«الطبقتان» السياسيّة والمصرفية

رياض سلامة

في تجارب أنظمة الحكم الديكتاتورية التي تعتمد تجهيل المسؤول عن القرار الفعلي، ثبت أن “نظام الواجهة” يزيد من تضخيم الصورة السلبية للحاكم لأنه في عصر الإعلام العام والخاص، الشخصي والمؤسساتي يصبح التجهيل وعاءً بلا قعر لكل أنواع الإشاعات والتنميط السياسي. أظن أن دور رياض سلامة حاكم مصرف لبنان بات يحمل هذه السمة التجهيلية- التضخمية مع إضافة هنا في جوهرالموضوع وليس على هامشه، هي مسؤولية سلامة الشخصية في هذه الظاهرة. فهو رغم ظهوره الإعلامي، يُبقي في تصريحاته حتى المتفائلة (حتى عندما لم يعد ينفع التفاؤل) قدْراً من الغموض غير البنّاء. فكيف تمكن مقاربة دور هذا الحاكم؟

اقرأ أيضاً: «لو كان يعلم» صندوق النقد الدولي!

قد يكون من الخطأ تحميل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وحده مسؤولية احتجاز المصارف اللبنانية لودائع اللبنانيين وكل ودائع أشخاص من جنسيات أخرى.. ما عدا طبعاً الذين تواطأت المصارف معهم على تحويل أموالهم للخارج، إنها أساسا مسؤولية السياسيين الذين يحكمون لبنان والذين يتخذون القرارات التي ينفِّذها أو يقترحها رياض سلامة. مع أنه، بالمناسبة، تساهم المصارف في الدفاع عن نفسها بدعوة المودعين للتوجه نحو مصرف لبنان “الذي باتت الودائع عنده” وهي مقولة حتى لو كانت صحيحة من حيث مسؤولية مصرف لبنان عن الدين العام، تطمس كم استفادت المصارف من هذه السياسة. وبالتالي كم اكتنزت على مدى ثلاثة عقود من الثروات الناتجة عن فوائد الدين الضخمة. ليس رياض سلامة سوى الأداة الرئيسية في القطاع المصرفي اللبناني.

والحقيقة الدقيقة سياسياً وليس تقنياً أن مسؤوليته هي إخفاء الحقيقة وليس صناعة القرار . أخفى رياض سلامة طويلاً حقيقة الوضع المالي للدولة. إذ تبيّن أن تطميناته للبنانيين كانت غير صحيحة. ولو قام مبكرًا بعملية مصارحة كانت ستُكلِّفُه الاستقالة من منصبه بالحد الأقصى، لكان وفّر علينا عبء المفاجأة أو على الأقل حجب عن نفسه تهمة التواطؤ في الجريمة الكبرى والمذهلة التي هي مصادرة ودائع حوالي مليوني لبناني. هنا بالضبط تكمن مسؤولية الحاكم. أي الطمأنة الزائفة. كذلك ليس تثبيت سعر الصرف القسري على مدى سنوات هي مسؤوليته وحده ولا حتى الهندسات المالية التي استفادت منها المصارف بشكل مفتعل هي مسؤوليته وحده ولا تشجيعه رفع معدلات الفوائد على الودائع التي سمحت لأصحاب الودائع الكبيرة بتحصيل ثروات ضخمة… فكل هذه الخطوات كان فيها مستفيدون من السياسيين النافذين الذين حظيت بموافقتهم.

رياض سلامة رغم تشكيله لبلاط خاص به وحاشية وأبواق كان موظفاً لدى الطبقة السياسية، يأتمر بأوامر أركان هذه الطبقة ويستمد ثبات نفوذه من النافذين فيها. إذن هو مسؤول بصورة خاصة عن أكاذيبه الشخصية على شاشات التلفزيون. كان يجب أن يستقيل في لحظة يقينه بأن المشكلة بلغت حدًا من التفاقم الخطير. لماذا لم يفعل ذلك؟ لماذا بقي حتى اللحظة الأخيرة قبل انفجار الأزمة.. أزمة انكشاف سرقة ودائع شعب بكامله كان يأتمن المصرف المركزي والمصارف الخاصة على ما لديه من أموال، ومعظمها متواضع؟ هذا في ما يتعلق بمسؤولية الشخص في وضع ينهار فيه نظام دون أن ينهار ويتحطّم فيه قطاع مصرفي لازال واقفاً في الشكل صارت فيه مراكزه المنتشرة عنواناً مخيفًا كما لو أنها مراكز مخابرات في بلد توتاليتاري. لا قطاع مصرفي بعد اليوم بالمعنى الذي عرفه لبنان تقريبًا منذ تأسيسه. فهذه الفئة المتميزة من أصحاب الثروات التي تمتلك أسهم المصارف والتي أصبحت أموالها في الخارج الآن سيُسجَّّل ذكرُها لدى الجيل المقبل على أنها صاحبة السمعة الأسوأ في تاريخ الجمهورية… جمهورية “لبنان الكبير”.

ولم يظهر حتى اليوم أي قطب بارز فيها يطرح الموضوع ويدين هذا السلوك من وجهة نظر وطنية وأخلاقية. لا قائد شجاع و مسؤول في هذه الفئة يخرج عن الصمت الرذيل المدوّي الذي يكتنف سلوكها وينتقد ويصارح بما يحفظ القليل من سمعتها للمستقبل. مثل الطبقة السياسية، تشارك الطبقة المصرفية في الجناية.لكنها ترتكب دور ذلك المقنّع المخيف وراء غطاء وجهه الأسود والذي يمسك بحبال المقصلة على شعبٍ بكامله. فلسنا هنا أمام سيّاف يقطع عنق محكوم بالإعدام بل أمام طغمة من السيّافين تنتشر مقصلاتها على مدى أرض الجمهورية الصغيرة المسماة “لبنانَ الكبير”٠ صار المرور أمام فرع مصرفي مدعاةً ليس فقط للاكتئاب بل للخوف.

إنها العلامة التي لا تخطئ على التحالف الرهيب بين السلطة السياسية ورأس المال بأبشع ما تعنيه الكلمة من معنى. أما مسؤولية اللبنانيين فمسؤولية مرهِقة وصعبة. إذْ كيف لهم أن يتمكنوا من جعل طبقتين لا واحدة تدفعان الأثمان القضائية والسياسية لهذه الجريمة- الجرائم التي ارتكبت بحقهم وحقوق مستقبلهم السليب. أسمع أصوات الشابات والشبان الصارخة بوضوح ضد الطبقتين، صرخات لا تنم فقط عن الغضب، بل أساسا عن الوعي الناضج بما حدث ويحدث. ربما أمكنهم فعل شيء.

السابق
ما هي فوائد بذور الريحان الصحية الـ10؟
التالي
«حزب الله» المحرج في زمن الكورونا الإيراني: الآتي أعظم؟