الأدب الإسلامي وأزمات مجتمعنا الراهنة

إنّ الضرورة التي تدفعنا إلى البحث في مجال الثقافة والأدب الإسلامي تكمن في كوننا نشهد عبر التاريخ ثورات مماثلة بما نسميه الآن بالصحوة الإسلاميّة، من حيث أهدافها في إحداث انقلاب حضاري كالثورة الفرنسية مثلاً وغيرها من الثورات والتحولات العالميّة والدولية، بما فيها روسيا والصين، نلاحظ أنّ هذه الثورات سبقها ورافقها ـ حتى يمكن القول أنه تلاها ـ مظهر أساسي لا بدّ من لحظه، تمثّل في عملية نهوض فكري وثقافي وأدبي، شكّل عاملاً مركزياً لترسيخ هذه التحوّلات السياسية، وجعل للثورة مرجعية فكريّة وأدبية، وهذا يدلّ على أنّ التحولات الحقيقية في الاجتماع الإنساني لا يمكن أن ينفصل فيها الجانب السياسي عن الجانب الفكري والأدبي، فالتحوّل الذي يحدث هو تحول مترابط يحدث تغييراً نوعياً في رؤية الحياة والإنسان والكون، وفي رؤية الضرورات التي يتطلّبها التحوّل من موقع متخلّف أو ظالم إلى موقع متقدم ومختلف عمّا سبقه، وبين يديّ أبلغ شاهدٍ على هذه الحقيقة هو النقلة النوعية التي أحدثها الإسلام على مستوى الشعوب العربية وغيرها، والذي استند ـ أي هذا التحوّل ـ إلى فكرة روحيّة وثقافيّة ذات طابعٍ انقلابي ليس في نظام الاجتماع البشري فحسب، ولكن في العقل البشري، وذلك عن طريق الثورة الثقافيّة التي أحدثها الإسلام، والتي بسببها ـ أو على الأقل بسبب رئيسي منها ـ حدثت الثورات المضادة للإسلام، وقد كانت هذه الثورات المضادة أعنف ما واجهه الإسلام الذي نقل نظرة الجاهلية من عبادة الأصنام ومن الآلهة المتعددة إلى مبدأ التوحيد، وما يتفرع عن مبدأ التوحيد من حتميّات ذات أثر بليغ في تغيير السلوك البشري، وفي افتتاح رؤية ثقافيّة للعالم مختلفة تماماً عما كانت عليه قبل ثورة الإسلام.

اقرأ أيضاً: مساحة العقل في الأديان

ويزيد سماحة العلاّمة المفكّر السيد محمد حسن الأمين: إنّ تقديرنا لما يسمى بالصحوة الإسلاميّة ـ التي هي حدث ضروري لاستعادة الهوية الإسلاميّة، ولإحداث تحول حضاري جديد انطلاقاً من قيَم الإسلام وأدبياته ـ أمر يتطلّب أن تكون هذه الصحوة متزامنة بل مسبوقة بثورة ثقافيّة، يشكّل الأدب الإسلامي أحد أسسها الضرورية والملحّة، بل العنصر الثقافي بوصفه الدائرة الأوسع من الأدب بصورة خاصّة، إسناداً لهذه الصحوة التي إن توقّفت عند حدود المتغيّرات السياسيّة دون الطموح إلى صياغة شخصية حضارية متجددة على ضوء أدب وثقافةٍ وفلسفة أن تغدو مجرد فورة لا ثورة، فالفورة معرّضة للانتكاسة، بل للهزيمة إذا لم تكن مشفوعة بثورة ثقافيّة، ورؤية إسلاميّة متجددة، ونص أدبيّ يجعل من هذه الصحوة تحوّلاً راسخاً إذا أصابته نكسة أو هزيمة فإنّ جذوره تبقى راسخةً في الاجتماع وفي العقل الإسلامي، وتغدو النكسة حدثاً عابراً يمكن الخروج منها مجدداً.

يؤسفني أنّ كثيراً من النصوص الأدبية والدينيّة المترافقة مع هذه الصحوة الراهنة هي من الهزال والضعف بما لا يتناسب مع الطموح السياسي لهذه الصحوة، بل أكثر من ذلك فإنني أشهد أنّ ثمة من الغلو وانتشار الغيبيات السطحية بما يذكرني من الناحية الفكريّة والثقافيّة والأدبية بعصر الانحطاط والتراجع الذي عاشته الأمّة الإسلاميّة، خصوصاً إبّان الغزو المغولي وبعده، وما يزيد من الأسف هو أنّ المحاولات القليلة التي تصدر عن بعض المفكّرين المتنوّرين من المسلمين تواجه لدى الكثير من دعاة هذه الصحوة الكثير من القمع والعدوان وتهمّ التكفير والزندقة والانحراف، وأنا هنا لا أدافع عن جميع محاولات التجديد في الفكر الإسلامي، لأنّ بعضها قد يكون بعيداً عن هدف التغيير والإصلاح والتجدد الحضاري، ولكن الكثير منها يسعى مخلصاً لتقديم الرؤى والأفكار الشجاعة والمخلصة، يتعرض للإقصاء والنبذ والتحذير من التفاعل معه.

ويتابع: يجب أن يدرك المخلصون الحقيقيّون بحتميّة التجدد الحضاري الإسلامي، أنّ أي حركة انقلاب أو تجدد أو ثورة لابدّ أن يتخلّلها ثغرات وأخطاء، ولكن مساحة الحريّة ضرورية لأنّ ما ينتج عن حريّة القول والتفكير من إيجابيات هو أكثر بكثير مما ينتج من سلبيّات، إنني أؤمن بضرورة التحول والصحوة، والتي يجب أن تحقق إنجازاتٍ حيّةٍ في الدفاع عن الشعوب الإسلاميّة المحكومة لأنظمة الجور والاستبداد، وأن تتضمن هذه الصحوة رؤية واضحة لمعالجة مسائل السياسة والتنمية والتفاعل الحضاري مع العالم المتقدّم.

فالشعوب الإسلاميّة في تطلع حقيقي، بل في شوقٍ كبير للخروج من دائرة أنظمتها الاستبدادية إلى فضاء الحريّة، وإني أعتقد أنّ طرح البديل الإسلامي لهذه الشعوب يجب أن يتضمّن ـ لا بالشّعار وحده ولكن بالممارسة ـ وعداً بإنجاز هذه الحريّة، ولنتذكّر أنّ الإسلام في انطلاقته الأولى، وعلى أيدي الرسول الأعظمw كان أحد أكبر ما جاهد في سبيله هو تحرير الكائن الإنساني من كلّ أشكال العبوديّات التي تصادره، فما لم تتضمن الصحوة الإسلاميّة هذه الرؤية للحريّة وإعطائها البعد المركزي في الحركات الإسلاميّة، فإنّ الشعوب الإسلاميّة لن تتحمّس لها، بل ربما بدأت تنظر إليها نظرة خائفة من أن يكون الحكم الديني الإسلامي أكثر استبداداً مما هم عليه الآن تحت سيطرة ما يسمى بالملكيات والجمهوريات الاستبداداية التي تحكمهم. وهناك من يحذّر من قيام سلطة إسلاميّة معتبراً أنّ مثل هذه السلطة سوف تكون أشدّ استبداداً لأنّها سوف تحكم الناس باسم الدين.

اقرأ أيضاً: الدين والفلسفة

إنّ أدباً إسلامياً مبدعاً يمجّد قضية الحريّة والتنمية والديمقراطية أدباً حقيقياً وليس تكراراً لنصوص سلفية، إنّ أدباً كهذا يساهم في دفع الصحوة الإسلاميّة أكثر فأكثر إلى ساحات الفكر والثقافة التي تمكّن من إنجاز وعد التغيير الذي يطمح إليه عالمنا الإسلامي.

لماذا أركّز على المسألة الثقافيّة والأدبيّة بالذات؟ لأنّني أجد في إنتاج أدبٍ إبداعي ما يمهّد لتطوير العقول التي ما زالت متهمة تارة بالغلو وطوراً بالخرافة، وما لم يتمّ القضاء على كلّ من الغلوّ والخرافة، فلا يمكن أن نأمل كثيراً من الظواهر العاطفية المشدودة إلى الدين الذي هو في حقيقته ليس ديناً حقيقياً بقدر ما هو لون من ألوان التقليد والوقوع تحت وطأة التفسير الخرافي أحياناً، والمغالي أحياناً أخرى بشأن العقيدة الدينيّة، والذي تحميه مؤسسات سياسية ودينيّة لا مصلحة لها في تغيير العقل الشعبي السائد تجاه الدّين.

(من كتاب “أمالي الأمين” للشيخ محمد علي الحاج)

السابق
إسرائيل تلاحق عرفات في مثواه الأخير لانتزاع آخر عقار له في القدس!
التالي
قطاع إشتراكات الكهرباء في لبنان أقوى من الدولة