قراءة تاريخية لتطور الأديان والإلحاد

لم أجد خلال ممارساتي وقراءاتي أنّ أحداً من الفلاسفة والكتّاب والمفكّرين ـ إلّا ما ندر ـ يأخذ موقفاً ينفي فيه نفياً قطعياً مكانة الدين وتأثيره وحتميّة استمراره، حتى لدى من يسمون أنفسهم ملحدين، ذلك أنّ نزعة التديّن لدى الكائن الإنساني نزعة ضاربة بالقِدم، ولا يمكن تحديد بداياتها، وإن كان من الممكن الكلام على تطوراتها.

ابتداءً من العبادات البسيطة، والتي تنمّ عن وعي بسيط لمسألة الكون والخلق التي أنتجت عبادة مظاهر الطبيعة، ولم تكن قد استوعبت بعد أو اكتشفت فكرة الإله المتعالي المطلق، وقد استمرّ ذلك حتى ظهور الأنبياء المعروفين في التاريخ، دعاة الإله الواحد، وهذه البداية ـ أي بداية التعرّف على الإله الواحد ـ تعتبر بداية قديمة بالمقارنة مع ما نسمّيه بالتاريخ الإنساني، والذي يقدر عمره بستة آلاف سنة، فما هو سابق عليه يعتبره المفكرون مرحلة ما قبل التاريخ. ونحن نرى أنّ نزعة الإلحاد قديمة بعمر ومقدار نزعة الإيمان بالله الواحد، وهذا ما نلاحظه في النصوص الدينيّة، وخاصّة في القرآن الكريم الذي يتحدّث عن هذه النزعة ـ أي عدم الإيمان أو الإلحاد ـ ابتداءً من أقدم مرحلة من مراحل النبوات، من النبي نوحt وصولاً إلى خاتم الأنبياء محمّد.

ويستطرد سماحة العلاّمة المفكر السيد محمد حسن الأمين، هنا أريد أن ألاحظ أنّ سلسلة الديانات السماوية وإن كانت ترتكز على مبدأ التوحيد إلّا أنّها كانت تتطوّر وكان تطوّرها منسجماً مع التطوّرات التي تحدث في التاريخ الإنساني.

اقرأ أيضاً: القيمة المعرفيّة للدّين

وعلى سبيل المثال: فإنّ في قصص الشعوب والأنبياء كان يحدُث أن يكون هناك عقاب مباشر للأمم الكافرة والطاغية والمتكبّرة والمتجبّرة، كما ورد في القرآن الكريم عن قوم نوح وقوم عاد وقوم لوط وغيرهم من الأقوام، الذين تلقوا عقوبات وعذاباً نتيجة جحودهم وإلحادهم وغواياتهم، بينما نلاحظ أنّ مثل هذا العذاب الذي يقع على تلك الأمم لم يقع على الأقل منذ عهد المسيح وعهد الرسول الأعظم الذي جاء بدين الإسلام، وأستيطع أن أكتشف من هذه الظاهرة أنّ هناك اقتراناً بين تطوّر الخطاب الإلهي ونموّ الوعي والعقل البشري، فقد كانت نزعة الأمم السابقة نزعة حسيّة ماديّة فخوطبت بما يناسبها، فكانت المعجزات ذات الطابع المادي الصرف، وكانت العقوبات معجّلة لهذه الأمم كشكل حسّي مادي من أشكال إقناعهم بوجود الله تعالى وقدرته وتدليلاً على صحّة ما جاء به الأنبياء.
ونلاحظ أنّ هذه الظاهرة، ظاهرة الإعجاز المادي، برزت ولكن بصورة أقل عندما نزلت المسيحيّة، حيث كانت ولادة المسيح، وكان إحياؤه للموتى وشفاؤه للمرضى، تشكّل نوعاً مشابهاً لأنواع المعجزات التي سبقه فيها الأنبياء، مما يعني أنّ العقل البشري آنذاك لم يكن قد استكمل عناصره الكاملة لاستيعاب مبدأ التوحيد وعلى ضرورة الإيمان بإله واحد، ونلاحظ أنّ الإسلام ونبي الإسلام محمّد قد بُعثَ وشاء الله أن يكون خاتم الأنبياء، في زمن أصبح فيه العقل البشري يملك قابلية الوعي لاستيعاب مفاهيم الدين والإسلام وعلى رأسه مبدأ توحيد الذات الإلهية.
فلم نلاحظ أنّ هناك في سيرة النبي وفي المرحلة التي أدى فيها رسالته أنّ الدين قد اعتمد على الشكل نفسه الذي اعتمد في الرسالات السابقة عليه، وأنّ معجزة النبي التي لا بدّ منها كانت ذات طابع عقلي تجريدي، أي أنّ الخطاب الإلهي كان خطاباً عقلانياً بغض النظر عن بعض المعجزات المروية عن الرسول، فالاعتماد الأساسي كان على الخطاب القرآني الذي هو معجزة الرسول الأعظم، والذي هو كتاب هداية وحوار ومخاطبة العقل الإنساني، وبالرغم مما لاقاه الرسولw من عذاب واضطهاد من قبل المشركين والملحدين فإنّ صاعقة من السماء لم تنزل عليهما كما نزلت على الأمم التي سبقتهم، فكأنّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يحملهم مسؤولية اكتمال العقل واستعداده لتقبّل الوحي حيث لم يعد هناك حاجة إلى معجزات حسيّة.
ونلاحظ أيضاً أنّ القرآن الكريم بوصفه خطاباً عقلانياً لم يطلب من النبي ولا من المسلمين أن يجبروا الناس على الإيمان، فالقرآن واضح بهذا الاتجاه في آيات كثيرة، ونحن نفهم من ذلك أنّ الله تعالى حمّل الإنسان مسؤولية العقلانيّة والتفكير وترك لهم الخيار بعد أن أورد لهم جميع الأدلة والحجج بدرجة يصبح معها الكفر وعدم التصديق بالرسالة لوناً من ألوان الجحود، وترك لهم الخيار بما يجعل من الإسلام دين العقل ودين الحريّة المسؤولة في الدار الآخرة وليس في هذه الدّنيا، ومن الطبيعي أن يكون الإسلام ورسالته خاتماً للرسالات التي سبقته بعد هذا التدرّج الذي أشرنا إليه، وصولاً إلى اكتمال العقل والوعي الإنساني.
بدأنا بالقول أنّ ظاهرة الإلحاد والكفر والشرك بالله هي ظاهرة قديمة بقدم الأديان ولا يستثنى الإسلام منها، فاستمرّت هذه الظاهرة، وشهد تاريخ الإسلام فلاسفة ومفكّرين وملحدين أو على الأقل مشكّكين، ونحن كمؤمنين ونمتلك نضجاً روحياً ودينياً وفلسفياً إذا أردنا أن نحاور غير المؤمنين فلا بدّ لنا أن نشتقّ أسلوب الإقناع والحوار من لغة القرآن الكريم نفسه، فالله سبحانه وتعالى كان قادراً أن يمنح النبي قدرة إكراه الملحدين على الإيمان ولكنه لم يفعل واتّبع أسلوب الحوار والإقناع والتأمل في مظاهر الوجود، ولعلّ عصرنا الراهن هو أكثر العصور نضوجاً للحوار العقلاني، فلا أرى كما يرى البعض أنّ الإسلام فرض جهاد الكفار والملحدين جهاداً مادياً أو مسلحاً، ولكنني في الوقت نفسه أرى أنّنا مدعوّون في حوارنا مع غير المؤمنين أن نقدّم قراءاتٍ جديدةٍ لهذا الوحي الخالد، والذي يستدعي في كلّ زمان فهماً جديداً مضافاً إلى ما قدّمه أسلافنا أي أن يكون لدينا أساليب منسجمة مع عصرنا في دعوة الناس إلى ضرورة فهم الدين واعتناقه، وأن نقدّر الظروف التي نشأت فيها نزعة الإلحاد الجديدة بعد عصر النهضة الأوروبية، فمثلاً أنا أستطيع أن أفهم الملابسات الفكريّة التي جعلت فيلسوفاً معروفاً كـ نيتشه Nietzsche الألماني الذي بشّر الناس بموت الإله، فهو ـ أي نيتشه ـ وعصره واقعان تحت وطأت الانبهار بقفزة العلوم المادية والإنسانيّة، التي جعلتهم يظنّون أنّ حاجة الناس إلى الدين كانت قائمة قبل ولادة العلوم، وقدرة هذه العلوم على تفسير الكثير من غوامض الكون والطبيعة التي كان يعجز الإنسان عن تفسيرها فينسبها إلى الآلهة أو إلى الله.

اقرأ أيضاً: الدّين في ظل العلم الحديث

إنّه كان غرور العلم في بدايته، أمّا بعد هذه المرحلة التي انتشر فيها العلم انتشاراً واسعاً، فقد ظهر للبشر من جديد أنّ العلم ليس بقادر وحده أن يفسّر أسئلة الإنسان حول الكون والحياة والوجود، وأنّه لا بدّ من التماس مصادر أخرى للإجابة على هذه الأسئلة، واتضح أكثر فأكثر الفارق بين وظيفة العلم وبين وظيفة الدين، وأنّ الدين يملك الإجابة على أسئلة الغيب، بينما العلم ليس من اختصاصه ذلك، ولأنه لا يستطيع أن يجيب إلّا على الظواهر الملموسة والتي يمكن وضعها تحت مجهر العلم والمعرفة الإنسانيّة. وليس صحيحاً كما يظنّ نيتشه Nietzsche ـ أو غيره ممن بهرهم العلم ـ أنّ الدين كان يجيب على أسئلة ليست من اختصاصه، كظاهرة البرق والرعد التي كانت تنسبها الكنيسة لأمور غيبيّة، وكانت الكنيسة في ذلك تتجاوز دائرة اختصاها واهتمامها، وهذا صحيح أنّ الكنيسة كانت تفعل ذلك. ولكن المسؤوليّة في هذا لا تقع على الدين، وإنما تقع على المؤسسة الدينيّة، ففي الدين الإسلامي مثلاً هناك دعوة واضحة وصريحة تحفز الإنسان على التأمل في مظاهر الوجود وتفسيرها، بواسطة الملاحظة والتجريب والتأمل.
ومن هنا كانت قداسة العلم في الإسلام، فهو عامل فاعل في تعزيز الإيمان، ولا خطر منه على تقويض الإيمان بالغيب.

(من كتاب “أمالي الأمين” للشيخ محمد علي الحاج)

السابق
عندما أصبحت صيدا مركز اهتمام السلطنة العثمانية عام 1887: اكتشاف مقبرة صيدا الملكية
التالي
عقوبات أميركية ضد 16 شخصا وكيانا سوريا بينهم سامر فوز