صفقة القرن: النهايات غير النهائية

صفقة القرن

تأتي “صفقة القرن” إلى منطقتنا وكأنها كابوس وليس حدثاً سياسياً. هي كابوس النهايات الفلسطينية التي لا تنتهي في هذا المسار الفجائعي الذي ينقلنا من فاجعة إلى فاجعة لا للفلسطينيين وحدهم بل لكل ما أصبح يُسمّى بعد العام 1920 “شعوب المنطقة”. وهي كابوس اللاإستقرار المُحْكَم الذي يصيب مجتمعاتنا المكشوفة والهشة. فهي أيضاً كابوس النهايات العربية غير المنتهية وهي أيضا وأيضاً كابوس النهايات الغربية غير المنتهية التي يقوم بها الغرب، والآن بزعامة الولايات المتحدة الأميركية ل”تنظيم” هذا الجزء من العالم المسلم القديم.

إقرأ أيضاً: السيد علي الأمين ينعي صفقة القرن: «ولدت ميّتة»!

نكتشف، لاسيما بعد الزلزال السوري، أن دول المنطقة لا تتمتع بالحد الأدنى من مقومات التماسك. إذن هي “صفقة” الضعف المتمادي لدول المنطقة. هذه معادلة بادئة منذ العام 1948 بعد ولادة إسرائيل. ولن أقول بادئة بعد عام 1920 لأنه في ذلك العام لم تكن معظم الدول العربية موجودة ككيانات.

هل ولدت صفقة القرن ميتة؟ وهذا هو التعبير الأوسع انتشاراً عن الصفقة. أشك بذلك. إذا نظرنا إلى التحركات العميقة في الجيولوجيا السياسية للشرق الأوسط.

هذه الصفقة هي على الأرجح نهاية لا نهائية. لنفتح أطلس المنطقة: بسهولة، وقد علّمتنا التجارب، يمكن اكتشاف أن ضم المنطقة المطلة على غور الأردن من الضفة الغربية إلى إسرائيل، وهذا على الأرجح التحول الأسرع الذي تحمله “صفقة القرن”، قد لا يكون آخر المطاف الفلسطيني ولا آخر المطاف العربي. فكم تحمل خرائط لبنان وسوريا والعراق، المهزوزة أصلا، من احتمالات لعب على الجغرافيا السياسية لمنطقتِ”نا”. ماذا عن مشاريع الأقاليم اللبنانية والسورية والعراقية، وكل منها تنطوي على خيبات تعايش في كيانات سايكس بيكو الأوسع ومعها دول فاشلة أو شبه فاشلة؟

يصيح جيل جديد شجاع وغير طائفي في لبنان محاولاً تغيير قدر الدولة الفاشلة التي أوصله إليها نظام طائفي. بهذا المعنى يحاول هذا الجيل بما تبقّى من أنفاس لمجتمع لبناني مُنهَك أن يفرض صفقة قرنه التي تمنع ليس فقط انهيار الدولة بل أيضاً انهيار الكيان؟؟؟

لا أريد أن أتحدث عن منطقة الخليج التي رغم رفاهيتها تعيش قلقاً عميقاً حيال المستقبل ويكاد المراقب يتفهّم حضور ممثلي الدول العربية الثلاثي في البيت الأبيض خلال احتفال إعلان صفقة القرن بأنه عمل دفاع عن بقاء هذه الدول نفسها من وجهة نظر حكامها. صفقة القرن تحمل تهديدا لبقاء أي دولة من دول المشرق والجنوب العربيين. فقد سمعنا وشاهدنا سابقاً كيف وبأية لهجة غيرلائقة تحدث دونالد ترامب عن المملكة العربية السعودية أمام الجمهور الأميركي بل كيف تطاول بطريقة ما على مليكها الذي يحظى عادةً باحترام شديد بين رؤساء الدول.

سمعتُ وشاهدتُ بأي نَفَس يمكن تسميته بال “وداعي”، كان الرئيس الفلسطيني يتحدث يوم السبت المنصرم في اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة. وهذه هي المرة الثانية التي يستعيد فيها محمود عباس شخصيته كوارث لزعامة الحركة الوطنية الفلسطينية على المسرح السياسي. كانت المرة الأولى بعد ان اعترف ترامب بالقدس عاصمةً موحّدة لإسرائيل. يومها في رام الله كما المرة الثانية في القاهرة، كانت الحسابات السياسية أقل تقييداً لعباس خصوصاً حيال الولايات المتحدة التي اعتبرها ضد الفلسطينيين منذ وعد بلفور مرورًا بعام 1947 إلى اليوم. وكشف عن معلومة وهي أن المفاوضات في أوسلو عام 1991-1992 تمت دون معرفة الأميركين حتى شهرها الخامس أو السادس. وهذه معلومة مفاجئة ومن الصعب تصديقها مع أنها تصدر عن رئيس الوفد الفلسطيني في أوسلو أي محمود عباس. كان محمودعباس في القاهرة يعبِّر عن مرارة كل الحركة الوطنية الفلسطينية التي وضعت لنفسها رغم تنازلاتها الضخمة ثوابت أهمها أن تكون عاصمة الدولة الفلسطينية هي القدس الشرقية و ليس قرية “أبوديس” كما تقترحها حسب “أبو مازن” صفقة القرن.

صهر ترامب وعراب صفقة القرن جاريد كوشنير كان صريحاً في القول في مقابلة مع قناة مصرية أن الخاسرين من رفض “صفقة القرن” سيكونون ليس فقط الفلسطينيين بل كل دول الشرق الأوسط.

هذا هو جوهر التهديد في مرحلة تنهار فيها دول ومجتمعات في هذا الشرق الأوسط الذي رسم الغربُ معظم كياناته السياسية أي دُوَلَه قسرًا عسكريًا أو سلميّاً.

كان لديّ في هذا المقال مشكلة لغوية أو أسلوبية هي كيف أستخدم لفظة “أيضا” كمصطلح تمييز بين الفلسطينيين والعرب. وأشعر بعد صفقة القرن أن حدود إعادة رسم الدول بين فلسطين والمشرق العربي قد تلاشت كمعطى سياسي. فمن يمنح اعتراف القوة العظمى في العالم بالسيطرة السيادية على أغوار وادي الأردن الفلسطينية بعد ورغم كل المواثيق والاعترافات والاتفاقات الدولية. يمكنه أن يمنح الاعتراف بإقليم سني عربي في العراق وآخر في سوريا وثالث في لبنان بل يمكنه أن يلعب بحدود الأردن ذاته. ولن أذهب هنا أبعد في افتراضات ولو متداولة.بالنتيجة لا “أيضاً” بعد صفقة القرن. كلنا سواسية مع كل الفوارق القائمة بين جحيم وآخر.. كابوس وآخر. جيلُنا اسْتُهْلِك وقبله جيلان. على الأجيال الجديدة أن تتحمّل الآن الاستهلاكات الآتية في الخمسين عاماً أمامنا.

السابق
فساد البلديّات يفوق فساد الوزارات.. أين القضاء؟
التالي
زيارة «تفاؤلية» للسفير السعودي الى دار الفتوى.. ماذا قال عن الأزمة الإقتصادية؟