خيارات طهران: لا كأس السُمّ، ولا مرونة بطولية

الايرانيين

مشهد متناقض يعيشه الشرق الأوسط ما بين تحشيد عسكري أميركي في الخليج العربي وتصريحات تؤكد أن خيار الذهاب إلى الحرب ليس مطروحا! وعلى الرغم من خطابات التهديد والوعيد بين المرشد الأعلى خامنئي والرئيس ترامب، إلا أنهما اتفقا على أن خيار الحرب ليس مرجحا، على الأقل حتى الآن.

في تاريخ سياسة إيران الخارجية بعد انتصار الثورة الإسلامية 1979، شهدت إيران أبرز محطتين تفاوضيتين: الأولى كانت نهاية الحرب العراقية ـ الإيرانية في 1988، ووصفها السيد الخميني بـ”تجرع كأس السُمّ” وكان مهندس التفاوض الرئيس الراحل هاشمي رفسنجاني (توفي 2017)، وهو صاحب المقولة الشهيرة: “عالم الغد هو عالم المفاوضات لا عالم الصواريخ”.

أما المحطة الثانية فكانت الاتفاق النووي الذي عُرِف بـ”5+1″، واعتُبر نتيجة لرؤية السيد خامنئي لدبلوماسية إيران مع الغرب القائمة على أساس “المرونة البطولية” (Heroic Flexibility)، إذ أشار “أكبر كَنجي” الكاتب المتخصص في الشؤون الإيرانية في مجلة Foreign Affairs الأميركية، إلى أن خامنئي تحدث عن المرونة البطولية مرات عدة، في 1996 في خطاب ألقاه أمام جمهور من الدبلوماسيين الإيرانيين، وكررها عام 2013 في خطاب ألقاه أمام أعضاء مجلس صيانة الدستور. ويجسّد خامنئي فكرة المرونة البطولية بأن لاعب المصارعة في حلبة الصراع مع الخصم يظهر المرونة لأسباب فنية لكنه لا ينسى الخصومة.

فلماذا اليوم ترفض طهران التفاوض مع واشنطن؟ يَعدّ المرشد خامنئي المواجهة الحالية مع إدارة ترامب “حرب إرادات” وخيار إيران النهائي الصمود. ويأتي هذا الموقف كرد على تصريح ترامب بأنه ينتظر اتصالا من حكومة طهران لبدء المفاوضات. ويدرك القائد الأعلى في إيران أن الجلوس على طاولة المفاوضات سيكون هذه المرة ليس للبحث عن حلول ترضي واشنطن وطهران، وإنما لكسر الإرادات والقبول بشروط ترامب، ولن يكون الأمر محصورا بالملف النووي الإيراني طبعا. ومن ثم، جلوس إيران على طاولة المفاوضات يعني خسارة للمكسب الرئيس الذي حققته في اتفاق “5+1″، ألا وهو الاعتراف بها كقوة دولية وليست إقليمية فقط.

ويرفض خامنئي التفاوض مع واشنطن؛ لأنها لا تهدف إلى الوصول لتعريف جديد يتم التوافق عليه بشأن الاتفاق النووي، وهو الذي كان نقطة الشروع بالاتفاق السابق. أما اليوم، فالمفاوضات لن تكون على أساس الأخذ والعطاء بشأن الملف النووي كما يرى قائد الثّورة الإيرانية، بل الهدف الرئيس منها هو رسم خارطة جديدة للعمق الاستراتيجي، وفق إعادة تحديد مفهوم الأمن القومي الإيراني، وإضعاف القوة الصاروخية الإيرانية، وهذه النقاط تحديدا غير خاضعة للتفاوض لدى القيادة الإيرانية.

اقرأ أيضاً: إيران مصغرة في أكثر من مكان

حيرة صانع القرار السياسي الخارجي الإيراني في البحث عن مخرج للمأزق كبيرة جدا. فحتى الفصائل المسلحة في البلدان التي تهيمن طهران على قرارها السياسي، لم تعد قادرة على أن تشكل ورقة ضغط قد تستخدمها إيران. فرسائل البيت الأبيض لطهران واضحة وصريحة، بأنها لن تقبل بتهديد مصالح واشنطن في منطقة الشرق الأوسط، وفحوى الرسالة عدم القبول بتكرار سيناريو “إيران كونترا”، وهذا هو بالتحديد مضمون رسالة التحشيد العسكري بتواجد حاملة الطائرات أبراهام لنكولن وقاذفات B-52 قريبا من المياه الإقليمية لإيران.

تراهن طهران على عامل الزمن، فهي تعتقد بأن عدم حصول ترامب على ولاية ثانية، قد يكون الفرصة الوحيدة للخروج من مأزق التفاوض وفق شروط ورؤية إدارة ترامب. ومن ثم، قد تقبل إيران بتحركات الوساطة التي تسعى إليها دولة أوروبية أو خليجية. لكن هذا القبول هو لكسب الوقت ولإبعاد شبح الصّدام العسكري، فالغاية الأساس ليست التفاوض والوصول إلى حلول، بل هو كسب الوقت لحين موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في 2020. وقد تكون تكلفة هذا الخيار غالية في حال تجديد الولاية لترامب.

ويدرك القادة في إيران أن خيار الحرب أو المواجهة العسكرية، على الرغم من تكلفته العالية، إلا أنه خيار أفضل من ديمومة واستمرار العقوبات الاقتصادية، والتي ترى فيها إدارة ترامب وسيلة فاعلة لعزل إيران اقتصاديا ودبلوماسيا، ومن ثم تغيير في سلوكها السياسي الخارجي في محيطها الإقليمي. وبناء على توقعات تقرير صندوق النقد الدولي، الذي نشرته فاينيشال تايمز، فإن العقوبات الاقتصادية الجديدة على إيران ستؤدي إلى زيادة التضخم ليصل إلى 40 في المئة هذا العام، ودخول الاقتصاد الإيراني في مرحلة الكساد العميق لأن معدل النمو سيكون ناقص 6، وهو الأسوأ منذ 2012.

بموازاة ذلك، على المستوى غير الرسمي، يقرأ بعض الإيرانيون ـ وتحديدا الإصلاحيون منهم ـ أن خيار عدم الذهاب إلى الحرب، الذي تتفق عليه طهران وواشنطن في تصريحاتها المعلنة، فرصة لإعادة تقييم الشعارات الأيديولوجية للنظام. ففي تعليقه على تقرير صندوق النقد الدولي، غرد الأكاديمي والصحفي الإيراني “صادق زيبا كلام” على حسابه في توتير: “دون أية حرب تسبب الخطاب المعادي لأميركا الذي نفخر به، بوصول مستوى التضخم إلى 50 في المئة وأصبح نمونا الاقتصادي ناقص 6!”.

بموازاة ذلك كتب الدبلوماسي الإيراني محمد حسين ملائك، سفير إيران السابق في الصين وسويسرا، مقالا دعا فيه إلى ضرورة إعادة تقييم عمل النظام السياسي الإيراني، إذ عَدّ فيه العقوبات الاقتصادية: “فرصة لتنتقل الثورة الإسلامية من تغيير كمّي (النظام الاقتصادي الفاسد والعدالة العرجاء) إلى تغيير كيفي (ما أوعدته الثورة للنّاس)، وأن تحقق قفزة لطالما كنا نأملها”.

إذا، خيارات طهران جميعها مُرّة، فالحرب أو الجلوس على طاولة المفاوضات نتيجتها واحدة وهي تحجيم نفوذ طهران الإقليمي. ويبدو أن نهاية النظام الإقليمي القائم على أساس الحرب الطائفية الباردة في منطقة الخليج، والتي كان أقطابها إيران والسعودية، وكانت ساحتها الدول الهشّة في المنطقة، قد شارف على النهاية، لا سيما بعد الانفتاح السعودي على العراق.

ويخبرنا تاريخ منطقة الشرق الأوسط المُتخَم بالحروب والصراعات أن إعلان موت نظام قديم، وولادة نظام جديد في المنطقة يحتاج إلى حرب حتى تتم عملية الانتقال. لكن يبدو أن هذه المرة من سيحدث التغيير هو العقوبات الاقتصادية على إيران، وتفعيل الاستراتيجيات الاقتصادية في خطة سلام الشرق الأوسط، والتي ستتضح أكثر في أولى جلسات ورشة عمل ستعقد في البحرين/ المنامة في 25-26 يونيو/حزيران القادم بعنوان: “السّلام من أجل الازدهار”.

السابق
تحرير جنوب لبنان… الأسطورة التي ضاعت
التالي
«إسرائيل» مستعدة لوساطة أميركية مع لبنان لحل النزاع البحري