العلاقات الإيرانية السعودية ملامح وشواهد من رؤية الإمام الخميني

هاني فحص

في مقال عن “العلاقة الملتبسة بين إيران الحالية و”الشيطان الأكبر” في جريدة السفير ص17 بتاريخ الثلاثاء 28/1/2003، للسيد كميل داغر ورد ما يلي: “إلا أنه يقصد (الإمام الخميني) ينقل عنه قوله أن في وسعه أن يتصور الدخول في توافق مع نظام صدام حسين أكثر مما مع النظام السعودي”.

محطات متعددة

معلوم في علم الحديث والرواية أن تعبير “يُنقل” أي البناء للمجهول إنما يعني ضعف الإسناد. أما أنا في هذا المجال فإني أنقل بصيغة المعلوم لأقول بأنه رغم أن إشكالية النظام البعثي العراقي منذ تأسيسه الجديد عام 1969، مع النجف ومراجعها ومع الشيعة عموماً في العراق، كانت إشكالية معقدة ومفتوحة على احتمالات عنف وقمع ودم لاحقاً، كما حدث من طرف النظام في محطات متعددة، فإن ذلك لم يمنع الإمام الخميني وفريق عمله من سلوك مسلك المستفيد جزئياً من التعارض التاريخي بين أي نظام عراقي ونظام الشاهنشاه في إيران، من دون أن يكون في ذلك مجال لإعطاء انطباع بأن الإمام الخميني وفريقه يتساهلون في أمر النجف والشيعة وبقية المراجع الذين حرص الإمام منذ اليوم الأول له في النجف أن يسددهم ويتواصل معهم ولا يزاحمهم في أي شأن… منطلقاً في علاقته معهم ومع الدولة العراقية من قناعاته ومنهجه السياسي في إعطاء الأولوية للأولى. والأولى بالنسبة إليه كمسؤول معني بإيران ومستقبلها، هو إسقاط النظام الإيراني لما يمثله من أخطار على الشعب الإيراني وعلى القضايا المشتركة بينه وبين الشعوب العربية والإسلامية والشعوب المستضعفة عموماً من خلال خضوعه التام لإملاءات السياسة الأميركية في المنطقة.. مقتصراً، أي الإمام، على علاقته بالدولة العراقية على مقدار الضرورة، مغتنماً فرصة وجود أحمد حسن البكر على رأس الدولة، من دون إعفائه من مسؤوليته عن بعض الارتكابات، ولكن تمييزاً له عن غيره من الحكام الذين كان صدام حسين بعد انقلابه على رئيسه نموذجاً لهم في التعاطي القاسي مع أي معارضة أو اعتراض.

اقرأ أيضاً: التدخل الإيراني بين لبنان والعراق

أحمد حسن البكر.. علاقاته العربية والسورية

إلى ذلك فإن أحمد حسن البكر لم يتحلل تماماً من علاقاته العربية والسورية بشكل خاص، ولذلك فإنه بدل أن يسلك مسلكاً معادياً صراحة للثورة الإيرانية ، سلك مسلكاً التفافياً بالمعنى الإيجابي جزئياً من خلال تواصله مع سوريا وحافظ الأسد الذي كان يتربص للعلاقات الفلسطينية الإيرانية ويساعد على ارتكاب الأخطاء من أجل الحلول محل ياسر عرفات بعدما تردد كثيراً أو قليلاً في مناصرة الثورة مشدوداً الى علاقات غير سطحية مع الشاه ونظامه . وأدى ، كما كشفت وثائق الثورة لاحقاً، الى وجود دين شاهنشاهي في ذمة النظام السوري بمبلغ مئة مليون دولار تمت المسامحة به لاحقاً مع إضافة هبات اقتصادية سخية  ودائمة ، قبل أن تتحول سورية النظام تماماً الى العهدة الإيرانية مالياً مع بداية الانتفاضة الشعبية السورية عام 2011 ولا ندري حتى متى؟ والإعلان المشترك للميثاق القومي بين سوريا والعراق الذي ربما كان، مستقبلاً، مدخلاً مناسباً لعلاقات أكثر استقراراً مع دولة الثورة، يمر بشكل طبيعي بسلوك مختلف للدولة العراقية تجاه شيعة العراق والنجف ومراجعها الكبار. ولهذا متواتر.. أما خبر الآحاد الذي يبلغ حد الاستفاضة فإني أنقله على عهدتي وأقول: بأنه بعد نجاح الثورة وتشكيل دولتها الأولى وفي الأسبوع الأول عجل الإمام الخميني في تعيين سفير إيران لدى العراق، وأختار السيد محمود دعائي خريج النجف والمكلف من الإمام الخميني سابقاً بالاتصال بالدولة العراقية لإزالة العوائق أمام حركة الإمام وفريق عمله..

وقد كنت حاضراً عندما نقل قائد عربي إلى المسؤولين الإيرانيين استبشار الرئيس البكر بهذا الأمر واعتباره أنه دليل على أكثر من حسن النية. أي على النية بفتح صفحة في التعاون، ولكن الذي حدث في ما بعد غير الواقع ووضعه أمام مؤشرات خطرة. فمع الحصار الذي ضربته الولايات المتحدة على الثورة ودولتها، وحاولت إيران إحداث ثغرة فيه من خلال احتلال السفارة الأميركية واحتجاز الرهائن فيها.. إلخ.. بادر صدام حسين إلى انقلابه على البكر وطاقمه السياسي البعثي فأقصاهم جميعاً وألغى الميثاق القومي مع سوريا وأعدم عدداً من كبار الحزبيين التاريخيين ورجال الدولة بتهمة التآمر مع سوريا والرئيس حافظ الأسد وقبول المال السوري للاستعانة به على ذلك (تهمة وزير التخطيط عدنان الحمداني بقبض عشرة آلاف دولار أميركي مثلاً!!!).

وكان لا بد من التعبئة الشعبية في إيران لمواكبة الحرب واستحقاقاتها وتحقيق الأهداف المضمرة والمعتقة في العقل الإيراني ، أي استتباع العراق لإيران في كل شيء

(ممن أذكرهم ممن أعدموا من كبار القادة، عبد الخالق السامرائي ومحمد عايش ومحمد محجوب وشفيق الكمالي وعدنان الحمداني، ليلحق بهم آخرون لا يتسع المجال لتعدادهم)، إذن فقد حسم الأمر ووقف العراق صراحة في الصف الأميركي وحلفاء أميركا في المنطقة لمعاقبة الثورة ودولتها ومنعها من أن تعوض الرقم الكبير الذي خسره العرب بخروج مصر عن سياق الصراع بموجب (كامب ديفيد). وهكذا دشن صدام الحرب على إيران في لحظة حرجة، من دون أن يكون هناك حركة شيعية في الداخل العراقي تستدعي ذلك، بل كان الحراك الشيعي متأثراً بالأولويات والتوجهات الإيرانية، يميل إلى هدوء أكثر وحساب أشد تدقيقاً من الماضي، قبل نجاح الثورة.

وكان لا بد من التعبئة الشعبية في إيران لمواكبة الحرب واستحقاقاتها وتحقيق الأهداف المضمرة والمعتقة في العقل الإيراني ، أي استتباع العراق لإيران في كل شيء ، وطرح عدد من الشعارات التي كانت مقتطعة نصاً من كلام الإمام، أو معدلة شكلاً لا مضموناً، وعلى رأسها شعار الشيطان الأكبر، والموت لأمريكا (أي النظام الأميركي) مضافاً إليه كلازمة دائمة (الموت لإسرائيل) وبعد الحرب أضيف (الموت لصدام) ولا مرة قبل الحرب وأثناءها وبعدها أضيف إلى هذا الشعار أي فقرة أو كلمة ضد المملكة العربية السعودية، رغم أن التقارير العربية والدولية كانت تؤكد أن حرب العراق على إيران لا بد أن تكون قد تمت بالتفاهم بين العراق ومعظم الأنظمة العربية. ولكن ذلك لم يقلب سلم الأولويات. خاصة أن الإمام الخميني الموجه الأول للمسألة معروف عنه التركيز على الهدف الأول والمركزي من دون التوقف ولا الإهمال للأهداف الفرعية… وكنا عندما نقابله في النجف ونقدم له التقارير عن حالنا في لبنان وفي فلسطين، يرد بوضع فلسطين في موقعها الحقيقي كقضية مركزية، مع إشارة إلى أنها هي أولاً قضية الشعب الفلسطيني ومقاومته وهذا لا يلغي أهمية دعم الثورة الإسلامية، ولكن هذا الدعم يتضاعف ويؤثر أكثر إذا ما استطاع الإيرانيون أن يحققوا هدفهم المركزي وهو إزالة نظام الشاه عن طريفهم وطريق فلسطين.

سلوك الثورة

وعلى العادة المألوفة في سلوك الثورة عندما تتحول إلى دولة وتواجه تحديات التوفيق بين المبادئ والمسالك، بناء على التعقدات التي تكتشفها داخلياً وخارجياً، وبعيداً عن التبسيط الثوري المعروف، فإن دولة الثورة في إيران شرعت فيالبحث عن الإيجابي في شبكة السلبيات بينها وبين كثير من الدول، ومنها المملكة العربية السعودية، والبحث عن مداخل لعلاقة غير مختزلة في التناقض أو التعارض، أي البحث عن تسوية ما… وهنا أنقل شخصياً ما سمعته من السيد أحمد الخميني (أوائل الثمانينات) في مجلس عام خاطب فيه القائم بالأعمال السعودي (مروان الرومي) بأن إيران الدولة والإمام يرغبون في علاقات ودية مع المملكة وعليه أن يسعى أو يكثف سعيه من أجل ذلك. وكان واضحاً أن إيران تعتمد الصبر على هذه المسألة… ولذلك مر الحدث الكبير في مقتل مئات الإيرانيين في موسم الحج. وظلت الإدانة العلنية والجادة مصحوبة بالبحث عن مخارج. توفرت لاحقاً وتجسدت في إجراءات إيرانية لافتة وقبل وفاة الإمام الخميني، عندما طلبت السلطات الإيرانية من المعارضة الشيعية السعودية المقيمة والناشطة في إيران أن تخفف إعلامياً هجومها على المملكة، فامتثلت وأغلقت بعض مطبوعاتها ونقلت البعض إلى لندن ولبنان… ولتؤكد الجمهورية الإسلامية جديتها في ذلك تفاهمت مع هذه المعارضة على الكف عن إقامة احتفالات في ذكريات صراعها مع الدولة السعودية… وقد كنت مرة مدعواً لأحد هذه الاحتفالات، في مسجد الجواد، في ميدان “هفتم تير” في طهران. وذهبت فوجدت باب المسجد مغلقاً ولم يعبر لي المعنيون من السعوديين الشيعة عن استيائهم مما حدث، لأنه حدث بالتفاهم معهم.

الحوار السرّي

وعندما بدأت المعارضة الشيعية بحوارها السري مع المملكة، أبديت قلقي من أن يكون ذلك من وراء ظهر الجمهورية الإسلامية في إيران، غير أن الأخوة السعوديين أفهموني أن ذلك إنما يتم بالتفاهم الكامل وأن إيران تعتبر أن مصالحتهم مع السعودية ربما كانت مدخلاً أو عاملاً مساعداً لعلاقة مستقبلية مختلفة بين الدولتين، وهذا ما حدث، وكانت استجابة السعودية للتوقع الإيراني عالية عندما استأصلت القضايا والملفات القضائية بين الدولة والمعارضة، وأتاحت الفرصة للتيار الأكثر تعلقاً بإيران، بعد إطلاق سراح كوادره وقياداته، أن يصل في تعبيره عن ولائه وعلاقته بإيران حداً لم يكن موضع الرضى الكامل من الطرف الإيراني نفسه. هذه هي المؤشرات التأسيسية والأساسية للعلاقة الهادئة والتعاونية المعقدة جزئياً بين إيران والسعودية في صورتها الراهنة… وهي بالمناسبة تتعدى أن تكون مزاجاً إيرانياً، وتتعدى رؤية إيران لموقع المملكة المتميز على اختلاف طبعاً في السياق العربي والإسلامي، حيث أنها تأتي تطبيقاً لمنهجية إيرانية أسسها الإمام الخميني تهدف إلى إعادة النظر في العلاقات العربية الإيرانية على أساس الاختلاف والاتفاق والسعي الدائم للتسوية (المغرب تونس مصر الأردن، عمان البحرين قطر والإمارات إلخ).

اقرأ أيضاً: التدخل الإيراني في الماضي اللبناني القريب ومدى صلاحيته تجاه المستقبل العراقي

ويدخل ضمن هذا المسار الهدوء الإيراني في التعامل مع العراق الذي هو بالنسبة لإيران أكثر من جار، والذي لا بد أن تنسحب آثاره ولو جزئياً على العلاقة بالنظام العراقي، على أساس ما تبقى من المشتركات بين الدولتين تقتضي إعادة التناقض الحاد إلى حجمه من التعارض الذي يشتد مرة ويخف مرة أخرى من دون أن يكون في نية إيران وإرادتها أن تحمي النظام العراقي، إذا لم يكن بإمكانه حماية نفسه من شعبه أو من أعدائه الخارجين الحميمين الذين تزداد قبضتهم عليه إحكاماً كلما ازداد رغبة وعملاً في تنفيذ إرادتهم ضد شعبه أو جيرانه وأشقائه (شن الحرب على إيران ثم احتلال الكويت) بناء على الإرادة السيئة الأميركية التي عبرت عنها السيدة غلاسبي بإشارة دالة أثناء لقائها بالرئيس العراقي قبل الغزو، لتكون الإشارة الثانية بعد الاختبار الذي أجراه النظام العراقي بالتحشيد حول الكويت من دون أي إجراء أميركي مضاد… وتكشفت الإشارة الأميركية بعد الدخول… لتبدأ الإشارات المختلفة بعد تدمير الكويت… فكانت حرب التحرير… التي توقفت فيها الإرادة الأميركية عن سياقها لتعود فتؤثر حماية النظام العراقي من الانتفاضة الشعبية ضده.

السابق
بعض ملامح مدينة صور: مشرقية كالصبح… جميلة ومرهوبة كصفوف الرايات
التالي
«أنا الشّعب».. هكذا تُشوّهُ «الشَّعبويّةُ» الديموقراطيّة!