الظاهرة الباسيلية: لبنان «قرطة عالم» تتعايش على حافة الحرب الأهلية!

منذ تسع سنوات اتخذت بلدية الحدث قراراً حازماً بعدم تأجير أو تمليك أحد من المُسلمين في المنطقة، بذريعة انه منذ العام 1990 وحتى العام 2010، تملّك الشيعة نحو 60% من الحدت، ما أدى الى حصول تغيير ديموغرافي من شأنه تشكيل خطر وجودي على المسيحيين. وقد قيل إن هذا الإجراء اتُخذ على خلفية اتفاق ضمني حصل بين رئيس الجمهورية وحزب الله وحركة أمل، لحماية المسيحيين من التمدّد الشيعي في هذه المنطقة، الذي كاد ان يسلبها هويتها الطائفية.

في أعقاب افتضاح السر المعلوم، حصل ما يشبه الزلزال على مستوى الرأي العام اللبناني الذي استنكر بشدة، هذا الفكر الانعزالي، الفئوي، الطائفي الوقح؛ وطفت على السطح كل شطحات وتشوّهات الأداء السياسي  للتيار الوطني الحر؛ وهشاشة المجتمع اللبناني الذي يحمل في احشائه بذور حروبه الأهلية التي لا تحتاج شرارتها، إلا الى طرف سياسي ديماغوجي وغوغائي يتقن فنون التجييش الطائفي والنواح على مظلوميته.

هلا رشيد امون
الدكتورة هلا رشيد أمون

التيار البرتقالي يمارس السياسة برعونة وفجاجة وفجور طائفي قلّ نظيره. بالنسبة الى رئيسه “جبران باسيل” المتسلّح بورقةِ تفاهمٍ (مع الشيعي) ومصالحة (مع المسيحي) وتسويةٍ رئاسية (مع السُنّي)، لبنان هو ارض معبّدة أمامه للغزو.، وصالحة للنهب والسلب والمحاصرة والمصادرة والاقصاء وبسط النفوذ وإحكام القبضة وفرض قوانين الغالب وأعرافه ومفاهيمه على المغلوبين. لا محرمات ولا خطوط حمراء تُعيق تقدّمه نحو تحقيق حلمه بالرئاسة. لا يهمه إن انتقده أو كرهه خصومه، طالما ان ضابط الإيقاع الكبير في البلد راضٍ عنه. “المنطق” الوحيد الذي يعترف به هذا الغازي “النيتشوي”، هو منطق القوة والاستيلاء والاخضاع والسيطرة والغلبة، لا منطق الدولة التي تم تقويض مؤسساتها القانونيه والدستورية. “الوطنية” هي ما يرتضيه من قوانين واحكام ومعادلات تُسكِن مخاوفه وهواجسه وشبقه الذي لا يشبع الى المزيد من السلطة. خارج “المناصفة” التي يريد فرضها في كل الوظائف والتعيينات الادارية ، لا يوجد إلا الظلم والاستهداف ورغبة الشريك المسلم بضرب الوجود المسيحي وسرقة الحقوق. “إعتداؤه” على صلاحيات رئاسة الحكومة التي تبدو مغيّبة ومستضعفة ومغلوب على أمرها، هو تتبيت للوجود المسيحي وتحصين للعيش المشترك. مقولة “وقّفنا العد” هي رخصة للسلبطة والتشبيح على حقوق الآخرين، بدعوى الحرص على الميتاقية والتنوع. قناعته بأحقية استيلاء 25% من اللبنانيين على 50% من الوظائف والمواقع في مؤسسات الدولة، منبثقة من سعية لمداواة جُرح الإحباط المسيحي المزمن. حصرُ كل التعيينات به دون بقيه الأحزاب والقوى المسيحية، هو حقٌ شرعي لمَن يمتلك اكبر كتلة نيابية مسيحية، وقادر على استخدام “حق الفيتو” لاسقاط الحكومة ساعة يشاء.

اقرأ أيضاً: «الخط النقي» والوزير العنصري

باختصار، إن منظومة القيم والمفاهيم الباسيلية متداخلة، متناقضة، يضرب بعضها بعضاً: عنصريته وطائفيته، وطنيةٌ. شعبويته واستنفاره للعصبيات والغرائز، نضالٌ لاسترداد الحقوق المسلوبة ومنعٌ لتهميش المسيحيين. إلتهامه المواقع والحصص الإدارية والقضائية والأمنية، تحقيقٌ للتوازن الطائفي وحفاظٌ على الكيان. أُحاديته واقتسامه البلد مناصفةً بينه وبين الآخرين مجتمعين، شراكةٌ وحمايةٌ للوحدة الوطنية. صولاته وجولاته في الداخل والخارج لاستقطاب المسيحيين، دفاعٌ عن جميع اللبنانيين. حتى فشله المدوّي في وزاره الطاقة هو انجاز واصلاح وتغيير. لا هزائم أو إنتكاسات في سجلاته، بل بطولات وانتصارات تؤهله لأن يكون الرجل الأقوى مسيحياً الذي يستحق الوصول الى بعبدا خلفاً لعمّه الجنرال.

ولم يكن مستبعداً على هذه الشخصية التي تتمتع بوصاية “الشيعية السياسية” التي تتحكم بكل مفاصل البلد ، أن تصرّح أن “السنية السياسية قد أتت على جُثة المارونية السياسية، وبالتالي لا بدّ من استرجاع كل الحقوق والمكتسبات التي سلبتها” . هذه الرغبة الدفينة بنبش القبور والثأر من السُنّة – الذين لولا دماء أحد ابرز رموزهم، لبقي في المنفى الباريسي حتى اللحظة – لم تمنعه من التفاخر بأن تياره قد نجح في استقطاب الالاف منهم الى صفوفه، وانه يسعى – باعتباره تياراً وطنياً وعلمانياً منفتحاً على الجميع – الى ضمّ المزيد. وربما يكون هذا “الحسّ الوطني العالي” ، هو سبب زيارته المرتقبة الى طرابلس بعد ايام قليلة.

تلك هي ابرز العوارض المرضية لتلك “الظاهرة” السوبرمانية/الاستفزازية/ التحريضية/النرجسية/الاستحواذية/الالغائية/ الاقصائية/الشبقية التي لم تكن لتتضخم وتقوى وتتمدد، لولا مظلة الرعاية والمباركة التي يوفرها لها “حزب الله” ، كمكافأةٍ أو هديةٍ أو ثمنٍ أو عربون شكرٍ وامتنانٍ او شهادة حسن سلوك على تقديم تياره بعض الخدمات، ولاسيما في زمن العقوبات الامريكية: اسباغ الشرعية المسيحية على سلاح الحزب غير الشرعي ؛ التأكيد الدائم على انه مقاومة وليس ميليشيا مسلحة؛ الالتزام بأولوياته في الأمن والسياسة الخارجية.

اقرأ أيضاً: ملاحظات على هامش «بيان» القرف من الهيستريا العنصرية ضد اللاجئين السوريين!

الحقيقة أن مَن يرضى العيش في “الحدث” او في غيرها من المناطق ، بناءً على حمايةٍ وفّرتها ورقةُ تفاهمٍ، او على صفقةٍ بالتراضي، فهذا حضوره المنتفخ نفسه ليس أصيلاً، بل هو مجرد وجود بالتراضي، لأنه مستعار من تحالفٍ فرضته ظروف سياسية محلية وإقليمية، وتستظل به اقليتان دينيتان تعانيان من رُهاب الأكثرية السُنية.

“فتنة الحدث” اثبتت أن لبنان ليس اكثر من مسرح كبير، على خشبته يلمع منذ مائة عام، نجمُ ابطالٍ وطوائف، ويخبو نجمُ ابطالٍ وطوائف؛ ويتم إعادة تجسيد “مأساة” نظامه الطائفي الذي جعل اللبنانيين من كل الطوائف، مصابين بعقدة الضحية والمظلومية وبارانويا الاضطهاد والمؤامرة، وحوّلهم الى “قرطة عالم” مهددين دوماً بحرب اهلية، كلما اشتد الصراع بين قوى السلطة على حصصهم من المناصب والوظائف والمنافع والمكاسب.

السابق
أفيخاي أدرعي يثير غضب جمهور عمرو دياب
التالي
وزارة الخارجية الفلسطينية: العمال العرب بخير في كازاخستان وتم نقلهم إلى قاعدة عسكرية