحث عن أي سبيل لانتزاع أموالٍ هنا أو هناك. يتطلّع الى تعويض خسائر منتجي النفط الاميركي من دول “أوبك” ولا سيما السعودية، لذا يحرّك بطاريات صواريخ “باتريوت” للتلاعب بمسألتي الدفاع والحماية وكأنه نشرها مجاناً. ينسى الاتفاق التجاري الذي وقّعه مع الصين أوائل السنة ثم يتذكره بحسب مزاجه المتقلّب، فهو يريد ابتزاز بكين لتساهم في تخفيف خسائر الاقتصاد الأميركي. ليس مستبعداً أن تعمل بكين على ارضائه لتستعين به في التشويش على المطالبات بتحقيق دولي في تفشّي وباء “كوفيد 19”.
لا شك أن الصين هي منشأ الفيروس، وإذا لم تكن قد صدّرته عمداً أو أطلقته كسلاح بيولوجي فلماذا تتكتّم على نتائج التحقيق الوبائي الذي أجرته، وعلى ما لديها من معطيات علمية؟ سببان: الأول لأن ليس في قاموس نظامها الشيوعي شيء اسمه شفافية، والثاني لأنها كسواها طامعة ببزنس اللقاح. الأسوأ أن بكين أتلفت الأدلة عن أصول الفيروس (وفقاً لتقرير “العيون الخمس”، أو وكالات استخبارات أميركا، كندا، استراليا، نيوزيلندا وبريطانيا). لذلك أصبح فتح تحقيق دولي مطلباً عالمياً، ولا بدّ أنه سيطاول المسؤولية الواقعة حالياً على عاتق الصين. كل ما استطاعت أن تقوله إنها مستعدّة للحوار، لكنها رفضت حتى التعاون مع محققي منظمة الصحّة العالمية المتهمة بشخص مديرها الاثيوبي بالانحياز الى جانبها. اللافت أن الخلاف على التحقيق أحيا نقاشاً قديماً حول الفارق بين سلوكيات الأنظمة الديموقراطية وتلك الشمولية. في أي حال، يبقى التحقيق الدولي واجباً وضرورة لما بعد الوباء، فما حصل للعالم ليس حدثاً عابراً تُمحى آثاره بدءاً من اليوم التالي، وليس كارثة عادية يمكن التساهل باحتمال تكرارها.
في الثامن من أيار (مايو) الجاري تزامنت مناسبتان: ذكرى مرور 75 عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية (1945 بحصيلة مقدّرة بخمسين مليون قتيل)، وذكرى إعلان الاستئصال النهائي لمرض الجدري (1980 بحصيلة ثقيلة لا إحصاء دقيقاً لها نظراً الى ظهوره مطلع الألفية الأولى واستمراره). انبثق من الحرب الثانية ما دعي “نظام السلم العالمي” الذي “لا نقبل بأن يتبدد اليوم أمام أعيننا، نريد تعاوناً أكثر في مواجهة فيروس كورونا” (الرئيس الألماني شتاينماير الذي دعا الى اعتبار يوم هزيمة المانيا يوم تحرير لها من النازية). أما العبرة التي بقيت من الجدري فهي أن استئصاله حصل بفضل تعاون دولي التقت فيه الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في أوج الحرب الباردة. رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون شبّه “كوفيد 19” بالحرب العالمية الثانية، لكنه وبقية الزعماء المعنيين لم يقولوا لماذا يتعذّر التعاون الدولي اليوم طالما أن الوباء فتك بالاقتصادات جميعاً ولم ينحسر بعد بل يمكن أن يحرّك ما بات الباحثون يسمّونها “الفيروسات النائمة” (على غرار الخلايا النائمة للإرهابيين).

السابق
فيروس كورونا قد يبقى الى الأبد!
التالي
أسرار الصحف المحلية الصادرة يوم الاثنين 11 ايار 2020