العلمانيّة المؤمنة

أوّل ما أود الإشارة إليه في هذا الموضوع، هو تصحيح الفكرة السائدة عن مفهوم العلمانيّة، فالكثير من الناس يحسبون أنّ كلمة علمانية مشتقة من العلم فيقولون عِلمانية فيما هي مشتقة من كلمة العَالم وهي تقوم على فلسفة أنّ العالم هو مصدر الحقيقة، في مقابل الكنيسة التي كانت تعتبر أنّ الوحي هو مصدر الحقيقة، والحق أنّ العلمانية من حيث المبدأ لم تتخذ موقفاً سلبياً من مبدأ الدين والتديّن، ولكنها في الوقت نفسه قامت على مبدأ الفصل بين الدين والدولة، وهذا يعني أنّ العلمانية ليست بالضرورة إلحاداً، وإن كانت العلمانيّة ـ كما طبِّقت وعُمِلَ بها من قبل دول متعدّدة ـ انقسمت إلى علمانيّة مؤمنة وعلمانية ملحدة كما هو الشأن في الدول الشيوعيّة، بينما هي في الدول الأخرى لم تتعرض لموضوعَي الإيمان والإلحاد، ولذلك كان وما يزال هناك الكثير من العلمانيّين من هم من المؤمنين، ولكنهم يؤمنون بفصل الدين عن الدولة.

اقرأ أيضاً: الأدب الإسلامي وأزمات مجتمعنا الراهنة

هنا يقول سماحة العلاّمة المفكر السيد محمد حسن الأمين: إنّ هذه المقدّمة ضرورية بشأن إعادة النظر في هذا المفهوم بضوء العقيدة والشريعة الإسلاميّة، حيث يطرح السؤال الصعب القائل: هل يمكن أن تكون دولة المسلمين دولةً علمانيةً بمعنى أن يكون للمسلمين دولة لا دين لها، أي دولة لا تمارس سلطتها باسم الدين وإن كانت لا تتنكر لقيَم الدين وأحكامه، ولكنها تعتبر أنّ شرعيّة الدولة غير مستمدّة من إسلاميتها وإنما هي مستمدّة من العقد الاجتماعي بينها وبين الشعب الذي تحكمه!!

وهنا لا بدّ من التذكّر أنّ فترة أكثر من ألف سنة كان لدينا دولة إسلاميّة، ابتداءً من العهد الأموي مروراً بعهود كثيرة تداولت السلطة باسم الإسلام، وصولاً إلى الدولة العثمانية التي حكمت باسم الإسلام، أنا هنا أتساءل: هل كانت هذه الدول ـ أو معظمها على الأقل ـ دول ذات سلطة شرعيّة؟ أي مختارة من الشعوب التي خضعت لسلطانها؟

والجواب عندي هو أنّ أكثر هذ الدول ـ إن لم نقل كلّها ـ لم تكن شرعية وإن كانت إسلاميّة، أي تدّعي بأنّها تحكم باسم الإسلام، وبالتالي فإنّ تحويل الاهتمام من قبل الحركات الإسلاميّة بقيام دولة إسلاميّة يجب أن يتّجه إلى الاهتمام بقيام دولة شرعيّة، ولسنا نخشى على هذه الدولة الشرعيّة من الانحراف ما دامت مختارةً من قبل شعوب إسلاميّة، بينما نخشى على الإسلام من دولة تقوم بسلطة القهر والغلبة وتدعي أنها تحكم باسم الإسلام، ما دامت لا تملك هذه الشرعية التي هي أساس العلاقة بين المجتمع والسلطة، وعليه فإنّ الفكر الإسلامي المعاصر يجب أن يمارس إعادة النظر في موضوع الدولة وعلى الأخص لجهة شرعيّة الدولة.

وأضيف إلى ذلك ـ أي إلى هذا المبدأ ـ مبدأً أساسياً آخر: هو أنّ من الأخطاء الشائعة القول بأنّ الإسلام هو دين ودولة، فالإسلام ليس دولةً، وإنما هو دين فحسب، دون أن يعني ذلك أنّ الإسلام لا يتضمّن مبادئ وشريعة يمكن الاستفادة منها في قيام الدولة وفي مضمونها، وكون الإسلام ديناً فحسب لا يقلّل من شأنه، بل العكس هو الصحيح.

فالدين شأن ثابت غير قابل للتحول والتبدّل، فيما الدولة شأن متحرك ومتغيّر ومتبدّل، وهو شأن بشري صرف، أما الدين فهو شأن إلهي ثابت، واستطراداً فإني أريد أن أجيب على المبادئ التي طرحتها مبكراً بعض الحركات الإسلاميّة، ممثلة برموز مشهورة وكبيرة، كأبو علي المودودي وسيد قطب وحسن البنا، والتي رأت أنّ الإسلام لا يقوم بدون دولة، وأن الأمرين لا ينفصلين، أريد أن أقول: إنه دخل في روع البعض عند سقوط الإمبراطورية العثمانية أن الدين الإسلامي بات في خطر محتم بعد سقوط دولته، فهل سقط الإسلام فعلاً بعد سقوط الدولة العثمانية؟ الذي نلاحظه أنّ الدولة ذهبت، وتفكّكت لأسباب بشرية، وأنّ الدين استمرّ وربما ازدادت قوّته الروحية بين المسلمين، بما يعني أنّ الدين وقيامه ونشره لا يتوقف على وجود سلطة سياسية تحكم باسمه.

اقرأ أيضاً: مساحة العقل في الأديان

وهنا أطرح بالصراحة الكاملة فكرة إعادة النظر بالعلمنة المؤمنة، وعدم التهرب من هذا المصطلح بما يسمى دولة مدنية أو دولة مسلمين وليس دولة الإسلام، إنّ الفكر الإسلامي هو أحوج ما يكون في عصرنا لأن يقتحم كثيراً من المجالات التي يراها البعض خروجاً على المألوف والمتعارف، وعلى ما يدّعى أنه مقدّس دون أن يكون لديهم دليل يدل على هذه القداسة.

كل هذا استناداً إلى جانب أساسي من العقيدة الإسلاميّة التي فوّض الله سبحانه وتعالى فيها البشر لخلافته على هذه الأرض، بل لاكتشاف القوانين والسنن التي تحكم الوجود، وتحكم في الوقت نفسه ضرورة إعمال العقل البشري في تطوير حياة الإنسان وتحقيق أعلى درجات الخلافة لله سبحانه وتعالى.

(من كتاب “أمالي الأمين” للشيخ محمد علي الحاج)

السابق
الشيطان الكامن في الليبرالية
التالي
إسرائيل تكشف هوية مهندس صواريخ حزب الله الدقيقة