روسيا تستشرس على إدلب «الرهينة» لإبتزاز طرف ثالث غير مكترث

الروس والأسديون والايرانيون يدمنون قتل المدنيين في إدلب، ولا يقاتلون الجماعات الارهابية إذ يحتاجون اليها لابتزاز الدول الغربية. هذا ما يحدث عندما تتحوّل الدول والأنظمة الى عصابات فيستحيل التمييز بين شبيحتها.

أصبح لزاماً استجداء روسيا السماح بإيصال مساعدات انسانية الى ملايين المحتاجين داخل سورية. فجأة، لم تعد موسكو مستعدة لتجديد آلية الإغاثة الدولية، وتستخدم “الفيتو” لعرقلتها واستدراج مساومة قبل الموافقة على تجديدها. المنفذ الخامس مرفوض، اثنان مقبولان فقط من المنافذ الأربعة الحالية، واثنان مطلوب اغلاقهما.

لكن، لماذا؟ لأن الظروف تغيّرت، أي “تحسّنت”، في سورية، كما ترى موسكو، وهي تعلم جيداً أن السوريين في مناطق سيطرة النظام يعانون من وضع معيشي يزداد سوءاً، وأن الحاجات الأساسية تتوفّر بصعوبة لقلّة صغيرة ميسورة وغير متوفّرة للعموم. روسيا تسعى الآن الى تعميم التجويع والحرمان، ومعها الصين، لكن ما الهدف؟

بعد استعراض مختلف الاحتمالات، يبدو الضغط على الولايات المتحدة والدول الأوروبية هو المرجّح، فموسكو تشعر منذ عامين بأن ما كان يقال عن “غرقها” في سورية أصبح واقعياً، ولذلك فهي حانقة على سلبية تلك الأطراف حيال دورها في سورية.
لا تشارك روسيا، أو تشارك رمزياً، في تمويل المساعدات الإنسانية بذريعة أن العمليات العسكرية تحمّلها عبئاً ثقيلاً. ومنذ افتُتحت المؤتمرات الدولية الموسّعة في فيينا للبحث في حلّ الأزمة السورية، غداة التدخّل الروسي في خريف 2015، دأبت موسكو على تغذية فكرة مضللة وهي أن دورها ينوب عن المجتمع الدولي ويحظى بموافقته، أي بمعنى آخر أنها تقوم بتضحية، باعتبار أن الخيارين اللذين ارتسما آنذاك كانا: انقاذ نظام بشار الأسد، أو إرهاب “داعش”.

وما لبثت أن تبنّت تعميم النظام التصنيف الإرهابي على كل فصائل المعارضة. وينبغي التذكير هنا بأن التدخّل الروسي تمّ بأمر من فلاديمير بوتين وبرجاءٍ من الاسد وليس بتفويضٍ دولي.

روسيا والصين تسعيان الآن الى تعميم التجويع والحرمان في سورية

لم تعارض إدارة باراك أوباما هذا التدخّل بل شجّعته عملياً، ثم حثّت الدول الخليجية على “تعويض” روسيا “تضحياتها” من خلال استثمارات ومشاريع تعاون. استجابت هذه الدول آملةً في ان تغيّر روسيا المعادلة في سورية باتجاه تعزيز الحضور العربي وتقليص النفوذ الإيراني. وأبدت موسكو تجاوباً تبيّن لاحقاً أنه مجرد كلام، إذ طلبت من الجانب العربي وتوقّعت منه أن يساهم في إعادة تأهيل النظام وأن يتعاون معها في إضعاف المعارضة عسكرياً وسياسياً. وفيما انبرت تركيا منذ أواخر 2016 الى احتواء المعارضة العسكرية ما أدّى أيضاً الى تقنين زخمها السياسي، لم يبقَ للجانب العربي سوى إرضاء روسيا بالتقارب مع النظام لكنه اصطدم بشروط النظام نفسه لتطبيع بلا مقابل، ومع اندفاع بعض العرب من تطوير العلاقة مع النظام حال “الفيتو” الأميركي دون أي تطبيع علني معه ما لم يتعاون في تسهيل حل سياسي. واستطراداً بدا أخيراً أن التنافر بين السعودي – الاماراتي تركيا ينعكس على المعارضة من خلال الدعوة الى مؤتمر لمعارضين “مستقلّين” في الرياض بهدف تغيير رئاسة “هيئة التفاوض” المعارضة وتركيبتها.
أما ورقة النفوذ الايراني فخططت روسيا دائماً لـ “بيعها” الى الولايات المتحدة إذا عرضت عليها الثمن المناسب. لذلك نسّقت مع إسرائيل، ليس فقط من أجل إسرائيل بل لاستدراج واشنطن الى صفقات تتعلّق بسورية وبملفات أخرى خارجها. لكن النتيجة الواقعية تتمثل في أنه لم تكن يوماً لدى الروس خطة للتخلص من الوجود الإيراني في سورية، رغم أن لهم مصلحة في ذلك.

تكيف مع المستجدات

وإذ أتاحوا لإسرائيل توجيه ضربات موجعة أحياناً للإيرانيين وميليشياتهم، إلا أن هؤلاء استطاعوا دائماً أن يكيّفوا نفوذهم مع المستجدات بحيث لا يضعف ولا يتقلّص بل ان اعادة انتشاره توسّع رقعة وجوده مع التركيز على المناطق التي يعتبرونها استراتيجية، في محيطَي دمشق ودرعا وفي حلب وأخيراً في ناحية البوكمال قريباً من الحدود مع العراق. وفي كل المعارك البرّية، كما هي الحال في إدلب، لا يزال الروس يعتمدون بشكل خاص على الإيرانيين وأتباعهم.
اعتبرت روسيا دائماً أن نهاية الحرب لا بدّ أن تعني استعادة نظام الاسد سيطرته على الأرض السورية كاملة. على سبيل التعريف قد يبدو هذا الهدف “منطقياً” لو أن الحرب بين دولتين اعتدت إحداهما على الأخرى واحتلّت جزءاً من أرضها، أو بين نظامٍ صالحٍ وعادل وبين مجموعة متمرّدة على سلطته.

لكن موسكو تعرف، باعتراف العديد من ديبلوماسييها خارج الاجتماعات الرسمية، أن النظام الذي تدعمه هو الأسوأ في عالم اليوم منافساً إيران وكوريا الشمالية. تعرف موسكو أيضاً، بشهادة “مركز حميميم للمصالحة”، أن من تبقّى من سكان المناطق التي ساعدت النظام على استعادتها يعيش أوضاعاً بائسة مع استمرار الشبيحة في اضطهادهم وإذلالهم وتحويل مناطقهم الى بيئات طاردة لهم.

وإذ رافقت موسكو عمليات اخراج المقاتلين وعائلاتهم من تلك المناطق وأشرفت – بدءاً من حلب وانتهاءً بدرعا – على ترحيلهم الى إدلب، فإنها تعرف كذلك أن معالجة المشكلة التي نشأت في هذه المحافظة لا يمكن أن تكون بإبادة مليون انسان أو بتهجيرهم وضمّهم الى أكثر من ستة ملايين طردهم نظام الأسد والايرانيون من مواطنهم.

روسيا تعرف ان النظام الذي تدعمه هو الأسوأ منافساً إيران وكوريا الشمالية

ليست مشكلة النظام اليوم، ولا مشكلة روسيا، أن إدلب خارج سيطرتهما. نعم هناك في إدلب مجموعات إرهابية يرفضها السوريون أكثر مما يرفضها موسكو ودمشق، لكن المشكلة التي فرضت نفسها على الروس والإيرانيين والاسديين منذ عامين تكمن في أنهم قتلوا ودمّروا واخترعوا كل أنواع الأكاذيب لتسويغ جرائمهم ويتوقّعون الآن أن يرفع الاميركيون والاوروبيون عقوباتهم ويأتوا مع العرب بأموال إعادة الإعمار، لمكافأتهم.

لا حل سياسياً منصفاً!

لكنهم، في المقابل، لا يقدّمون سوى عجزهم عن طرح حلٍّ سياسي منصف ومتوازن يعيد كل الأراضي الى دولة سورية محترمة وذات سيادة وليس الى نظام مجرم، بمقدار ما يتيح لجميع السوريين عودة كريمة الى مواطنهم لا ليكونوا تحت رحمة الشبّيحة.
لذلك يبدو استهداف المدنيين في إدلب أقرب الى استشراس العصابة على رهائنها لابتزاز طرف ثالث (اميركا وأوروبا) غير معنيّ بمصير هؤلاء الرهائن ولا باستقبالهم كلاجئين لإنقاذهم. لحظة إدلب كانت فرصة روسيا لغسل جرائمها في سورية والتقدّم الى حلّ يمكن أن تتضافر جهود كثيرة لإنجاحه، لكن العقل الروسي الذي صدّق كذبة أن التدخل كان “تضحية” فوّت الفرصة لمصلحة التمسّك بالنظام وإعادة انتاجه.

السابق
الخيارات السنية الصعبة.. ليس بـ«اللقاء التشاوري» وحده تُشّكل الحكومة!
التالي
حكومة دياب «الميتة» .. «طُعم» للإنتفاضة او سحب تصريف الأعمال من يد الحريري؟