تركيبة الفساد في لبنان ما بعد الحرب

الفساد

من يسعى إلى فهم المالية العامة في مرحلة ما بعد الحرب في لبنان هو كمن يحاول أن يتحسّس طريقه في الظلام. فما من بصيص نورٍ في نهاية النفق٬ مجرّد ظلام مطبق. وبات انتظار صدور موازنة 2019 أشبه بالجلوس في غرفةٍ سوداء لا يدري أحد متى يكون الخروج منها. غضّ صانعو القرار الطرف عن جرعة الاصلاحات الصحّية الممكنة التي نادى بها الاقتصاديون، وعوضًا عن الدخول في نقاشٍ شموليٍ وصادقٍ حول نوع الموازنة التي تحتاجها الدولة اللبنانية للخروج من الدوامة المالية والنقدية، اعتمدوا سياسة التسريبات لجسّ نبض الأرضية الشعبية المحابية للنخبة السياسية في ظلّ وجود خشية من تمرّدها. لقد فضّلت النخبة السياسية والاقتصادية أن تبتعد عن الاصلاحيات الهيكلية التي من شأنها أن تعيد توجيه الاقتصاد الريعي إلى منطق الانتاجية، ولربما الاستثناء الوحيد هو ضريبة الاثنين بالمئة على كافة الواردات ما عدا الأدوية والسيارات الصديقة للبيئة والآلات الصناعية، وضريبة الخمسة إلى عشرين بالمئة على مجموعة من الواردات المختارة لحماية المنتجات المحلية. لقد تحوّلت النقاشات في مجلس الوزراء إلى تمرينٍ حسابي همّه تعديل البنود بما يؤدّي إلى خفض نسبة العجز المالي إلى إجمالي الناتج المحلي من 11% لعام 2018 إلى أقل من 8% في سبيل بلوغ “نشوة سيدر” – يستهدف مشروع موازنة 2019 نسبة عجز طموحة تصل إلى 7.5% لاجمالي الناتج المحلي.

ومن الآثار الإيجابية الوحيدة التي تمخّضت عن ملحمة الموازنة هو “التحليل الجنائي” الذي تم إجراؤه على الانفاق الحكومي خلال العقود المنصرمة والذي كشف تركيبة الفساد الذي قام عليها الاقتصاد السياسي اللبناني في مرحلة ما بعد الحرب. إنّ هذا التحليل يكشف عن ما يسير في أوردة الاقتصاد ويقول لنا من هم الخاسرون ومن هم الرابحون في الميدان الاقتصادي الاجتماعي خلال العقود الثلاثة الاخيرة.

اقرأ أيضاً: ميزانية لبنان «خطوة أولى جيدة» لكنها أرقامها تثير تساؤلات

وبحسب إحدى التقديرات، فمن أصل 216 مليار دولار مبلغ الانفاق الحكومي ما بين 1993 و2017، بلغت قيمة خدمة الدين مبلغ 77 مليار دولار (أو 35.6%)، مقابل 46 مليار دولار للرواتب والأجور (أو 21.29%)، و20 مليار دولار كدعم لمؤسسة كهرباء لبنان (أو 9.25%)، و19 مليار دولار لرواتب وتعويضات التقاعد (أو 8.79%). بالنسبة للانفاق الحكومي في العام 2018، تكشف الأرقام عن واقعٍ اقتصاديٍ سياسيٍ مشابه: الرواتب وملحقاتها في القطاع العام حصّتها 35% من الانفاق الحكومي، مقابل 10% لدعم الكهرباء، 32% لخدمة الدين، و18% للنفقات الرأسمالية والإعانات الحكومية وغيرها من النفقات. أما الرصيد المتبقي فهو 5% من إجمالي الانفاق الحكومي (يشمل الدعم الحكومي لمنظمات المجتمع المدني) أو مبلغ 800 مليون دولار أميركي. إنّ مجموع الانفاق الحكومي للعام 2018 بلغ حوالي 16 مليار دولار مقابل إيرادات تصل قيمتها إلى 11 مليار، ليكون العجز في ميزانية عام 2018 عند 5 مليار دولار، أقلّه هذا ما تأمله الحكومة اللبنانية.

نعم إنّ الاقتصاد الساسي يذهب إلى ما هو أبعد من موازنة الدولة، ويمضي في كينونته في ظل توليفة المصالح السياسية والمادية والزبائنية القائمة – وهنا الطائفية هي بالطبع الشكل الظاهر له.
وتظهر مخالب هذا الاقتصاد السياسي البديل بشكلٍ جلي من الأرقام التي تم تداولها مؤخرًا في محاولة لإيجاد الطريق إما إلى رفع مستوى إيرادات الدولة وإما إلى تخفيض الانفاق. خذوا مثلاً حجم الإيرادات غير المكتسبة الذي يتراكم من مجموعة مصادر. فتقدّر مجموعة خبراء من جمعية المصارف في لبنان حجم الإيرادات غير المكتسبة بحوالي 4 مليارات دولار في العام: 1.7% مليار دولار من الخسائر الفنية وغير الفنية في قطاع الكهرباء، 1.15 مليار دولار من الخسائر نتيجة التهرّب من الضريبة، 200 مليون دولار من الخسائر نتيجة التهرّب من دفع رسم التسجيل العقاري ورسم الانتقال، 500 مليون دولار من الخسائر نتيجة التهرّب من دفع الضرائب على السلع والرسوم الجمركية، فضلاً عن 200 مليون دولار من الاعفاءات الضريبية، و300 مليون دولار من إيرادات الاتصالات الإضافية المحتملة. ويقدّر صندوق النقد الدولي حجم الاقتصاد اللبناني غير النظامي غير الممتثل للواجب الضريبي عند 31.6% من الناتج الاجمالي سنويًا بين العامين 1991 و2015. كانت هذه النسبة عند أعلى مستوياتها في العام 1991 (36.7% من إجمالي الناتج المحلي) وانخفضت إلى أدنى مستوياتها (24.6%) في العام 2010، لترتفع من جديد إلى 29.2% أو ما يعادل ١٤ مليار دولار أميركي في العام 2015. إنّ هذه الأرقام هي مثيرة للعجب لدولةٍ يصل عدد سكانها إلى 6 ملايين نسمة (من ضمنهم اللاجئين بمختلف أطيافهم) وإجمالي ناتج محلي بلغ 56.6 مليار دولار أميركي في العام 2018.

ويقدّر رئيس لجنة الإدارة والعدل في المجلس النيابي٬ النائب جورج عدوان٬ قيمة التهرّب السنوي الشرعي من الرسوم الجمركية عند 700 مليون دولار أميركي. وهنا نقول شرعي لأنه يبدو أن الجميع يعرف أنّ غالبية الواردات تدخل بفواتير غير دقيقة٬ إمّا عبر الثغرة السوداء أي مرفأ بيروت٬ أو من خلال التهريب عبر الطرق البرية على طول الحدود اللبنانية. ويشير عدوان إلى إنّه بالرغم من تحقيق قطاع الاتصالات لأرباح بقيمة 14.5 مليار دولار خلال العقد الأخير، إلّا أنه لم يصل منها إلى خزينة الدولة إلاّ 10 مليارات٬ حيث اعتبر الرصيد المتبقي نفقات تشغيلية. وحتى في الموازنة المذكورة أعلاه الواضحة جدًا، يبقى حوالي 20% من الانفاق العام خارج نطاق الاشراف البرلماني وهو عبارة عن أموال مخصّصة لمؤسسات الدولة الموزعة على خطوط المحسوبية الطائفية.

وبذلك تشكّل الاقتصادات السياسية الموازية الموضحة أعلاه مرآة لاقتصادٍ ريعي غير منتجٍ وغير متوازنٍ تأصّلت جذوره في مرحلة ما بعد الحرب اللبنانية التي اضطلعت فيها الدولة بدورٍ تشويهي مركزي. فموّلت ونفخت التزامات زبائنية، وجمّدت الرواتب – في القطاع الخاص من العام 1996 وحتى العام 2012، وفي القطاع العام منذ العام 1998 – ومن ثم رفعت هذه الأخيرة في العام 2017 لأسباب أهمّها الدواعي الانتخابية الشعبوية من دون النظر في تبعاتها المالية. وفرضت ضرائب رجعية على الأرباح، وحظرت الضرائب على الأرباح العقارية، وحفّزت الاستثمار بسندات الخزينة والودائع المصرفية بمعدّلات فائدة مرتفعة، وعاقبت القطاعين الصناعي والزراعي. أدّى كل ذلك إلى تفاقم العجز المالي والدين العام وإلى هدرٍ في التدفقات النقدية الخارجية – المقدّرة بحوالي 280 مليار دولار ما بين 1993 و2018- على فاتورة واردات بلغت قيمتها 317 مليار دولار٬ مقابل 55 مليار دولار للصادرات في الفترة نفسها. وكانت النتيجة أن تركّزت الثروات في أيدي حفنة من الأشخاص الفائقي الثراء: أقل من 10% من مجموع السكان يسيطرون على أكثر من 55% من الدخل الوطني، و70% من إجمالي الثروة (المالية والعقارية)، و90% من الودائع المصرفية.

والمثير للسخرية هو أنه عندما تتحدّث النخبة السياسية والاقتصادية عن آثار الفساد والتهرّب الضريبي على المالية العامة٬ يكون الحديث في المطلق وتتناسى أنّ الفساد هو الزيت الذي “يشحّم”الميثاق الاقتصادي-السياسي الذي على أساسه تمّ تقاسم السلطة في مرحلة ما بعد الحرب، أو ما يعرف باتفاق الطائف. وواقع الحال أنّه تم وضع اليد على المؤسسات العامة في مرحلة ما بعد الحرب وتحويلها إلى ما يسميه رينود لندرز “معاقل الامتياز” (bastions of privilege) لزبائن النخبة السياسية لاستخدامها كأداة لتمرير مختلف أشكال الفساد في دولة “المحاصصة”. ويأتي نتيجة ذلك بروز الطائفية في قطاعٍ عامٍ يشوبه فسادٌ عضويٌ، والمحسوبيات، والتشوهات على أشكالها. وبعد٬ هل هناك من يعرف الحجم الحقيقي للقطاع العام؟ تتراوح الأرقام غير الرسمية بين 310،000 و 400،000. وأمّا عن التفاوت الكبير في معاشات التقاعد والرواتب في القطاع العام٬ فحدّث ولا حرج. فهل هي تُحدَّد على أساس الجدارة أو الزبائنية؟

علّق مرّةً المفكّر الماركسي والناشط السياسي الإيطالي الكبير أنطونيو غرامشي قائلاً إن “بين الخنوع والقوة شيء هو الفساد/الغش (نجده في الحالات التي يصعب فيها ممارسة الهيمنة وحيث يكون في استخدام القوة مخاطرة كبرى)”. وخلال النقاش الصاخب الذي دار حول موازنة 2019، زاد اطلاعنا على تركيبة الفساد التي تأصّلت في الاقتصاد السياسي في مرحلة ما بعد الحرب. فهو فساد يدفع فاتورة الاستهلاك المفرط والغرور في اقتصاد القرن الحادي والعشرين غير المنتج. كما أنه الضمانة لاستمرارية الاقتصاد المسيّس، وهو الذي يعيد انتاج الزبائنية الطائفية كأداة لتعبئة القاعدة الشعبية. وفيما بدأت النخبة السياسية والاقتصادية تنفذ من الخيارات المالية٬ وقد بَلَعَت وإن بمرارة حبّة الاصلاح الاقتصادي، كيف سوف تبقي على قبضتها السياسية؟ وعبر أي توازن بين الموافقة والإكراه سيتحقق ذلك فيما وقد بدأ عدد متزايد من الناس يشعر بألم الخيارات الاقتصادية الصعبة ولكن المحتمة؟ وما سيكون دور جنّ الطائفية يا ترى في هذه العملية؟ في ظل هذا الواقع، يبدو من مشروع موازنة 2019 أنهم اختاروا التأني وانتظار ما تحمله مانا مشاريع استكشاف النفط والغاز، كما وحلم الخصخصة!

السابق
شهيب: المدارس الوهمية تتاجر بالطلاب… والإصلاح يواجه بالشعبوية
التالي
طائرة غريبة يركب المسافرون في جناحيها