اللبنانيون يعرفون من أوصلهم للتسول

لبنان ينتفض

عندما قال لي مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط دافيد شينكر خلال لقائي به يوم الجمعة إن الولايات المتحدة ودول أخرى صديقة للبنان مثل فرنسا، إضافة إلى المؤسسات الدولية تعمل على توفير امدادات إنسانية من غذائية وصحية إلى لبنان، لأن أزمته الاقتصادية غير المعهودة ليست مرشحة لحل قريب، قاطعته: “تتحدث عن لبنان وكأنه دولة مدقعة، وكأنه يعاني من سوء تغذية وحتى مجاعة كما هو الحال في اليمن وأفغانستان وهايتي وغيرها من الدول التي تعاني من آفات الحروب الأهلية والقحط والتغير البيئي”.

سارع شينكر إلى مقاطعتي بدوره قائلا بصوت تأبيني “التوقعات للبنان رهيبة”، مشيرا إلى المعدلات العالية والمتفاقمة للبطالة والفقر. بعدها توقف لفترة ليتمعن بوجهي الذي بدا له متجهما، وتابع: “اللبنانيون شعب فخور…”. ثم أضاف ما معناه أنه على اللبنانيين هذه المرة اتخاذ قرارات صعبة للغاية لمنع انهيار بلادهم.

كان يوم الجمعة قاتما وباردا وممطرا، مثله مثل الحاضر اللبناني. في طريقي من مبنى وزارة الخارجية إلى محطة الميترو، استعدت بسرعة أحلك اللحظات التي مرّ فيها لبنان منذ بدأ انهياره البطيء والطويل في 1975؛ حرب السنتين؛ الاجتياح الاسرائيلي في 1978؛ والغزو الإسرائيلي المدمر في 1982؛ مذابح صبرا وشاتيلا؛ حرب الجبل؛ حرب المخيمات؛ الاقتتال في شوارع بيروت الغربية وبيروت الشرقية ومحيطها بين الحلفاء السابقين؛ حرب إسرائيل وحزب الله في 2006؛ والقتال بين الجيش اللبناني وحركة فتح الإسلام في مخيم نهر البارد في 2007 واحتلال “حزب الله” والمتعاونين معه لبيروت الغربية في 2008؛ الحرب الأهلية في سوريا وانعكاساتها الكبيرة على لبنان، وبروز ما سمي تنظيم “الدولة الإسلامية” والتفجيرات الإرهابية في بيروت وطرابلس.

الثورة اللبنانية هي من أجل تأسيس جمهورية لبنانية ديمقراطية ومستقلة

جميع هذه الأحداث الدموية والمآسي الإنسانية على مدى 45 سنة، لم توصل لبنان إلى مرحلة تسول المساعدات الإنسانية والإمدادات الغذائية والطبية من أصدقائه أو من “المجتمع الدولي”.

قبل أكثر من أسبوع ناشد رئيس الحكومة المستقيلة سعد الحريري في رسائل لقادة السعودية وفرنسا وروسيا وتركيا والولايات المتحدة والصين ومصر مساعدة لبنان على الخروج من أزمته الاقتصادية الخانقة. ولحق ذلك برسائل إلى قادة بريطانيا وألمانيا وإسبانيا.

طلب الحريري المساعدات لمعالجة ما وصفه “النقص في السيولة وتأمين مستلزمات الاستيراد الأساسية للمواطنين… بما يؤمن استمرارية الأمن الغذائي والمواد الأولية للإنتاج”. آخر مرة انهار فيها “الأمن الغذائي” في لبنان وعانى فيها اللبنانيون من سوء التغذية والمجاعة القاتلة والذلّ الجماعي، كانت خلال الحرب العالمية الأولى.

اللبنانيون الذين انتفضوا سلميا ضد الطبقة الحاكمة وفسادها الاقتصادي والسياسي، ومساوماتها الطائفية وممارساتها الرجعية والمتخلفة، فعلوا ذلك لأنهم يعرفون بالضبط أن الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على لبنان سياسيا واقتصاديا هم الذين أوصلوه إلى مرحلة التسول من “المجتمع الدولي”، وهم الذين حولوا دولة لا يفترض أن تكون مدقعة وفقيرة، إلى دولة عاجزة عن توفير الأدوية في مستشفياتها، وغير قادرة على توفير الخدمات الأساسية لمواطنيها، أو فرص العمل لشبابها وشاباتها، أو على تسديد قروضها المستحقة، أو توفير رواتب موظفيها، أو حتى على توفير الحد الأدنى مما يسمى “الأمن الغذائي” لشعبها، وتضليل شعبها بشأن القوة المفترضة لعملتها الوطنية.

لن يرحم المؤرخون هذه الطبقة السياسية المفترسة، كما لن يرحموا الطبقة الدينية المتخلفة والمتعصبة بالأغلبية الساحقة مما يسميه اللبنانيون “المرجعيات” أو “المقامات” الدينية.

الثورة اللبنانية هي من أجل تأسيس جمهورية لبنانية ديمقراطية بالفعل، ومستقلة بالفعل، وتمارس سيادتها بالفعل. هي ثورة سياسية لتمكين اللبنانيين من تقرير مصيرهم بأيديهم، بقدر ما هي ثورة اجتماعية تعيد للبناني كرامته الفردية من خلال احترام وصيانة مواطنته.

السلطة مستعدة لتصعيد الترهيب واستخدام العنف المنظم والمضبوط

مثل هكذا دولة، لا تمد يد التسول لأحد، ولا تلجأ إلى مناشدة مجموعات افتراضية إلى حد كبير مثل “الدول المانحة” أو “أصدقاء لبنان” أو “المجتمع الدولي” لإنقاذ لبنان، من الذين أوصلوه إلى محنته الراهنة.

خلال لقائي مع دافيد شينكر، كرر القول أكثر من مرة إن العالم الخارجي لن يساعد لبنان، إلا بعد أن يساعد لبنان نفسه. سئم “المجتمع الدولي” من ادعاءات وأكاذيب الطبقة اللبنانية الحاكمة من أنها ليست مسؤولة بالأصل أو إلى حد كبير عن مشاكل لبنان البنيوية والحقيقية، بل الإسرائيليون أو الأميركيون أو الإيرانيون أو السوريون أو الفلسطينيون، أو السعوديون، وفقا لقناعات كل لبناني.

صحيح أن هذه الأطراف شاركت من وقت إلى آخر في مساعدة أو استغلال اللبنانيين على إيصال بلدهم إلى حافة الانهيار الكامل، ولكن هذه الأطراف الخارجية وجدت من يعانقها في لبنان، أو يضرب بسيفها، وهذا لا يلغي حقيقة أن اللبنانيين وحدهم مسؤولون عن إنقاذ لبنان، أو حقيقة أن هناك أصدقاء للبنان يريدون مساعدته، ولكن بعد التأكد من أنه سيساعد نفسه بجدية هذه المرة.

اقرأ أيضاً: الثورات السلمية ليست خياراً أخلاقياً فقط.. إنها الأنجع

هل يمكن لطبقة فاسدة إصلاح نفسها؟

الجواب هو النفي. ومع دخول الانتفاضة اللبنانية شهرها الثالث، تؤكد ردود ومواقف الطبقة الحاكمة أنها لن تتخلى دون مقاومة عن مصالحها الضيقة وأنها مستعدة لتصعيد الترهيب واستخدام العنف المنظم والمضبوط وإبقائه أدنى بكثير من العنف السافر في إيران والعراق بسبب خصوصيات لبنان، ضد المعتصمين بالخيام، وضد المتظاهرين أمام قصور “ممثلي الشعب” مثل رئيس البرلمان نبيه برّي (ولنذكر اللبنانيين أنه يحتكر هذا المنصب منذ 1992).

الغارات والغزوات التي يقوم بها أصحاب القمصان السود، وغيرهم من الذين يندسون في صفوف المتظاهرين السلميين لاستفزاز عناصر الجيش والشرطة بعد رجمهم بالحجارة، بدأت تتماشى مع ممارسات قمعية أكثر من قبل رجال الأمن الداخلي والجيش ضد المتظاهرين المسالمين. هذه الممارسات من قبل قوى الأمن، بدت نافرة في الأيام الأخيرة لأنها موجهة فقط ضد المتظاهرين السلميين، وليس ضد “زعران” “حزب الله” وحلفائه، وتحديدا “زعران” حركة أمل.

نتيجة الاستشارات النيابية هذا الأسبوع سوف تكون على الأرجح تكليف سعد الحريري، رئيس حكومة تصريف الأعمال، الذي لم يقم بأي تصريف حقيقي للأعمال، ربما لقناعته بأنه سيعود مرة أخرى إلى السراي الحكومي بوضع أقوى.

لن يرحم المؤرخون هذه الطبقة السياسية المفترسة

طبعا، الحريري هو جزء من الطبقة السياسية الحاكمة التي ثار اللبنانيون ضدها، وأرغموه على الاستقالة من رئاسة الحكومة. تأليف الحكومة المقبلة ووضع برنامجها السياسي وحصولها على ثقة البرلمان سوف يستغرق أسابيع عديدة على الأقل. خلال هذا الوقت يمكن توقع ازدياد شراسة الزعران المعروفين، وقسوة قوى الأمن.

قال لي دافيد شينكر، إن الولايات المتحدة تمشي وراء الشارع اللبناني المنتفض وسوف تقبل ما يقبله. بعد أيام سيصل إلى بيروت وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية، السفير دافيد هيل الذي يحتل المنصب الثالث في الوزارة والذي خدم سفيرا لأميركا في لبنان. ويمكننا أن نتوقع عندما يلتقي هيل بالرؤساء اللبنانيين الثلاثة، أن يوصل إلى رئيس البرلمان نبيه برّي رسالة قوية بشأن أعمال العنف والترهيب الذي يمارسه “حراسه” و”زعرانه” ضد المتظاهرين من الشابات والشبان قرب قصره، بما في ذلك الاعتداء على الإعلاميين. وستتابع أنظار المراقبين لقاءات هيل، خصوصا إذا ما كان سيلتقي وزير الخارجية جبران باسيل أم لا.

خلال “الاستشارات” لتشكيل الحكومة الجديدة ـ القديمة، يجب مطالبة الولايات المتحدة بترجمة دعمها المعنوي لمطالب المتظاهرين إلى مواقف واضحة وعلنية برفض اللجوء إلى العنف ضد المتظاهرين السلميين إن كان من “أوباش” “حزب الله” وحركة أمل، أم من قبل قوى الأمن الداخلي أو الجيش، وأن استخدام العنف سيؤدي إلى إجراءات عقابية.

ادعاء الأمين العام لـ”حزب الله”، حسن نصرالله أنه لا يمانع بعودة سعد الحريري لرئاسة الحكومة، هو ادعاء باطل لأن نصرالله يدعو بقوة لعودة الحريري، لأنه يريد أن يختبئ وراء السياسي الوحيد القادر على تسول المساعدات الخارجية من إنسانية وطبية، إلى قروض مسهلة ودعم تقني لدولة كان لـ”حزب الله” وأنصاره وحلفائه، وكذلك للقوى السياسية الأخرى دور كبير في استغلالها ونهبها وإيصالها لحافة الانهيار والإفلاس ودفعها للتسول.

حتى الآن بقيت إنجازات الانتفاضة الشعبية معنوية ورمزية، ولكن تكليف الحريري تشكيل حكومة جديدة يبيّن صعوبة إحداث تغيير سياسي حقيقي وسريع، واعتقد أن هذه دروس قد استوعبتها الانتفاضة.

الطبقة السياسية التي أوصلت لبنان إلى حافة الانهيار لن تقوم بإصلاح نفسها

جمعت الانتفاضة اللبنانيين حول سلسلة مطالب إصلاحية وسياسية وطنية: قانون انتخابي جديد تعقبه انتخابات برلمانية، إصلاحات مالية ومصرفية شفافة، وحكومة خبراء مصغرة تعالج المطالب المعيشية الملحة، وبرنامج لمكافحة الفساد يكون شفافا وقابلا للتطبيق. هذه المطالب لم تتحقق حتى الآن. ولكن يجب عدم التقليل من أهمية الانتفاضة في تخطي اللبنانيين لطوائفهم واكتشافهم لمواطنتهم وتكوينهم لانتماء وطني أوسع، وهذه تطورات أكدت حيوية المجتمع المدني اللبناني.

في المرحلة المقبلة، يجب أن يبقى ضغط الشارع مفروضا على عملية تأليف الحكومة الجديدة والإصرار على حكومة خبراء تبدأ بتطبيق برنامج إصلاحي في وضح النهار. فرص أي حكومة من هذا النوع في الحصول على دعم اقتصادي من بعض أصدقاء لبنان والمؤسسات المالية الدولية سوف تكون أفضل، وخاصة إذا قبل لبنان بشروط صندوق النقد الدولي الذي سيقدم للبنان مساعدات تقنية، وسوف يفرض شروطا قد تكون قاسية بعض الشيء بما في ذلك إجراءات مراقبة خارجية على كيفية إنفاق القروض القصيرة الأجل لمنع الفساد والهدر.

الطبقة السياسية التي أوصلت لبنان إلى حافة الانهيار لن تقوم بإصلاح نفسها. ولذلك فإن ضغوط الشارع المستمرة على الحكومة الجديدة، إضافة إلى الضغوط الإيجابية من الدول التي لها مصلحة في وقف الانهيار اللبناني، ستكون العامل الأساسي الذي يمكن أن يضمن حدوث إصلاحات اقتصادية وسياسية جدية للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية اللبنانية.

السابق
تحليق مروحية بريطانية فوق البلوك 9 جنوب لبنان.. ما هو السبب؟
التالي
بعد المليار دولار.. جوكر يحتفظ بصدارة أفلام 2019