عندما أصبحت صيدا مركز اهتمام السلطنة العثمانية عام 1887: اكتشاف مقبرة صيدا الملكية

تابوت اسكندر

لم يكن محمد الشريف يعلم أنّه على وشك أن يقدّم للسلطنة العثمانية هديّة ذات قيمة عالية جدّاً، ما انفكت تتفاخر بها بين الأمم حتى يومنا هذا!

في بداية العام 1887، تقدّم ابن صيدا محمد الشريف من السلطات المحليّة بطلب، تمّت الموافقة عليه، للقيام باستخراج حجارة من أرضه التي يملكها في القيّاعة بمحاذاة نهر القملة في الوسطاني (تعرف حالياً ببستان الياس الشيخ).

أرض محمد الشريف هذه كانت تتميز بالصخر الكلسي خلافاً لكل ما يحيط بها من بساتين الليمون حيث التربة الغنية الصالحة للزراعة. هذه الطبيعة الصخرية كانت السبب وراءاستغلال محمد لأرضه بتحويلها الى مقلع. وقد كان غائباً عن محمد، بالطبع، ان أسلافه الصيداويين كانوا قد سبقوه الى استغلال هذه الأرض بعينها ولكن بطريقة مغايرة كلّياً!

بعد بدء الأعمال، وفي الثاني من آذار 1887، أسرع محمد الشريف الى قائمقام صيدا في ذلك الوقت، صادق بيه، ليبلّغه عن اكتشافه لبئر عميقة في تلك الأرض وأنها على الأرجح تحوي في قعرها توابيت قديمة.

اقرأ أيضاً: دبل تتهيأ لاستقبال درب الصليب على طريقتها وتقليدها…

في اليوم الثاني، وصل صادق بيه الى الموقع ليتأكد من صحة المعلومات بنفسه. تطلّب النزول الى قعر البئر استعمال الحبال لمسافة عاموديّة تقارب الخمسة عشر متراً. وعند أسفل الجدار الشرقي للبئر ومن خلال فتحة جانبية، ظهر تابوتان حجريان تكسو أحدهما منحوتات بديعة. عندها تأكّد للقائمقام أنّه على عتبة اكتشاف أثري بالغ الأهمّية، فقام بإبلاغ كل من ناشد باشا وهو الحاكم العام في سوريا حينها، ونصوحي باشا متصرّف بيروت، عن ذلك الإكتشاف العظيم، ووضع الموقع تحت حماية أسعد أفندي، قائد الجندرمة في صيدا.

وبهدف استكشاف البئر بشكل تام، قامت السلطات بارسال بشارة أفندي كبير مهندسي الولاية في ذلك الوقت، الذي وجد بدوره ان قعر البئر عبارة عن غرفة صغيرة خالية (vestibule) تتوسّط غرفاً سبعة تحوي مجتمعةً سبعة عشر تابوتاً حجريّاً تنافس بعضها بعضا في الجمال والروعة. وهكذا بات من المؤكد أن أرض محمد الشريف تحوي في باطنها مقبرةً ملكيّة قل نظيرها!

طار الخبر الى اسطنبول حيث كان الاهتمام بالآثار حينها على أوجه. فقد كان العثمانيون يبحثون في كل أراضي السلطنة عن آثار الأزمنة الغابرة لعرضها في متاحفهم الفتية وللتباهي بولادة علم الآثار المتخصص عندهم، الذي كان مفخرة الدول المتقدمة في ذلك الزمن وعلامة الدخول في الحداثة الغربية.

قام السلطان عبدالحميد الثاني بإرسال عثمان حمدي بيه، مدير المتحف الأركيولوجي في اسطنبول، الى صيدا لتوثيق المكتشفات والإشراف على عملية نقلها الى اسطنبول. انطلق عثمان حمدي بيه الى صيدا في الثامن عشر من نيسان ليصلها في الثلاثين منه. وبعد خمسين يوماً، أي في العشرين من حزيران، كان يعتلي ظهر سفينته المنطلقة من شاطئ القملة عائدةً الى اسطنبول، وفي بطنها كنز من التوابيت والمقتنيات الأثرية الثمينة التي تعود لملوك صيدا القدماء.

تم افتتاح الجناح الرئيسي في المتحف الأركيولوجي في اسطنبول في حزيران عام 1890 وكان هذا الجناح قد بُني خصيصاً لاستضافة آثار المقبرة الملكية في صيدا، وهو من تصميم المعماري الفرنسي-العثماني الكسندر فالوري.

وما تزال هذه الآثار في مكانها حتى يومنا هذا في الجناح المخصص لها تحت عنوان: (Royal Necropolis of Sidon)، يتصدرها تابوت الاسكندر العظيم، جوهرة المتحف بلا منازع.

تقع المقبرة اليوم داخل منطقة الضم والفرز لمنطقة شرق الوسطاني حيث تجري عملية التخطيط والتصميم المدني حالياً. وهذا يفتح فرصة للنقاش الجدّي حول مستقبل مواقع كهذه ومصير ما اكتشف فيها، وعن الامكانيات التي قد تقدمها في تطوير المدينة ومساحاتها العامة وإعادة تشكيل وعي الصيداويين بتاريخ مدينتهم.

في ما يلي لمحة موجزة عن أهم محتويات المقبرة:

تابوت الاسكندر: يزن 15 طن- طول: 3.18 متر- عرض: 1.67 متر- ارتفاع: 1.90متر

يعتبر تابوت الكسندر من القطع الأثرية الأكثر أهمية في المتاحف الأثرية في اسطنبول وهو في الحقيقة يتمتع بين نوعه وتاريخانيته بفرادة مميزة على مستوى العالم.

على الرغم من أنه يسمى تابوت الكسندر، إلا أنه لا يعود إلى الإسكندر الأكبر. فبعد سنوات طويلة من الدراسات، بات من المرجّح أنه يعود الى ملك صيدا “عبدالونيموس” (Abdalonymus) الذي عيّنه الاسكندر الأكبر نفسه. وسبب هذا الالتباس التاريخي في تحديد هوية صاحب التابوت يرجع الى المنحوتات التي تملأ جوانبه وتظهر بلا أي ريب الاسكندر الأكبر في وضعيات مختلفة.

على أحد جانبي التابوت الطويلين، مشهد لمعركة بين الفرس و الإغريق، وهي تحديدا معركة “إيسوس” (Issus) التي وقعت في 333 ق.م. والتي انتصر فيها الاسكندر على الملك الفارسي داريوس الثالث وفتح على إثرها فينيقية وسوريا. هذه المعركة هي التي أوصلت عبدالونيموس الى عرش صيدا كونه قاتل فيها الى جانب الاسكندر. أما الجانب الآخر من التابوت فيصور الاسكندر في رحلة عنيفة لصيد الأسود.

ان منحوتات التابوت هذه على درجة عالية من الدقة مما يشير الى أنها قد تكون نحتت في صيدا على يد فنانين محلّيين لأنه من المستبعد جداً نقل مثل هذا العمل المنحوت بدقة متناهية على هذه القطعة من الرخام الأبيض (Pantellic) من اليونان إلى لبنان دون تعرضه لأضرار.

تابوت النساء الباكيات(Sarcophagus of the Crying Women/ Pleureuses): طول: 2.68 متر- عرض: 1.38 متر- ارتفاع: 1.29متر

يعتقد أن يكون التابوت لملك صيدا، ستراتون ( 374-358 قبل الميلاد)، وهو مصمم على شكل معبد أيوني. يشكل مثالاً للنحت اليوناني المطعّم بالتأثيرات الشرقية. استخدمت معالمه الهندسية في بناء المتحف الأركيولوجي في اسطنبول كما تظهر صورة المتحف أعلاه. ويعتقد أن التماثيل الثمانية عشر للنساء الحزينات بين الأعمدة تمثل زوجات الشخص الميت أو نساء الحرملك خاصته.

تابوت تبنيت(Sarcophagus of Tabnit): مصنوع من البازالت ويخص ملك صيدا الفينيقي تبنيت (Tabnit) ، والد الملك إشمونازار الثاني (Eshmunazar II). يزيّن التابوت اثنان من النقوش المنفصلة غير المتصلة – واحدة باللغة الهيروغليفية المصرية و أخرى باللغة الفينيقية .

وعثر على جثة الملك تبنيت داخل التابوت عائمة في سائل التحنيط الأصلي ومحفوظة بشكل كبير. يذكر عثمان حمدي بيه في مذكراته انه أثناء تناوله للغداء، قلب العمال التابوت وسكب ماء التحنيط على الأرض عن طريق الخطأ وضاع بالتالي سر التحنيط في تراب صيدا!

الجدير بالذكر أن التابوت الخاص بالملك إشمونازار الثاني (مشابه لتابوت والده) كان قد اكتشف عام 1855 في مغارة عبلون الأثرية في صيدا وهو معروض اليوم في متحف اللوفر في باريس. من المرجح ان يكون الصيداويون قد استحوذوا على التابوتين عقب مشاركتهم في معركة بيلوزيوم (30 كلم جنوب شرق بورسعيد) عام 525 قبل الميلاد.

“أنا تبنيت، كاهن عشتروت وملك الصيداويين، إبن إشمونازار، كاهن عشتروت وملك الصيداويين، أرقد في هذا التابوت؛ أناشد كل إنسان يكتشف هذا التابوت: لا تفتح غرفة دفني ولا تؤرقني، فليس هنالك من مال، ليس هنالك من ذهب، ليس هنالك من كنوز. هنا وحدي أرقد في هذا التابوت. لا تفتح غرفة دفني فهذا مقيت أمام عشتروت. إذا فتحت غرفة دفني، وإذا أزعجتني، قد لا يكون لديك ذرّية في الدنيا تحت الشمس ولا مرقد بين الأموات.”(مأخوذة عن ترجمة المؤرخ إرنست رينان الفرنسية للنقوش على تابوت الملك تبنيت)
“أنا تبنيت، كاهن عشتروت وملك الصيداويين، إبن إشمونازار، كاهن عشتروت وملك الصيداويين، أرقد في هذا التابوت؛ أناشد كل إنسان يكتشف هذا التابوت: لا تفتح غرفة دفني ولا تؤرقني، فليس هنالك من مال، ليس هنالك من ذهب، ليس هنالك من كنوز. هنا وحدي أرقد في هذا التابوت. لا تفتح غرفة دفني فهذا مقيت أمام عشتروت. إذا فتحت غرفة دفني، وإذا أزعجتني، قد لا يكون لديك ذرّية في الدنيا تحت الشمس ولا مرقد بين الأموات.”(مأخوذة عن ترجمة المؤرخ إرنست رينان الفرنسية للنقوش على تابوت الملك تبنيت)

تابوت اللّيسي(Sarcophagus of the Lycian): طول: 2.55 متر- عرض: 1.37 متر- ارتفاع: 1.34متر (دون الغطاء)

هذا التابوت مصنوع من الرخام العاجي من باروس اليونانية. آثار الوان خفيفة من الأحمر والبني والأزرق ما تزال صامدة في ثنايا المنحوتات.

يصور جانبه الطويل الأول مشهد صيد: شابان يعتلي كل منهما عربة يجرها أربعة خيول تنقض جميعها على أسد. الخيول الثمانية واثبة في الهواء، لا يطأ الأرض سوى حافر واحد لأحدها.

الجانب الطويل الثاني يصور مطاردة لخنزير. فيما تصهل الخيول متوثبة، يرفع خمس صيادين رماحهم ليرموا بها ذاك الخنزير.

شكل التابوت، والنقوش المنحوتة عليه, خاصة تلك البارزة منه على شكل رؤوس حيوانات، وكذلك مشاهد الصيد الأسطورية، كل هذا يضع التابوت ضمن سلسلة توابيت منطقة ليسية في انطاكية.

تابوت المرزبان(Sarcophagus of the Satrap): طول: 2.88 متر- عرض: 1.18 متر- ارتفاع: 1.44متر

السابق
زكا: المبادرة من أولها الى آخرها ولدت في لبنان واليوم تنتهي في لبنان
التالي
قراءة تاريخية لتطور الأديان والإلحاد