اعترافات نزيلة مستشفى للأمراض العقلية في رواية «عباءة سوداء»…

عباءة سوداء
تُصَوِّر رواية "عباءة سوداء" للكاتبة السعودية فضية ثاني الريس، الحالات النفسية التي تتخبط في متاهاتها الهذيانيّة، والصحوية، المرأة ذات العباءة السوداء، التي تُدعى "مشخص"، بطلة وراوية رواية "عباءة سوداء" (صادرة عن "دار الريس" – بيروت، طبعة أولى، 2019).

وهذه الرواية يتشكل مضمونها الروائي من اعترافات “مشخص”، المرأة الثلاثينية والتي لفّها السواد من الخارج ومن الداخل على حدّ سواء، على أن الأمر الأهم في حالتها هذه، هو “السواد الداخلي” الذي سيطر على عقلها، بعدما أضحت نزيلة مستشفى للأمراض العقلية. إذاً إن رواية “عباءة سوداء”، هي اعترافات نزيلة مستشفى للأمراض العقلية.

والفصل الأخير من هذه الرواية يشتمل على المقطع التالي: حمدتُ الله كثيراً أن أمي لم تعرف الحقيقة حتى الآن، وإلا كانت ردة فعلها أسوأ من انفعال خَلَفْ كثيراً!

اقرأ أيضاً: وسام شيّا يبوح شعراً في مجموعته الأولى «ماذا لو؟»

تأثرتُ نفسياً إلى حد الانطواء على ذاتي، والانكفاء الداخلي. ذبلت أمامي مباهج الحياة. تعبتُ من استمرار مقاطعة خلَف لي. لم أستطع التحمل. وبسبب بُعده عني نما الحزن في نفسي، وتعمق أكثر، وعبثت بي الظنون، وسادت في عقلي فوضى الجنون. لم أعرف أين الحد الفاصل بين اليقين والوهم، بين الحقيقة والخيال، بين السعادة والحزن.

ولم أعد أغضب لأن أحداً ما تجاهلني، ولا لأني أحمل اسماً لا يعجبني، ولا لأني أضطر إلى تحمّل تسلط المديرة ريم العبد الرحمن، ولا طلاقي، ولا تمتمات امتعاض زريفة وشتائمها التي لا تنتهي. بل ها أنا أدركت بوابة المعاناة الحقيقية، وبقيت تائهة في هذا الضباب الكثيف، وكانت رؤيتي معدومة.

الآن. أتذكر تلك المواقف والحكايات وأنا في غرفتي البيضاء الصغيرة في مستشفى الأمراض العقلية منذ ثلاثة أشهر.

عندما دخلت الممرضة مروة ناولتُها هاتفي النقال كالعادة. فتحت الشاشة، ونظرت إلي بأسى. سحبتُ من يدها الهاتف: “أعلم. آخر ظهور له لم يتغير، ويبدو أنه لن يتغير، ما زال في غيبوبة!!”.

تسألينني عن النوم يا مروة؟

ويسبق فصول هذه الرواية استهلال مدخلي، ومما جاء فيه: سأعترف الآن. فلا فائدة من الاستمرار في لبس الأقنعة الزائفة، والاختباء خلَف الأعذار الواهية. قرَّرت البوح بكل ما لديّ.

مصيبتي أني لم أوفق في حياتي. كنت أتطلّع وأطمح إلى أشياء كثيرة وجميلة كأي إنسانة. لكنني تهت. ضاعت خطواتي. ضاعت سمعتي، وكرامتي، وأهلي، وكلُّ شيء لديّ! ضعت أنا!

لذا أعترف الآن بأنني صرت كمن يتأرجح على حبل مشدود بين جبلين شاهقين، أحدهما العقل والآخر الجنون!! ولا يعنيه السقوط.

تتقاذفني رياح الأسئلة العاصفة التي لا ترحم.

أتساءل: ما هي قدرة عقل الإنسان على الاحتمال والصبر؟ ما هو حجم الألم الذي يمكن للبشر التماهي معه وصولاً إلى مرحلة الانفصال عن الواقع، أو إنكاره؟

هكذا تقسو الأسئلة!

كانت الأيام تمضي في قلق وسأم كبيرَين.

مرَّت عليّ في هذه الغرفة البيضاء الصغيرة حتى الآن ثلاثة أشهر كاملة. كما أشعر بفراغ كبير.

لا يبدِّد وحشتي ويسلِّيني سوى هاتف نقّال نحيل، أحافظ به على ما تبقّى لي من خطّ فاصل مع الواقع والمنطق، أو الضياع في قاع دوّامة الشكوك والأفكار السوداء الكئيبة.

أسأل الممرِّضة مروة بإلحاح: “هل أنا أحيا، أم أموت”؟

يبدوأن هناك تواطؤاً خفياً بيني وبين مروة: هي تتجاهل اتزاني الموقت حيناً، وتتغاضى عن نصف جنوني مرات، وتتناسى جنوني الكامل أحياناً أخرى.

لا تضعني في موقع التقويم، أو التفسير، أو حتى السؤال أبداً. اتخذت قرارها الإنساني بحيادية. تقبلني في كل حالاتي. تفهمني في كل لحظاتي وتساعدني في كل حالات ضعفي أيضاً.

التزمت بهذا كله. تحمَّلت جنوني المتفجِّر، وصادقتني في فترات صفائي.

ذات مرة قالت لي: “أنت أغرب نزيلة مرَّت علينا في هذا المستشفى على الإطلاق. الأغلبية كانت لديهنَّ حالة ثابتة مفهومة طبياً، إلا أنتِ. هناك أمر ما فيك، لا يُفهم، ولا يُفسَّر، ولا يُحلَّل”.

تركتني مروة بعد أن ألقت كلماتها، وغادرت الغرفة. وظللت أنا أهيم في سحابة من التخيُّلات التي تكاثفت فوق رأسي.

لستُ أدري إن كنتُ فعلاً مجنونة، أم بنصف عقل، كما يقال؟ أم تراني حادة المزاج، ومتقلِّبة؛ يأتيني الاتزان كومضات البرق متى يشاء، ويغادرني حينما يرغب؟ أم، يا تُرى، هل أنا العاقلة الوحيدة بين هؤلاء المجانين؟!

لا أستطيع تمييز الحدّ الفاصل بين عقلي وجنوني. لا أعرفه. لا أفهمه، ولا أدري حقاً إن كنتُ هذه أنا، أم شخصاً آخر يحتلُّني، ويتوزع في ذرّات جسمي كافة؟!

اقرأ أيضاً: المحامي والأديب مخايل عون يسطّر «مرافعة دفاعاً عن ستالين»…

هل يُعقل أن يكون الجنُّ قد تلبَّسني، كما تروِّج لذلك بعض النساء الحاقدات الجاهلات في حارتنا؟ وهل هو يعاقبني حين لا أنفِّذ أوامره؟ لست أدري إن كان هذا الجنِّيُّ الذي يحتلني عفريتاً قبيحاً مجرماً إلى درجة أنه يعاقبني بكل هذه القسوة؛ فيُفقدني عقلي؟!

حقيقة، لا أدري، ولا أعرف، ولا أحد يستطيع أن يفهم!!

حتى الأطباء في هذا المستشفى يختلفون في تقويم حالتي؛ فبعضهم يراني مجرد مدَّعية مرض، متحايلة كذّابة، وآخرون يرأفون بحالي، ويَرون أنني أعاني صراعاً داخلياً عصياً على الفهم، وأكبر من طاقتي البشرية على الاحتمال.

لكنني أعترف الآن:

حياتي عبارة عن آمال محطَّمة، وتطلُّعات منكسرة، ومواقف حزينة، وأحداث متداخلة، بل متشابكة إلى حد بعيد.

كم سخروا بي! وضحكوا بملء أشداقهم! يا لوقاحة هذا المجتمع!

إنهم الآن على علم بكل شيء!

السابق
منظمة العمل الشيوعي تدين العدوان الاسرائيلي على لبنان
التالي
ميركل: مجموعة الدول السبع قامت بخطوة كبرى إلى الأمام مع طهران