كيف صار المستضعفون مستكبرين؟

إشكال

في ذاكرتي أننا يوم كنا صبية في بعلبك اللبنانية، نحن أولاد من يقولون إن الدين لله والوطن للجميع، كنا نسعد يوم نتبارى في كرة القدم وأقراننا من أبناء “حزب الله”، إذ على عكس مبارايتنا السوقية الشوارعية، حيث الغضب والصراخ والكلام البذيء، كان اللعب ضد صبية “حزب الله” منضبطا هادئا، يبدأ عادة بتلاوة سورة “العصر” القرآنية، ويتمتم بعدها أولاد الحزب الدعاء بطول عمر الإمام القائد، الخميني وقتذاك، حتى ظهور القائم بالزمان.

واللعب ضد صبية “حزب الله” كان “على الذمّة”، أي الضمير، وهو يعني أن اللاعب نفسه يعترف إن ارتكب خطأ أو إن لمسته الكرة قبل خروجها.

ولم يكن يبدو أن أبناء “حزب الله” يسعون للفوز، بقدر ما كانوا يحرصون على الأدب والأخلاق وحسن سير اللعبة. حتى عندما كان أحدنا يصرخ “خطأ” أو “كرة يد”، وهي لا تكون كذلك، يلتفت لاعب “حزب الله” ويسأله “على ذمتك”، وإذا اجاب اللاعب بالإيجاب، يتنازل لاعب الحزب فورا، وهو ما كان يثير في اللاعب المفتري الشعور بالذنب، ويجبر الجميع على اللعب بأخلاق عالية وضمير، حتى لا نستغل طيبة صبية الحزب.

لم يتأخر نصرالله في إرسال “المقاومة” لتأديب معارضيه اللبنانيين في 2008

في صغرنا، كانت أخلاق “حزب الله” الرفيعة ترفع من أخلاق كل اللاعبين، واللعبة عموماً.

“حزب الله” استمر في أخلاقه شبه الملائكية طوال الثمانينيات والتسعينيات، وكان على الرغم من قوته العسكرية وتنظيمه، لا يتدخل في شؤون لبنان الداخلية، لا السياسة ولا البلديات ـ باستثناء محاولات أسلمة المجتمع في الثمانينيات وحربه مع حركة أمل في نهاية الثمانينيات. على مدى عقدين، يندر أن أدلى “حزب الله” برأي في السياسة أو الاقتصاد، بل ركّز اهتمامه على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان.

وفي سني مقاومة الاحتلال، عدّل “حزب الله” خطابه الإسلامي، وأسمى نفسه “المقاومة اللبنانية”، وتبنى قرار مجلس الأمن رقم 425، والذي كان ينص على انسحاب إسرائيل من لبنان، وهو تبني كان إنجازا على طريق “لبننة الحزب”، الذي لم يعترف بادئ الأمر بكيانات “سايكس بيكو” بحدودها القائمة، بل دعا لإقامة حكم إسلامي لا حدود له، بولاية نائب إمام الزمان، الولي الفقيه ومرشد الثورة الإسلامية في إيران.

وبلغت لبننة “حزب الله” أنه عدّل من تاريخه كذلك، فالحزب الذي أعلن تأسيس نفسه في بعلبك في العام 1982، وكان يوقع بياناته باسم “حزب الـ…” تفاديا لكتابة اسم الجلالة الإلهية، راح يردد أنه تأسس في العام 1985 في بيروت. والفارق بين تاريخيّ التأسيس يعفي الحزب من مسؤولية تفجيرات السفارة الأميركية والمارينز والقوات “المتعددة الجنسيات”، وتاليا يعفي الحزب من صفة الإرهاب بالشكل المتعارف عليه في الأمم المتحدة والعواصم الغربية.

من غير المعروف إن كان “حزب الله” هو الذي قرر الابتعاد عن السياسة اللبنانية في أول 23 عاما من عمره، أو إن أجبره على ذلك نظام الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، الذي خاض مواجهتين في وجه إيران والميليشيا الموالية لها ليثبت أنه صاحب اليد العليا في لبنان: الأولى الحادثة المعروفة بـ “مجزرة ثكنة فتح الله” في العام 1987، والتي اقتحمت فيها قوات الأسد مقر قيادة “حزب الله” وأعدمت العشرات من أعضائه، والثانية المعروفة بـ “مجزرة جسر المطار”، والتي قتلت فيها القوات الأمنية اللبنانية، بإمرة سورية في 1993، تسعة كانوا يتظاهرون ضد السلام العربي ـ الإسرائيلي. لم ينتقم “حزب الله” لضحاياه من نظام الأسد، وكان يبرر تقاعسه أن هذا النوع من المواجهات يعيق المعركة الأكبر، وهي تحرير جنوب لبنان.

بقي “حزب الله” وزعيمه حسن نصرالله فوق الشبهات، بل نالا حظوة لانصبابهما على مواجهة الاحتلال من دون التورط في سياسة لبنان وموبقاتها، إلى أن حدث ما لم يكن في الحسبان: انسحبت إسرائيل في 2000، وصار “حزب الله” جيشا بلا حرب، وبدون سبب وجود.

اقرأ أيضاً: لهذه الأسباب يخشون الانتفاضة..

حاول الحزب الموالي لإيران بادئ الأمر الانخراط في مواجهات ثانوية واستخباراتية مع إسرائيل، لكن هذه لم تجد، إلى أن غيرّت حرب العراق في العام 2003 المنطقة، إذ بعد توجّسها من الديمقراطية القادمة، تخلّت السعودية عن حذرها، وتعاونت مع أميركا لتثبيت استقرار العراق، بدلا من هزّه كما كانت تفعل إيران، وهو تباين أدى لإنهاء الترتيب السعودي السوري في لبنان، فاغتيل رمزه، رئيس الحكومة رفيق الحريري، وهو اغتيال أجبر الأسد على سحب قواته من لبنان في العام 2005.

هكذا وجد لبنان نفسه بلا وصاية، ووجد نصرالله الباب مفتوحا أمام وظيفة جديدة لـ “المقاومة”، التي لم يتأخر في إرسالها لتأديب معارضيه اللبنانيين في 2008. منذ ذلك التاريخ ونصرالله هو الحاكم الأوحد في لبنان.

خسر المستضعفون حكمتهم يوم تملكتهم القوة، فتحولوا إلى مستكبرين

على أن انغماس نصرالله في السياسة يتطلب حكما المناورة، والانقلاب في المواقف وتغييرها، وهو أمر يجعل من اللعب “على الذمّة” أمرا مستحيلا، فالسياسة عكس الضمير. ومع التغير في دور نصرالله وشخصيته، تغير معه مناصروه، فهؤلاء تخلّوا عن “اللعب النظيف”، وصاروا مثله، يصرخون، يهددون، يتآمرون، يتهمون الناس بالعمالة زورا. صار أبناء “حزب الله” يرتدون قمصانهم السود جماعيا في الأيام التي ينوون الاعتداء فيها على من يخالفهم الرأي في الشوارع، وصاروا يضربون اللبنانيين، ويشتمونهم على وسائل التواصل الاجتماعي.

كيف صار المستضعفون مستكبرين؟ وإن ظهر الإمام المنتظر ليملأ الارض قسطا وعدلا بعدما امتلأت ظلما وجورا، من هم الظالمين المستكبرين الذين سيحاربهم الإمام؟ ومن هم المظلومين المستضعفين الذين سينصرهم ويدافع عنهم؟ أم أن الإمام سينتقي، بطائفية، من هم على مذهب أهل البيت، ظالمين كانوا أم مظلومين؟

القوة تعمي البصيرة. لذا، صنّف القدماء العالم إلى نصفين، حكمة وقوة. الحكمة كالليل، سوداء خالدة، والقوة كالشمس، بيضاء فانية، تشرق وتغيب، أي تلد وتموت. خسر المستضعفون حكمتهم يوم تملكتهم القوة، فتحولوا إلى مستكبرين، وصارت العدالة تنتظر أفولهم. أما الغالبون، فهم من تواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر.

السابق
محتجّون يُقفلون مداخل مركز مصلحة تسجيل السيارات!
التالي
عبد المهدي يرفض الاستقالة و«مبادرة العبادي» تُلهم ثوّار بغداد