غاز شرق المتوسط: سباق البوارج والحفارات

الغاز

هل يبقى الصراع على موارد النفط والغاز في شرق البحر المتوسط بين تركيا ومن ورائها روسيا وبين قبرص واليونان ومن ورائهما مصر والاتحاد الأوروبي وأميركا في إطاره السياسي والقانوني، وتبقى الغواصات والبوارج واتفاقات ترسيم الحدود وأعمال الاستكشاف والحفر في مناطق متنازع عليها مجرد أوراق تفاوضية؟ أم تنزلق الأوضاع إلى حرب كما تشير المعطيات الظاهرة والتهديدات المتصاعدة.

من دون الإستعجال بالإستنتاج، يمكن القول، إن الصراع مفتوح على كل الاحتمالات لأن طرفي النزاع المباشرين أي تركيا من جهة وقبرص واليونان من جهة أخرى، هما في حالة حرب فعلياً منذ قرون عدة، حرب وقودها صراعات وأحقاد عرقية ودينية وسياسية، وأضيف لها الآن وقود أسرع اشتعالاً وأشد خطورة هو موارد النفط والغاز، وساهمت الاكتشافات الكبيرة لحقول الغاز في تحريك مسألة ترسيم الحدود البحرية التي تعتبر بالغة التعقيد نظراً الى التباين الكبير في تحديد كل دولة لحدود منطقتها الاقتصادية الخالصة. وهي مسألة غير قابلة للحل في إطار القانون الدولي والمفاوضات «على البارد». يضاف إلى ذلك وهذا هو الأهم، تحول ملف النفط والغاز في شرق المتوسط إلى عنصر رئيسي في الصراع الدولي بين أميركا وروسيا وأوروبا وكذلك الصراع الإقليمي بين مصر وتركيا وإسرائيل.

ولما كانت الحروب تتم وفق حسابات القوى الكبرى وليس الإقليمية مهما علا شأنها، فإن اندلاع حرب هو احتمال مستبعد حالياً، وإن كان من غير المستبعد أبداً حصول مواجهات عسكرية محدودة تأخذ شكل «جرعة منشطة» للمفاوضات أو «مفاوضات على الحامي » تستهدف تليين المواقف وتغيير التوازنات القائمة لتسهيل الاتفاق.

جوهر الخلاف
يتركز الخلاف بين كل من قبرص واليونان من جهة وتركيا من جهة أخرى حول ما يلي:

  • مشكلة مستعصية مع قبرص تتمثل بدخول الجيش التركي إلى قبرص عام 1973وإقامة “جمهورية شمال قبرص التركية” كدولة كاملة السيادة، ما يعني أنها تمتلك مياهاً إقليمية ومنطقة اقتصادية خالصة أسوة «بقبرص اليونانية»، أو على الأقل يمتلك القبارصة الأتراك حقوقاً متساوية مع القبارصة اليونانيين في موارد النفط والغاز.
  • خلاف سياسي تاريخي مع اليونان ونزاع حدودي يتضمن السيادة على الجزر في بحر إيجه، الذي يضم سبعة تجمعات رئيسية من الجزر تسيطر اليونان على خمسة تجمعات منها، وتسعى تركيا إلى توسيع سيطرتها على الجزر، مطالبة بإعادة النظر بمعاهدتي «سيفر» 1920 و «لوزان» 1923 اللتين رسمتا حدود تركيا الحديثة، بإعتبارهما «ظالمتين ومجحفتين، وتمّ إجبار الإدارة التركية الضعيفة على توقيعهما وعلى التخلي عن جزر إيجه المحاذية للبر التركي»، كما صرّح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخراً قائلاً «الصرخة من تلك الجزر نسمعها هنا»، واقترب النزاع على هذه الجزر من حدود الحرب المباشرة العام 1996 خلال مواجهة جزيرة «إيميا».

ولفهم أبعاد المشكلة نشير إلى أن المياه الإقليمية لكل من تركيا واليونان تمتد لمسافة ستة أميال بحرية في بحر إيجه. وبموجب ذلك، تقدر المياه البحرية اليونانية حالياً بنحو 43.5 في المئة من المساحة الإجمالية لبحر إيجه مقابل 7.5 في المئة لتركيا ونحو 49 كمياه دولية، وما أثار حفيظة تركيا، هو مطالبة اليونان بزيادة مساحة المياه الإقليمية لتصل إلى 12 ميلاً استناداً إلى ما نصت عليه اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وإذا تمّ ذلك ترتفع حصتها إلى 71 في المئة مقابل 8.8 في المئة لتركيا وتتقلص المياه الدولية إلى 20 في المئة، وقد ردت تركيا بعنف شديد على هذه المطالبة، ووصل الأمر إلى إصدار البرلمان تفويضاً دائماً للحكومة باتخاذ كافة الإجراءات بما فيها استخدام القوة العسكرية للدفاع عن المصالح التركية، وهو ما دفع باليونان للتريث الدائم في التنفيذ.

  • صراع على موارد النفط والغاز، وينقسم إلى شقين، الأول يتعلق بسعي تركيا إلى الفوز بأكبر حصة ممكنة من هذه الموارد عن طريق توسيع رقعة المياه البحرية التابعة لها مباشرة أو عبر جمهروية قبرص التركية. والثاني يتعلق بسعيها لتكون المركز الإقليمي لتصدير وتجارة الغاز بإقامة خطوط أنابيب تربط حقول المتوسط بتركيا ومن ثم بأوروبا أو بإستخدام محطات التسييل في ميناء جيهان، وذلك ما يفسر الموقف المتشدد لمصر التي تسعى جاهدة لتكون المركز الإقليمي، كما يفسر الموقف المتشدد لأوروبا التي تراهن على غاز المتوسط لتقليص اعتمادها على روسيا كمصدر للغاز وعلى تركيا كدولة عبور.
  • الصراع الجيوسياسي في المنطقة وبخاصة ما يتعلق منه بمعارضة أوروبا ومصر وإسرائيل لتوسع النفوذ التركي في المنطقة في ظل حكم حزب العدالة والتنمية ودعمه لجماعة الأخوان المسلمين. وترجمت تلك المعارضة بحلف سياسي، اقتصادي، بترولي، وأحياناً عسكري (مناورات مشتركة دورية) بين اليونان، قبرص، مصر، إسرائيل وبدعم مباشر من الاتحاد الأوروبي، ودعم غير مباشر حيناً وملتبس حيناً آخر من قبل الولايات المتحدة، وهكذا وجدت تركيا نفسها وحيدة بإستثناء دعم من قبل روسيا التي تتعامل مع قضايا المنطقة وتحالفاتها «بالقطعة».

من هنا يمكن القول إن طرفي الصراع هما في خضم حرب فعلية يخوضانها على جبهتين متلازمتين؛ الأولى هي الجبهة القانونية والسلاح المستخدم فيها هو الخرائط والخرائط المضادة، والثانية هي الجبهة السياسية ـ العسكرية والسلاح المستخدم هو التحالفات والمواقف والتصريحات المدعومة بالبوارج والغواصات.

الجبهة القانونية
«القطبة المخفية» في الحرب على هذه الجبهة هي أن تركيا لم ترسم حدودها وفقاً للقانون الدولي مع أي من الدول المجاورة، بل اكتفت بإعلان منطقتها الاقتصادية الخالصة من جانب واحد، كما إنها لم تنضم إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار ولا إلى محكمة العدل الدولية، وهذا ما يعني، ربطاً دائماً للنزاع، كما يعني عدم إمكانية حل أي نزاع استناداً إلى القانون الدولي أو التحكيم أو القضاء الدولي وبخاصة المحكمة الدولية لقانون البحار بل يجعل التفاوض والحل خاضعاً لإعتبارات السياسة والقوة العسكرية أو التهديد بها.

المقاربة القبرصية
اعتمدت قبرص خطة شاملة لوضع وتنفيذ إطار قانوني وتشريعي يسمح بإستغلال ثروة النفط والغاز في مياهها البحرية. وشمل ذلك ما يلي:

  • تحديد منطقتها الاقتصادية الخالصة وترسيم حدودها البحرية مع جيرانها، فتم ترسيم الحدود مع مصر في العام 2004، ومع لبنان في العام 2007 (ينتظر أن يتم خلال شهر سبتمبر الحالي إستكمال إجراءات إقرار اتفاقية الترسيم)، ومع إسرائيل في العام 2010، كما دعت تركيا للدخول في مفاوضات لتحديد حدود مناطقها البحرية، وكان آخر هذه الدعوات بموجب رسالة إلى الأمم المتحدة في 12 ديسمبر 2018، وتم إيداع هذه الاتفاقات لدى المرجعيات الدولية.
  • أطلقت قبرص ثلاث دورات للتراخيص للتنقيب عن النفط والغاز، كانت الأولى في 4 مايو 2007، والثانية في 11 فبراير 2012، والثالثة في 27 يوليو 2016، ونجحت على مدى الدورات الثلاث في تلزيم ثمانية بلوكات من أصل 13 بلوكاً، لكبريات الشركات العالمية، مع ملاحظة أن شركتي «إيني» الإيطالية و«توتال» الفرنسية تحظيان بحصة الأسد من العقود وهو أمر يعكس الاهتمام الأوروبي بقبرص وبغاز شرق المتوسط عموماً كبديل ولو جزئي للغاز الروسي، واعتبر المراقبون أن فوز شركة إكسون موبيل بالبلوك الرقم 10 بالشراكة مع قطر للبترول في دورة التراخيص الثالثة، مؤشر مهم على اهتمام أميركي متزايد بغاز شرق المتوسط كما أعلنت الشركة عزمها على المشاركة في دورات التراخيص المصرية.
  • حققت قبرص إكتشافات مهمة كان أبرزها حقل «أفروديت» الذي اكتشفته شركة «نوبل إينرجي» الأميركية في العام 2011 ويقدر حجمه بنحو4.5 تريليون قدم مكعب من الغاز وهو حقل مشترك مع إسرائيل، وهناك مباحثات بين الجانبين لإقتسام موارد الحقل، كما أعلن تحالف «إكسون موبيل» و«قطر للبترول» في فبراير الماضي عن اكتشاف حقل ضخم هو «غلاوكوس» ويحتوي ما بين 5 و 8 تريليون قدم مكعب، إضافة إلى حقول أصغر مثل كاليبسو، ويقدر إجمالي احتياطي الغاز المؤكد في المياه القبرصية بنحو 20 تريليون قدم مكعب يومياً.
  • حققت قبرص إختراقاً مهماً في حل مشكلة التصدير التي تعتبر أبرز معوقات استغلال غاز شرق المتوسط، تمثّل في إبرام إتفاقية مع مصر لمد خط أنابيب إلى محطة «إدكو» لتسييل الغاز وتصديره، كما تشارك قبرص بفعالية في مشروع خط أنابيب شرق المتوسط «ايست ميد» الذي يفترض أن يصل إلى السواحل الإيطالية مروراً بقبرص واليونان.
  • تمكّنت قبرص من بناء تحالفات إقليمية ودولية تشكل ضمانة لها وعنصر قوة في صراعها مع تركيا، فإضافة إلى عضويتها في الاتحاد الأوروبي، هي عضو مؤسس في منتدى غاز شرق المتوسط، كما ستكون عضواً مؤسساً في «المركز الأميركي للطاقة» إلى جانب أميركا وإسرائيل واليونان، وهو المركز الذي ينصّ على إنشائه مشروع قانون يدرسه الكونغرس حالياً، بإسم «قانون شراكة الطاقة والأمن في شرق المتوسط». واللافت أن مصر ليست طرفاً في هذا المركز حتى الآن وهو ما يؤشر الى إزدواجية السياسة الأميركية.

المقاربة التركية: خرائط ونزاعات
منذ إطلاق قبرص في مسيرة استغلال ثروات النفط والغاز، بادرت أنقرة إلى اتخاذ خطوات متلاحقة على مسارين مترابطين ومتكاملين؛ الأول، المسار القانوني والدبلوماسي حيث قدمت جملة اعتراضات إلى الأمم المتحدة على قيام قبرص بترسيم حدود منطقتها الاقتصادية الخالصة «من دون التشاور والتفاوض مع تركيا بإعتبارها شريكاً لا يمكن تجاهله» كما أعلن الرئيس أردوغان.

كما قامت تركيا بتهيئة «ميدان المعركة القانونية»، من خلال ترسيم حدود منطقتها الاقتصادية وجرفها القاري من جانب واحد مقتطعة مساحات شاسعة من مياه قبرص واليونان، وذهبت بعيداً في التصعيد على هذه الجبهة حين أبرمت في 21 سبتمبر 2011 إتفاقية مع جمهورية قبرص التركية لتحديد الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة، وحرص الرئيس أردوغان على توقيع الاتفاقية بنفسه مع رئيس جمهورية شمال قبرص التركية درويش أروغلو على هامش إجتماعات الأمم المتحدة لإضفاء طابع قانوني دولي عليها، وتمّ استكمال «عدة الحرب القانونية» بتوقيع إتفاقية للتنقيب عن النفط والغاز (تقاسم إنتاج) في 2 نوفمبر 2011، بين جمهورية قبرص التركية وشركة البترول التركية تشمل كافة بلوكات المنطقة الاقتصادية «لـ قبرص التركية».

.. بوارج وحفارات
المسار الثاني والأهم هو اعتماد دبلوماسية البوارج والتهديد أو التفاوض تحت فوهات المدافع بهدف عرقلة مسيرة قبرص واليونان ومصر بإستغلال موارد الغاز بمعزل عن تركيا، وهي السياسة التي برعت أنقرة في استخدامها وحققت نتائج باهرة من خلالها على مدى العقود الماضية سواء مع سورية أو العراق، او مع اليونان بالتحديد التي لم تقدم حتى الآن على إعلان سيادتها على بعض الجزر المتنازع عليها مع تركيا كما أشرنا.

ودأب المسؤولون الأتراك على التهديد بإعتماد الحل العسكري، ولكن أخطر هذه التهديدات تلك التي جاءت على لسان الرئيس أردوغان بتاريخ 20 أغسطس 2019 في ذكرى احتلال شمال قبرص، بقوله: «إن الجيش التركي لن يتردد في تكرار الخطوة التي قام بها قبل 54 عاماً دفاعاً عن حقوق وأمن القبارصة الأتراك»، وأضاف في رسالة وجهها إلى زعيم القبارصة الأتراك ونشرتها دائرة الإعلام في الرئاسة التركية، «من يعتقدون أن جزيرة قبرص وثروات المنطقة تابعة لهم فقط سيواجهون حزم تركيا وجمهورية شمال قبرص التركية، التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من الأمة التركية».

طبعاً لم يقتصر ردّ الفعل التركي على التهديد، فقد أرفقت التهديدات بأعمال عسكرية مباشرة، كان أكثرها خطورة، قيام البحرية التركية في فبراير 2018، بمنع سفينة الحفر «سايبيم» التابعة لشركة «إيني» الإيطالية من مباشرة عمليات الحفر في البلوك الرقم 3 من المنطقة الاقتصادية لقبرص المحاذية للحدود اللبنانية..

كما قامت تركيا بأنشطة مسح زلزالي وحفر في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص، حيث أرسلت سفينتين للمسح الزلزالي هما «بربروس» (إسم الأميرال العثماني خير الدين بربروس) التي باشرت عملها منذ العام 2014، والسفينة «أوروج رئيس»، ثم صعّدت تدخلها بإرسال سفينتين للحفر هما «الفاتح» (تيمناً بالسلطان محمد الفاتح الذي فتح اسطنبول) والتي باشرت نشاطها في شهر أكتوبر 2018، ثم السفينة «يافوز» أو «الحازمة»، التي باشرت عملها في 19 يونيو 2019، وذلك بدعوى أن هذه السفن تعمل في بلوكات تقع تبعاً للترسيم التركي داخل المياه البحرية لتركيا أو لجمهورية قبرص التركية.

لماذا تتجنب تركيا المسار القانوني؟
السؤال الذي لطالما يتردد، لماذا تسلك تركيا مسار التهديد و«التعدي»، وتتجنب مسار القانون الدولي لترسيم حدودها وحلّ النزاعات التي قد تنشأ وبالتالي حفظ حقها في موارد النفط والغاز ولعب دور ما في نقله وتجارته؟

الجواب متشعب وأبرز معطياته ما يلي:

  • يجب عليها الانضمام إلى إتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار واعتمادها كمرجع لترسيم الحدود والتي تنص على عملية الترسيم تتم بالتفاوض بين دولتين، الأمر الذي وقع تركيا «في المحظور» أي الاعتراف بقبرص كدولة مستقلة، وليس كجزيرة متنازع عليها كما تعتبرها.
  • لما كانت جمهورية قبرص التركية غير معترف بها من قبل المجتمع الدولي كدولة مستقلة، فهي لا تتمتع بأي وضع قانوني ولا بحقوق الدولة الساحلية وطبعاً لا يمكنها المطالبة بمنطقة اقتصادية خالصة أو مياه اقليمية، وبالتالي فإن اتفاقية الإستكشاف والإنتاج بين جمهورية قبرص التركية وشركة البترول التركية تعتبر استناداً إلى القانون الدولي غير قانونية وباطلة، وقد تقدمت قبرص بالفعل بدعاوى قضائية على الشركة التركية.
  • اللجوء إلى القانون الدولي من دون تسوية سياسية وخارج «بازار التفاوض على البارد أو الحامي» يؤدي إلى خسارة تركيا الجزء الأكبر مما تعتبره منطقتها الاقتصادية وجرفها القاري، حيث بالغت في تحديد حدودها البحرية، حتى إن حدود جرفها القاري، كما حددته، يصل إلى المياه الليبية ويضعها على تماس مباشر مع مصر، وتلك على أي حال خطوة محسوبة تستهدف خلق تماس حدودي مع مصر وإثارة نزاع معها على أمل تحصيل «ثمن سياسي» في بازار التفاوض.
  • تجاوزت تركيا في تحديد حدودها البحرية خط الوسط مع الدول المقابلة لها وتحديداً قبرص واليونان، وهذا الخط يعتبر مبدأ رئيسياً في اتفاقية قانون البحار، بل أكثر من ذلك ينص هذا القانون على أنه في حال عدم وجود اتفاقية لترسيم الحدود بين دولتين كما في حالة تركيا، فإن المرجعيات الدولية لا تنظر أصلاً في مطالبة أي دولة بحقوق تتجاوز خط الوسط، ويشار هنا إلى أن كلاً من قبرص ومصر ولبنان وإسرائيل قد اعتمدت خط الوسط في ترسيم الحدود البحرية بينها. وتبرر تركيا عدم اعتمادها على هذا الخط، لأنها تمتلك سواحل أطول من قبرص، ولكن ذلك يبقى مجرد تبرير، لأن مصر مثلاً تمتلك أيضاً سواحل أطول من السواحل القبرصية وقد اعتمدت خط الوسط لترسيم حدودها مع قبرص، وكذلك فعلت إسرائيل ولبنان. (راجع الرسم)
  • إن المرجعيات الدولية (محكمة العدل الدولية المختصة بالنزاعات البحرية، ومحكمة إتفاقية قانون البحار) هي ذات ولاية اختيارية أي تتطلب موافقة الطرفين على اللجوء إليها، ولكن عند اللجوء إليها تصبح الولاية جبرية، وتصبح الأحكام الصادرة عنهما نهائية وغير قابلة للطعن، وتركيا تدرك سلفاً أن تلك الأحكام لن تكون لصالحها.

إلى أين؟
إلى المزيد من المواجهات على الجبهة القانونية والسياسية وإلى تدعيم التحالفات القائمة ونسج تحالفات جديدة، أما على الجبهة العسكرية، فإلى نشر المزيد من القطع البحرية لحماية أو عرقلة عمليات الاستكشاف والتنقيب، وكذلك إلى المزيد من «استعراض العضلات» والتهديدات وصولاً إلى مواجهات مباشرة ولكن من النوع «المحسوب بدقة». فعلى الجبهة القانونية والسياسية يتوقع أن تبادر تركيا قريباً، كما أعلنت، إلى عقد مؤتمر دولي تقدّم خلاله مطالعات قانونية وسياسية عن صحة ودقة حدود منطقتها الاقتصادية الخالصة وجرفها القاري، وكذلك، تبريراً سياسياً وقانونياً لوضعية جمهورية قبرص التركية وحقها في امتلاك منطقة اقتصادية خالصة، وقد قامت وزارة الخارجية التركية بإعداد ملف قانوني متكامل يستند إلى تفسير بعض نصوص إتفاقية قانون الأمم المتحدة لقانون البحار، وبخاصة تلك المتعلقة بكيفية رسم حدود الجروف القارية والمناطق الاقتصادية الخالصة، وهي مهمة لن تكون سهلة .

وعلى الجبهة السياسية فمن المرجح أن تسعى تركيا إلى ترسيخ تحالف نفطي ـ غازي مع روسيا في شرق المتوسط، يشمل بالطبع سورية، مع مساعٍ«لمغازلة» لبنان الذي أعلن انه لن ينضم إلى منتدى غاز المتوسط لأنه يضم إسرائيل، وزيارة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو مؤخراً إلى بيروت، جاءت في جانب منها بهذا الهدف.

ويستند التحالف التركي الروسي إلى مصالح عليا، تتجاوز «الخلافات الموضعية» في سورية، وقد أعلن وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك صراحة في مقابلة مع وكالة الأناضول في 5 أغسطس الماضي عن«استعداد بلاده لمرافقة تركيا في التنقيب عن مصادر الطاقة في شرق البحر المتوسط »، منوهاً «بالدور الكبير الذي تلعبه الشركات الروسية في هذه المنطقة». وتتمثل هذه المصالح العليا بالإضافة إلى الفوز بحصة من حقول الغاز، بالسعي لإعتماد تركيا كدولة عبور لنقل الغاز إلى أوروبا ما يسمح بإستمرار تحكم الدولتين بإمدادات الغاز إليها.

تركيا مركز إقليمي للغاز
والمفارقة أن روسيا تسعى لإحياء المباحثات بين إسرائيل وتركيا المتعلقة بخط الأنابيب بينهما، والمفارقة الأكبر أن الإدارة الأميركية يبدو ـ إذا جاز الاستنتاج ـ وكأنها لا تمانع في إنشاء مثل هذا الخط، الذي أشارت إليه خريطة رُفِعت عنها السرية من قبل «مكتب موارد الطاقة» التابع لوزارة الخارجية الأميركية الشهر الماضي، وذكرها سايمون هندرسون في مقال نشره معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى. والحقيقة المزعجة لقبرص واليونان أن تركيا تشكل دولة العبور الأكثر جدوى تجارياً من حيث التكلفة نظراً الى قربها من مواقع الحقول ولأنها تمتلك بنية تحتية جاهزة لنقل الغاز إلى أوروبا.

أما قبرص واليونان فيبدو واضحاً أنهما تسعيان إلى دفع الاتحاد الأوروبي لتوسيع العقوبات التي فرضاها على تركيا في 15 يوليو الماضي بسبب ما وصفاه بـ «أنشطة التنقيب غير القانونية في المياه القبرصية»، كما قد ترفعان شكوى إلى مجلس الأمن باعتبار أن النزاع يهدد السلم والأمن الدوليين، سعياً وراء فرض عقوبات غير عسكرية ضد تركيا،إضافة إلى سعيهما لتعزيز التحالف مع مصر وإسرائيل وزيادة التدريبات والمناورات العسكرية المشتركة لخلق نوع من «توازن الرعب» مع تركيا، ودفعها إلى التراجع.

ولكن يبدو أنه من المبكر جداً الحديث عن تراجع تركيا، أولاً لأن عناصر الضغط عليها ليست كافية حتى لا نقول ليست جدية، فالعقوبات الأوروبية وهي الحدّ الأقصى الذي يمكن للاتحاد الأوروبي أن يبلغه، ذات تأثير ضئيل وغير فعالة كما أعلنت أنقرة أكثر من مرة. وثانياً لأن تركيا تعتبر منطقة حوض البحر المتوسط هي مداها الحيوي ومكوناً رئيسياً في استراتيجية ترسيخ دورها الإقليمي. والسبب الثالث أن أردوغان الذي اثبت أنه مستعد لتجاوز «الخطوط الحمراء» يدرك تماماً أن الصراع مع اليونان وقبرص حول الحقوق التاريخية وحول موارد النفط والغاز بالذات، يشكّل قضية جامعة لمختلف المكونات السياسية وعاملاً مهماً في «شد العصب التركي» حول حزب العدالة والتنمية الذي بدأ يفقد شعبيته.

ماذا تريد تركيا فعلاً
بعيداً عن التحليل الاستنتاج، الحل الوسط الذي تسعى إليه تركيا هو حل مشكلة القبارصة الأتراك وضمان حصتهم من الموارد البحرية، والثاني توسيع رقعة مياهها البحرية. وقد ذكرت وثيقة نشرتها وزارة الخارجية التركية أن تركيا تدفع باتجاه مفاوضات مباشرة بين القبارصة الأتراك واليونانيين بمشاركة الأمم المتحدة لتحديد سبل الاستفادة المشتركة من موارد النفط والغاز، وتوظيف أي اتفاق يحصل لإنهاء الصراع في الجزيرة.

توحيد جزيرة قبرص
وما لم تذكره الوثيقة طالب به الرئيس أردوغان صراحة، أي العودة إلى اتفاقية استقلال الجزيرة العام 1960، وقد عبّر عن ذلك في خطاب نشرته على نطاق واسع دائرة الإعلام في الرئاسة التركية بقوله: «إن الاستقرار في قبرص وشرق المتوسط لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال مراعاة حقوق ومصالح تركيا وجمهورية شمال قبرص التركية» وأضاف أن «أي حل محتمل في قبرص لن يكون إلا في ظل ظروف يتم فيها ضمان المساواة السياسية للقبارصة الأتراك وتلبية مخاوفهم الأمنية، ولن يتم التخلي عن هذا الهدف تحت أي ظرف من الظروف».

غاز شرق المتوسط دخل بازار الصراع الإقليمي والدولي، ويحتاج استغلاله وتوظيفه في تنمية اقتصادات دول المنطقة إلى «تبريد الرؤوس الحامية»، والوصول بأسرع ما يمكن الى تسويات على قاعدة «خط الوسط»، فشركات البترول العالمية لن تضخ مليارات الدولارات لتطوير آبار قابلة للإنفجار، ولن تنتظر طويلاً، فهناك آبار تنتظر هذه المليارات في مختلف دول العالم.

السابق
صحيفة اسرائيلية: نهاية عهد نتيناهو
التالي
هكذا فسر ناصر فقيه «جوع» بعض الفنانين اللبنانيين