الانهيار ليس قَدرياً والشعب ليس كفّارة

نجحت السلطة السياسية بمكوناتها جميعاً، أن تقنع اللبنانيين بأنهم ذاهبون إلى الانهيار المالي والفوضى العارمة، ما لم تتمكن من تنفيذ خطتها المالية، تشتري لهم بها سترات النجاة. غالبية ساحقة من اللبنانيين، ولسنا في حاجة إلى ثُبت مرجع وإحصاء، لا تعتقد ولا بنجاعة الخطة منجاة من الانهيار. السلطة الفاقدة الثقة، المسؤولة عن تركيب عناصر الأزمة وتراكمها، نتيجة سياساتها الاقتصادية والمالية والنقدية والاجتماعية، تجهد اليوم لإقناع اللبنانيين بتحمل أعباء الأزمة “قشة لفة” بلا تمييز. وتكاد تحدد موعداً لانفجار الأزمة، إذا لم يطفأ فتيلها فوراً من دون تأخير. ولم يعد عسيراً تحديد ذلك الموعد. تتوقف الحكومة عن الإستدانة يسقط كل شيء. أو يتوقف الدائنون عن تجديد الدين لا فرق.

اقرأ أيضاً: هذا ما سيحصل إذا تقرّر خفضُ الرواتب

تجربة 2008
العجز والدين، خاصرة لبنان الرخوة. ونقتبس من الماضي الحديث والقديم، أن الانهيار المالي أناخ الدول الصناعية الكبرى على ركابها في أزمة الكساد الكبير 1929 – 1931، وأزمة 2008. في العقد الثاني من القرن العشرين كانت الدولة حيادية في الاقتصاد الكلاسيكي لآدم سميث لمصلحة القطاع الخاص. في العقد الثالث وبعد أزمة الكساد الكبير، تخلّت الدول الصناعية التي اقتفت الكينزية عن الدولة الحيادية إلى الدولة المتدخلة، التي رأى جون مينارد كينز فيها خلاصاً من الأزمة. ترسخت الكينزية بعد الحرب العالمية الثانية. في 2008 كانت الاقتصادات تحقق نمواً سبقته خضّات كبيرة وخطيرة في الأسواق المالية، سميت الإثنين الأسود والأربعاء الأسود. وما لبثت أن تعممت لفرط اتساعها على أيام العمل الأسبوعية بالكامل. لم تستوح الولايات المتحدة الخروج من أزمة 2008 لا سميث ولا كينز. بل لجأت إلى التأميم الجائر للخروج من الانهيار الشامل والركود العميق اللذين شارفا الكساد والبطالة من رقمين. التأميم الجائر كان شراء المؤسسات الكبرى المتهاوية من أموال دافع الضريبة. وضخّ مجلس الاحتياط الفدرالي أكثر من أحد عشر تريليون دولار أميركي، في ما عُرف سياسة التيسير الكمي لتوفير فائدة فدرالية قرب صفر في المئة، لإقراض الشركات والاقتصاد المال الرخيص بفائدة رمزية. إلتحقت أوروبا بالركب. وفرض المصرف المركزي الأوروبي فوائد سلبية جزائية على إيداعات المصارف لديه، كي يلزمها بضخها في الاقتصاد العاثر. سياسة المصارف المركزية تلك، غير التقليدية أدت إلى الخروج من الركود، وتحسن فرص العمل، وتراجع البطالة في الولايات المتحدة دون 4 في المئة. الأدنى تاريخياً مذ نحو 60 سنة. مع ذلك، فقد تركت الأزمة المالية العالمية ندوباً في اقتصادات الدول الصناعية ومنطقة اليورو خصوصاً، لم تندمل بعد، ولا يمكن الجزم بعدم تجددها.

ريعي وفاجر
في لبنان الوضع مختلف تماماً، نظرياً وعملياً. أحللنا منذ الطائف طبقة سياسية جديدة من زعماء الحرب محل معظم الطبقة القديمة. اندثرت عائلات إقطاعية كبيرة هيمنت على الحياة السياسية منذ الإستقلال، خلا قلة منها. لكن النموذج الاقتصادي الذي قام قبل الحرب على التجارة والخِدمات، مع تشريعات مرنة بلا قيود، كان يُدر فائضاً في الموازنة وفي نُظم الدفع الكلية خارج الميزان التجاري. لكنه كان مشوباً بسوء التوزيع، والتحيز الطبقي والاجتماعي، وبتهميش الأطراف لحساب المركز. بعد الطائف، تحول النموذج ريعياً بالكامل. وفاجراً لا يستوحي دولة سميث الحيادية، ولا دولة كينز المتدخلة. تدخلها كان مدمراً وأهدافه معكوسة. فالطائف الذي لم يتسع للشأن الاقتصادي والاجتماعي والتنمية، كان عليه أن يتكيف مع جوع المليشيات وأمراء الحرب للسلطة والنفوذ والمال. دخلت الطبقة السياسية الجديدة إلى الاقتصاد مؤسسياً. شراكة وأسهماً وتجارة وصناعة. وبعض الطبقة عمل حارساً سياسياً من الباطن للقطاع الخاص. تمّ تفسير المناصفة بين المسيحيين وبين المسلمين في مراكز الدولة الرئيسية في اتفاق الطائف، الذي تحول جزءاً من الدستور، مناصفة استحصاص الدولة ومنافعها وإداراتها. عمّ الفساد إلى حد السرقة الموصوفة. والتهافت على المشاريع العامة. وعلى الوزارات والإدارات والمؤسسات والمصالح المستقلة. وعلى مشاريع القطاع العام. وكان بالضرورة أن يكون ذلك مصحوباً بتجاوز الدستور حيناً، والقوانين أحياناً، وصولاً إلى تعطيل ملء الشغور في المؤسسات الدستورية، رئاسة جمهورية، ومجلس نواب، وحكومة، سنة وسنتين وأكثر. وكان ذلك كافياً لإعادة تشكيل نظام سياسي – اقتصادي مناوئاً للدولة الحديثة، وللنمو والتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية ومنحطّا أخلاقياً.

محركات النمو والاستثمار
هذا الواقع ليس موجوداً في الدول التي واجهت أزمات مالية واقتصادية. نظامنا لم يستنفد فقط التدفقات المالية التي تلقاها بعد الحرب. ولم يفرّط في فرص النمو وحسب، بل واستنفد الوسائل التي خرجت من خلالها دول من الأزمات. وعلى النقيض، السياسة النقدية غير التقليدية التي اتبعها مصرف لبنان منذ سنوات كانت خاتمتها أزمة. لم يكن المصرف مسؤولاً وحده عن الهندسات المالية. كان مرحباً بها من النظام السياسي. فالموازنات معطّلة ومعها قطوع الحسابات. الوصفة الملازمة للفساد، وإهدار المال العام، وتكبيل محركات النمو والإستثمار. في الولايات المتحدة نفسها تمّ رفع الفائدة الفدرالية إلى نطاق 2.40 – 2.75 في المئة. وكان يفترض جرعات زيادة جديدة ربع نقطة مئوية في 2019. ليس لاحتواء تضخم ما زال عند سقف 2.5 في المئة. بل ولاستخدامها أداة فاعلة لخفضها من جديد لو دهمت أزمة ركود جديدة. كل مناقشات الاحتياط الفدرالي، ومع الكونغرس تدور الآن حول هذا الشأن. توقف عن سياسة التيسير الكمّي. وانتقل منذ سنوات إلى إعادة طرح حيازاته التي اشتراها في السوق الثانوية للقطاع الخاص. لو خفّضنا الفائدة في لبنان على الليرة والدولار الأميركي لَتوقف تمويل الدولة. وتوقفت المصارف عن جذب ودائع من غير المقيمين، التي شكّلت مصدر ودائع رئيسياً في 2017 و2018. وُفتح باب التحويلات إلى الخارج على مصراعيه.

مهزلة تعدد الرؤوس
لقد استنفدنا السياسة النقدية غير التقليدية سلفاً قبل بلوغنا مرحلة الإنهيار. لكن هل السياسة المالية والضريبية، وقواعد الشفافية والإفصاح والحكم النزيه كانت موجودة في الأصل لتواكب السياسة النقدية التقليدية وغير التقليدية؟ لتكون مساعدة لخفض الفوائد على الدين العام التي نجبي نحو 40 من المئة من الإيرادات لسدادها من دون أصل الدين. وهل يمكن لهذه الفائدة أن تجذب مستثمراً واحداً للاقتصاد الذي يعمل بتعدد الرؤوس فرادى على هوى مصالحه النفعية؟ بينما تقتضي المرحلة من زمان تنسيق سياسات الاقتصاد الكلي، فلا يعود مريضاً مصاباً بالإشتراكات. فما ينفع تمويل الموازنة يضر بالإستثمار والنمو. وما ينفع الإثنين مناوئ لسياسة تثبيت سعر الصرف. وما ينفع تلك السياسة يزيد من الدين والفوائد. هل صدفة أن تكون مهزلة تعدد الرؤوس في السياسات الاقتصادية الكلية، وتنابذها، طبق الأصل عن مهزلة النظام السياسي المتعدد الرؤوس والمواقف في السياسات الوطنية الخارجية والاقتصادية والنقدية. التوافق فقط على السياسة المالية. الانهيار ليس قّدرياً. والشعب ليس كفّارة الذنوب.

السابق
اللقاء الروحي استنكر تفجيرات سريلانكا: هدفها زرع الفتنة
التالي
تقرير أمني: أمريكا أحبطت خطة «روسية – مصرية» بشأن «الأسد»