من نهار «الخارجية» إلى ليل بعبدا: استيقاظ النظام الأمني

منير الربيع

التحذير الذي أطلقه رئيس الحكومة، سعد الحريري، للموظفين الحكوميين المضربين عن العمل، مؤشر جديد على تحوّل في منظومة ممارسة السلطة. استخدم الحريري مواد قانونية لإلزام الموظفين بعدم الإضراب وممارسة عملهم. وهذا التحذير، استتبع بلقاء ثلاثي في بعبدا، جمع إلى رئيس الجمهورية ميشال عون الرئيسين نبيه برّي وسعد الحريري. وحسب ما تؤكد المعلومات، فإن عون هو الذي طلب اللقاء الثلاثي، والذي تركز على نقطتين أساسيتين. النقطة الأولى، وقف كل الكلام حول الإفلاس والانهيار، والتي تدفع إلى تخويف الناس وتوتير الأجواء في البلاد. والنقطة الثانية، تتركز على عدم تغطية أي رئيس لإضراب أي تجمع عمالي أو نقابي. بمعنى أن لا يحظى العسكريون المتقاعدون بغطاء من رئيس الجمهورية، ولا يحظى موظفو مصرف لبنان أو المصارف الخاصة بغطاء رئيس الحكومة لأي تصرف يقومون به، ولا نقابات العمّال بغطاء من رئيس مجلس النواب. وذلك من أجل استكمال إقرار موازنة متكافئة، ولو لم تكن بالجدية المطلوبة.

اقرأ أيضاً: اللاءات الثلاث وطبول الحرب المؤجلة

القوى الأمنية والتطويع
لا شك أن اجتماع الرؤساء الثلاثة جاء بعد سلسلة مشاورات، تحت وقع الضغوط الشعبية. وكانت أولى مؤشرات لجمها، هي المذكرة التي أصدرها الحريري، وتأمر بوقف الإضرابات، وإلزام الموظفين بالعودة إلى عملهم. وصلت المشاورات إلى نتيجة واضحة بعد قراءة رسالة الشارع. لكن المهم في الأمر هو التحوّل الجوهري الذي يطبع المسارات السياسية والتحركات الشعبية والعمالية في لبنان. فحتى التحركات الاحتجاجية والمطلبية، أصبحت خاضعة لميزان سياسي ومستثمرة من قبل السياسيين.

وكما تحوّل العمال والموظفون إلى بيادق في معارك الساسة، كذلك يتحول التنافس بين الأجهزة الأمنية في ملفات متعددة، على رأسها حالياً ملف مكافحة الفساد، والتي تجلّت مؤخراً في الهجوم على قوى الأمن الداخلي. وكان هذا التنافس قد بدأ في دخول جهاز أمن الدولة إلى مصلحة “النافعة”، مقابل دخول قوى الأمن الداخلي إلى قصر العدل. ما يوحي بأن هذا التنافس قابل أيضاً للاستخدام من قبل الأجهزة الأمنية المحسوبة على الأطراف السياسية المتعددة في تطويع كل الإدارات الأخرى في الدولة.

التسريبات ووزارة الخارجية
ولأن لبنان يعاني من مرض مزمن هو تسريب محاضر الجلسات، فقد لجأ الحريري، في إحدى جلسات نقاش الموازنة الأسبوع الفائت، إلى إفتتاح الجلسة بالتوجه للوزراء قائلاً: “شو رأيكم ندعي الإعلام يحضر معنا الجلسة”. في إشارة منه إلى امتعاضه من التسريبات التي تتعلق بمحاضر الجلسات، والمشاورات التي تدور على طاولة مجلس الوزراء. ويمثل موقف الحريري انتفاضة على قضية التسريبات الإعلامية، لكنه لم يتخذ أي موقف جدّي لحجب هذه التسريبات ومنعها. وبلا شك أن هذه التسريبات تمثّل ضرورة بالنسبة إلى القوى المسرّبة في إطار سبق الخبر الذي يرتكز عليه المسؤولون لإعلان بطولاتهم. وعن التنافس في هذا المجال يمكن الحديث مطولاً بلا أي حرج.

وبينما اكتفى الحريري بتحذيره من التسريب، لجأ وزير الخارجية جبران باسيل، إلى جدّية في عمله لمواجهة تسريبات بعض المحاضر الديبلوماسية، عن لقاءات وفد نيابي في واشنطن، ولقاء نائب رئيس الحكومة غسان حاصباني مع أحد المسؤولين في الخزانة الأميركية. لكن الغريب في الأمر، أن باسيل لجأ إلى جهاز أمن الدولة للتحقيق بمسألة تسريب المحاضر، بدلاً من إيكال المهمة إلى جهة مختصة في الوزارة. وهذه تمثّل سابقة في تاريخ وزارة الخارجية، أن يتم إدخال جهاز أمني للتحقيق مع موظفين ديبلوماسيين.

التأديب العام
يرمي باسيل يرمي إلى ما هو أبعد بكثير من هذه السابقة، بشقها الإجرائي أو الإداري. تصرّفه هذا يعبّر عن التوجه الذي أصبح ثابتاً لدى مختلف القوى، نحو تطويع وتأديب كل الإدارات والمؤسسات. وإذا ما كانت المعلومة مقدسة، ومن مهام الإعلام الإضاءة عليها ونقلها إلى الناس، بما يخص أرقام الموازنة مثلاً، فإن تسريب محاضر ديبلوماسية يضرّ بلبنان وسياسته الخارجية. فكان لا بد لباسيل من اتخاذ الموقف الملائم. بينما يبقى المستغرب، استخدام جهاز أمن الدولة لأداء هذه المهمة. وكأن النية أبعد من التحقيق وتصل إلى حدود التأديب. وإذا ما سرى التأديب على مرفق عام، فلا بد أن يسري على مرافق أخرى.

بالانتباه إلى التنافس بين الأجهزة الأمنية، وسعي كل طرف سياسي إلى تعزيز دور الجهاز الأمني المحسوب عليه، يمكن إدراج إدخال جهاز أمن الدولة، المحسوب على رئيس الجمهورية، إلى وزارة الخارجية، مقدّمة لدخوله إلى الوزارات والإدارات الأخرى. وحين يخرج من يعترض على ذلك، سيكون الجواب جاهزاً، أن وزير الخارجية قد بدأ بتطبيق ذلك في وزارته. وإذا ما كان التحقيق حول تسريب المحاضر مسألة حق وواجب وضرورة، إلا أن الخوف يبقى من أن يتحول، إلى مطلب حق يراد به باطل، أي فتح أبواب الوزارات والإدارت أمام جهاز أمن الدولة، وتعزيز وضعيته ونفوذه، وإيكال مهمة مكافحة الفساد أو مواجهة أي قضية في أي وزارة أو إدارة مدنية إلى جهاز أمني. وهذه لا يمكن فصلها أو إبعادها عن موقف باسيل، الذي هاجم فيه قوى الأمن الداخلي ومديرها العام.

في مسألة التحقيق حول تسريب محاضر ديبلوماسية، فالأكيد أن المهمة يجب أن تقع على الجسم الديبلوماسي وليس على جهاز أمني. وحسب ما تشير المعلومات فإن التحقيقات تتركز مع بعض الديبلوماسيين، من بينهم أحد المسؤولين عن الشؤون الخارجية، والذي هو – حسب المعلومات – محسوب على الثنائي الشيعي. وبالتأكيد، خطوة باسيل لها هدف إداري من جهة، يأمل في أن يتفهمه كل من حزب الله وحركة أمل، مقابل أن يرسل رسالة إيجابية إلى الدولة الخارجية، ولا سيما للولايات المتحدة الأميركية، بأنه لا يسمح بتسريب المحاضر وحريص على المناقبية الديبلوماسية. أما النتيجة على المدى البعيد، فتكون باتجاه آخر، أساسه تطويع كل الإدارات لصالح الأجهزة الأمنية.

السابق
أكرم الكعبي: سنسوي تل ابيب وحيفا كصحاری أتاكاما
التالي
رسالة واشنطن واضحة لنظام طهران