كنعان مكية… ما له وما عليه

مصطفى فحص

يعود كنعان مكية إلى رسم المشهد العراقي بعد 17 عاما على غربته الثانية، ولعلها أشد مرارة من الأولى. فحسرته في الثانية مضاعفة بعد خسارة فرصة قد لا تتاح مجددا. لكنه لم يخسر الأمل، بالرغم من الخوف المقيم بين طيات حروفه، وهو على الأرجح ما دفعه إلى تأجيل إعلان انتصاره على جمهورية الخوف، ويعتريه القلق على عراق بنت فيه جمهورية القناصين متاريسها.

هذه المتاريس الطائفية والعقائدية كانت نتيجة طبيعية لفشل مشروع إعادة بناء الدولة، بعدما أوكلت الفرصة التاريخية لنخبة تعاملت مع العراق كغنيمة لتعويض سنين المنفى والقهر، فتصرفوا بذهنية المنتقم لا المنتصر، وهي المسافة الموضوعية بين مشروعين؛ الأول اختزل العراق الممكن بدولة الطوائف، أما الثاني يؤمن بطائفة الدولة. فكانت النتيجة عنفا أهليا حوّل التغيير إلى نقمة، وكاد العراقيون أن يتحسروا على مستبد واحد يعرفون طبائعه، حل مكانه مجموعة مستبدين لا طعم لهم ولا لون، أفلحوا في ظلم المظلومين.

مما لا شك فيه أن فشل التجربة ما بعد 2003 يطرح إشكالية معقدة في فهم من تصدى للعملية السياسية، لمعنى الدولة وإدارتها، ليظهر أن فشلهم ذاتيا آتيا من الداخل، من عقدة الخوف من المستقبل وصعوبة التصالح مع الماضي وهاجس عودته، فتملكهم دائما خوف غير مبرر: خوف الفرد من الجماعة، وخوف الجماعة من المكونات، والمكونات من الطائفية، والطائفة من الطوائف، والطوائف الخائفة من السلطة، بعدما سلمت السلطة لقادة غير مؤهلين تخلوا عن فكرة الدولة لصالح الدويلات؛ يفسرها كنعان مكية بأنهم “طائفيون استبدلوا بفكرة العراق، ذلك الوهم (دولة الشيعة)”.

انتفاضة أكتوبر أتاحت العودة للبحث في الفضاء العام الوطني، نتيجة امتلاكها للشرعية الشعبية

بعد 17 عاما على ما كان، لم يغادره الرجاء على ما سوف يكون، بعدما فتح الأول من أكتوبر 2019 كوّة في جدار 9 أبريل 2003، تاريخ أسس للحظة يصفها مكية بالانتحارية يعيشها العراق حاليا، ويضيف في مقال له نشرته موقع ناس الإلكتروني “كُتُب التاريخ ستسجل أن هذه اللحظة رسمت خطا أحمر مداده دماء شباب العراق؛ خطا يفصل الفكر الطائفي عن فكرة العراق التي مات من أجلها شباب وشابات لا يعرفون غير ذلك الوطن الذي سلب مستقبله منهم غدرا”.

اقرأ أيضاً: مصطفى الكاظمي في العراق: خطة وطنية أم شراء للوقت؟

بالنسبة له فإن انتفاضة أكتوبر أتاحت العودة للبحث في الفضاء العام الوطني، نتيجة امتلاكها للشرعية الشعبية وتمثل أغلبية أعطتها شرعية دستورية، بمواجهة نخبة سياسية حزبية تمثل أقلية صادرت الدولة وأوّلت الدستور وأعطت لنفسها مبررات لمخالفة القانون تحت ذريعة حماية المكتسبات المذهبية والعرقية.

أسرار كثيرة لم يفصح عنها كنعان مكية، عن وعود وخيانات، عن إخفاقات البيت السياسي الشيعي في الحكم، وغياب فكرة الدولة عند سكانه

لم يعد مطلوبا من كنعان مكية الإجابة على أسئلة صعبة، بل بات المطلوب طرح سؤال واحد، بعد 17 عاما على التجربة من يتحمل مسؤولية الفشل؟ خصوصا أن أنتفاضة أكتوبر تجاوزت أجوبة السلطة المركبة والمعقدة التي تحتمل التأويل ولعبة التأجيل، بعدما انتزعت ساحة التحرير الفرصة التي ضاعت في ساحة الفردوس 9 أبريل 2003، لكن الفارق بين التاريخين أن الأول أسقط صنما واحدا بفعل خارجي، أما الثاني فمهمته أصعب وعلى عاتقه إسقاط عدة أصنام ولكن بإمكانيات داخلية فقط. ما يعني أن الحظ أعطى من لا يستحقون فرصة، بينما الآن يعاند فرصة لمن يستحقونها.

أسرار كثيرة لم يفصح عنها كنعان، عن وعود وخيانات وتواطؤ، عن إخفاقات البيت السياسي الشيعي في الحكم، عن غياب فكرة الدولة عند سكان هذا البيت، الذين فضلوا الانتماء إلى الجماعات الخاصة والعصبية المذهبية، وتسلحوا بالعنف لتحقيق المشروعية.

يبقى كنعان مكية لمن عرفه عن قرب مثقفا بطابع معماري، يرغب في فكفكة الأفكار وإعادة بنائها، تسكنه الأماكن وأسماؤها، على رصيف الغربة الدائمة والوطن المؤقت حملنا كنعان وجال بنا مع خالد المطلق عن حكايات المدن العتيقة وذاكرة أرصفتها من القدس إلى سمرقند إلى بغداد بتفاصيلها، من ساحة الطيران إلى ساحة التحرير، من شارع الرشيد ومقهى حسين عجمي إلى شارع المتنبي ومقهى الشهابندر، من جدارية فائق حسن إلى لوحة اللبوة الجريحة لأحمد حسين الزعيم، إلى مكتبة والديه وروايته الجديدة القسوة.

9 أبريل لك، وما بعده عليهم وليس عليك، فلا تعتذر عما لك.

السابق
مطربو المهرجانات يسيطرون على شارات رمضان.. ونانسي عجرم تنافس وحيدة!
التالي
رحلات اجلاء المغتربين مستمرة.. وتدبير استثنائي لطائرة لندن الاثنين!