السلوك المدني للنجف… الاستهداف الممنهج

مصطفى فحص

لم تكن عملية اغتيال العلامة السيد عبدالمجيد الخوئي في 10 نيسان/أبريل 2003 نتيجة فوضى عامة أو فراغ أمني أو صراع على زعامة دينية، بل هي واحدة من أكثر الاغتيالات المدروسة التي نفذت عن سابق إصرار وتصور، لما يمتلكه الراحل من خصوصيات علمية ومعنوية تؤهله لتقديم سلوك اجتماعي وثقافي وحتى سياسي “ملتزم بشروط المرجعية التقليدية التي تضع حدا لدور رجل الدين في السياسة، فهو يمارسها من موقعه كمواطن وليس كمعمم”.

فقد كان الرهان على دور مميز للخوئي في تشكيل وعي عام قادر على تحديد خياراته السياسية والعقائدية بعيدا عن الأيديولوجيات الدينية والسياسية ويمهد الطريق لحراك اجتماعي متدين يرفض استخدام الدين في الوصول إلى السلطة كما يرفض استخدام السلطة للدين.

هذا المسلك النجفي في العلاقة الأوسع بين المرجعية الدينية والمجتمع بكل شرائحه وتكويناته وانتماءاته لم يكن وليد لحظة سقوط نظام صدام حسين وغياب الدولة وضعف الحكومة المركزية في بغداد واضطرار النجف إلى ملئ الفراغ حماية لمصالح الدولة والشعب في العراق، بل كانت نتيجة لتراكم تجربة تاريخية منذ قيام دولة العراق الحديث والتي لعبت المرجعية الدينية دورا اجتماعيا مدنيا ينسجم مع موقعها الديني الرعوي.

اقرأ أيضاً: خطاب إيراني، ظاهره تصعيدي، وباطنه استجداء الحوار مع واشنطن

برز هذا الدور في محطات تاريخية هامة، عندما تصدت المرجعية للاحتلال البريطاني وطالبت دول العالم بالضغط على لندن من أجل قيام مملكة عراقية دستورية تقيد فيها صلاحيات الملك وإنشاء مجلس منتخب يقوم بدور رقابي على السلطة التنفيذية، وقد كانت الرسالة المشتركة، التي كتبها المرجعان الشيخ فتح الله الأصفهاني والسيد محمد تقي الحائري للرئيس الأميركي توماس ويلسون للضغط على الحكومة البريطانية في تحقيق آمال الشعب العراقي، دليلا مبكرا على مفهوم مختلف لفكرة الدولة ومؤسساتها لدى مدرسة النجف الفقهية.

وهو ما استكمله آية الله السيد علي السيستاني بعد سقوط نظام البعث عندما أصر في زمن الاحتلال على كتابة دستور للدولة وإجراء الانتخابات لتكون المعيار لاختيار ممثلي الشعب فضلا عن التداول السلمي للسلطة وبناء دولة المؤسسات، وقد أوضح السيد السيستاني موقفه من شكل الحكم في العراق وحدود تدخل المرجعية الدينية عندما أكد على أن “شكل نظام الحكم في العراق يحدده الشعب العراقي، وآلية ذلك أن تجرى انتخابات عامة، لكي يختار كل عراقي من يمثله في مجلس تأسيسي لكتابة الدستور، الذي يقترحه المجلس على الشعب للتصويت عليه، والمرجعية لا تمارس دورا في السلطة والحكم”.

نجحت مدرسة النجف الفقهية في تأسيس نمط مختلف لفهم العلاقة بين الفقه والسلطة، وحافظت على مسافة بينها وبين الدولة، دون التخلي عن دورها الإرشادي ورفضت أن تكون بديلا عن الدولة، من خلال تمسكها بنظرية ولاية الأمة على نفسها، وهي التي تعطي للفرد حرية اختيار انتمائه الفكري أو الحزبي أو العقائدي، ولكن تحت سقف القانون واحترام الأخلاق العامة وذلك في ترجمة حرفية لكلام رسول الله “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.

لذلك لم تكن النجف بمدارسها وقواها الناعمة بعيدة عن تبلور الحراك المدني وسياسة الانفتاح والحوار وشجاعتها في تأييد التظاهرات التي انطلقت في بغداد والمحافظات بالرغم من رفعها لشعارات قاسية أبرزها “باسم الدين باقونا الحرامية”، وحضور فاعل لرموز مدنية وفكرية وحزبية من خلفيات غير دينية، فقد تأسس مفهوم النجف التعددي للمجتمع في بداية القرن الماضي فقهيا على يد المرجع حسين النائيني في “المشروطية والمستبدة”، الذي أكد أن “المجتمع سواء كان مسلما أو كافرا لا بد من الحصول على رضاه وموافقته لأي مخلوق يريد أن يمارس السلطة بأموال أبناء هذا المجتمع ودمائهم وحقوقهم ومصالحهم ومصيرهم السياسي وليس بمقدوره عقلا وشرعا أن يمارس السلطة من دون رضاهم وموافقتهم مهما كانت نوعية حججه ومبرراته”.

ثم بلورها الإمام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين فكريا عندما اعتبر أن فكرة الدولة المدنية الديمقراطية لا تتعارض مع الشريعة، فاتحا الجدل حول إمكانية قيام دولة مدنية لا دين لها تكون حياد بين التعددية الطائفية والمذهبية وترعى التوازنات الاجتماعية.

هذه المنهجية في التفكير استمرت مع تجربة السيد السيستاني المُصر على بناء دولة عراقية حديثة بمعناها المدني دون الحديث مباشرة عنها ولكن من خلال وقوفه إلى جانب الأغلبية السياسية، ورفضه لحكم الأغلبية الطائفية وتأييده العلني للحراك المدني، وعدم اعتراضه على نشاطات القوى الناعمة خصوصا النجفية التي تقوم بدور الانفتاح على كافة المكونات العراقية والعربية وتدعو إلى تعزيز العيش المشترك والحوار بين الأديان.

وبعد أن بات دورها ملفتا، صار محل هجوم وتشويه من بعض القوى المحلية والإقليمية المتضررة من دور النجف الفقهي والاجتماعي حيث لم تستطع هذه الأطراف استيعاب رعاية العتبة الحسينية في مدينة كربلاء للمؤتمر العلمي الأول حول أسس ومرتكزات الدولة المدنية في المنظور الإسلامي، والذي بحث في أروقته دور السيستاني في تأسيس دولة مدنية.

كما كانت المؤسسات، التي يمكن وصفها بالقوة الناعمة النجفية، تعرضت لهذا الهجوم وفي مقدمتها مؤسسة دار العلم للإمام الخوئي، ومؤسسة بحر العلوم، والمجلس العراقي حوار الأديان، ومؤسسة الكلمة والحوار والتعايش التابعة للسيد الحكيم، ومؤسسة كاشف الغطاء وكرسي اليونسكو في جامعة الكوفة.

عود على بدء، إلى مدرسة السيد الخوئي التي حاربت وحوربت بسبب حمايتها للتقاليد المرجعية النجفية والتي تعرض أبرز رموزها إلى اغتيال جسدي ويتعرض الآن وريث مسيرتها إلى محاولة اغتيال معنوية نتيجة حرصه على الحفاظ على مسيرة هذه المؤسسة ودورها، متماهية مع ثوابت المرجعية العظمى التي تتعرض لهجوم مدروس من جهات يصعب عليها الاقتناع بأنها الفرع، وأن الفرع لا يمكن أن يكون بديلا عن الأصل مهما اتسعت قدرته وكبرت إمكانياته، لذلك لجأت إلى ضرب قواها الناعمة الأبرز في محاولة فاشلة لتسجيل نقاط بوجه المرجعية وفرض الحصار على السيد جواد الخوئي الذي جال منذ أيام في شارع المتنبي في بغداد حاملا رسالة تسامح لكل العراقيين.

السابق
مكتب فضل الله يعلن أول أيام شهر رمضان
التالي
لبنان «يشتري» عقوبات إضافية عليه بمواقف بعض مسؤوليه!