«إتفاق إهدن» كافٍ لترسيم الحدود البرّية مع سوريا؟

في المرحلة المقبلة، سيكون مُلِحاً أن يحسم لبنان مسائل حدوده مع إسرائيل. لكن عُقدة مزارع شبعا – كفرشوبا والترسيم البحري شمالاً يُحتِّمان حسم الحدود أيضاً مع سوريا. وهكذا، تتشابك تعقيدات الترسيم. ويراهن لبنان على رعاية دولية في الملف الحدودي، أو رعاية روسية على غرار ملف النازحين. لكنّ الحظّ هنا لا يبدو أكبر من الحظّ هناك. فهل مِن بديل؟
تُصِرّ قوى 14 آذار على أنّ اعتراف سوريا بمزارع شبعا وتلال كفرشوبا مدخل إلى إثبات لبنانيتها أمام المجتمع الدولي ومطالبة إسرائيل بالانسحاب منها، على غرار انسحابها من الجنوب عام 2000. كذلك تصِرُّ على أنّ ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا، من أقصى الشمال حتى المزارع، من شأنه أن يعالج أزمات عدّة جغرافية وديموغرافية وسياسية واقتصادية وأمنية.

الترسيم برّاً يحسم الحالات الغامضة لعدد من المناطق المتداخلة ويريح أهلها على الجانبين. كذلك يحسم الهوية اللبنانية لمزارع شبعا، ويساهم في ضبط الحدود السائبة للتهريب وفوضى السلاح والنزوح عبر المناطق الملتبسة والمعابر غير الشرعية.

وأما بحراً، فالترسيم هو الذي يتيح استخراج مخزونات النفط والغاز، من دون إشكالات حدودية شمالاً، كتلك التي يواجهها لبنان مع إسرائيل جنوباً.

اقرأ أيضاً: «حزب الله» يمنع 50 ألف نازح من العودة؟

وفيما تلتزم دمشق الصمت تماماً إزاء الملف، يُعبِّر بعض حلفائها اللبنانيين عن استغرابهم لمطالبة فريق 14 آذار بترسيم الحدود شمالاً وشرقاً. ويرى هؤلاء أنّ البلدين رسّما الحدود في مراحل سابقة، بعد انتهاء الانتداب… ثم كرَّسا ذلك بتوقيع اتفاق مشترك.

وفي رأيهم، لا حاجة اليوم إلى فتح مزيد من الملفات الشائكة بين لبنان وسوريا، تضاف إلى ملفات النازحين والأمن والإرهاب، ما يتيح للقوى الخارجية أن تتدخّل في خصوصية هذه العلاقات وتورِّط البلدين في مواجهة لا طائل منها، ولا تخدم أيّاً منهما.

ويذكِّر بعض حلفاء دمشق بأنّ الاتفاق على الترسيم اللبناني – السوري والتوقيع الثنائي على الخرائط قد حصلا فعلاً خلال عهد الرئيس سليمان فرنجية. وهم يبرزون الأدلّة في هذا الشأن.

في الوقائع: في 4 آب 1971، صعد إلى المقرّ الرئاسي الصيفي في إهدن، طوني الدحداح، الذي كان يومذاك ضابطاً في الجيش، ومسؤولاً عن الخرائط في القوات البرية، ولم يكن قد أصبح مديراً عاماً للأمن العام. ومعه محافظ البقاع جورج ساروفيم.

وخلال جلسة لمجلس الوزراء عُقِدت هناك، قدّم الدحداح خريطة كاملة للأراضي اللبنانية، مع الترسيم النهائي للحدود اللبنانية. وجلس قبالته وقبالة المحافظ عبد الحليم خدام وابراهيم صافي الممثلان للحكومة السورية. ووقّع الأربعة على خريطة لبنان النهائية التي وضعها الفرنسيون. وهي عالجت يومذاك مشكلة مزارع شبعا التي أصبحت لبنانية رسمياً.

إذاً، يسأل هؤلاء: ما الجدوى من المطالبة اليوم بالترسيم مجدداً، وخصوصاً في ما يتعلق بمزارع شبعا؟ ولماذا الإصرار على مطالبة دمشق بالوثائق والخرائط التي تثبت لبنانية المزارع، بهدف تقديمها إلى الأمم المتحدة، ما دام السوريون قد وقَّعوا خرائط مشتركة حولها مع اللبنانيين قبل نحو نصف قرن؟

في رأيهم أنّ السوريين اعترفوا بالحدود التي وضعها الفرنسيون بعد إعلان «دولة لبنان الكبير»، بالاتفاق مع بريطانيا التي رسَّمت أيضاً الحدود بين العراق وفلسطين. وكان ذلك في كانون الأول 1920. وقد تولّت تنفيذ هذا الاتفاق لجنة فرنسية – بريطانية مشتركة، عملت على ترسيم خط الحدود ميدانياً.

قطبا اللجنة هما الكولونيل الفرنسي بوليه والكولونيل البريطاني نيو كومب. وقد تَوَّجا من مهمتهما في شباط 1922 بتوقيع وثيقة تثبيت الحدود بين «لبنان الكبير» وسوريا من جهة، وفلسطين من جهة أخرى. وفي شباط 1924، بات الاتفاق يحظى بالمشروعية الدولية بعد إقراره في عصبة الأمم.

وهكذا، يمكن استنتاج أنّ النسخة الأصلية من اتفاق الحدود بين لبنان وسوريا ما زالت موجودة في سجلّات عصبة الأمم. والأمم المتحدة هي امتداد لعصبة الأمم في كونها المرجعية الدولية الشرعية.

ولذلك، في رأي بعض الخبراء، يمكن لبنان أن يطالب بإظهار هذه القيود والخرائط وتزويد الأمم المتحدة بها، وهي كافية لتأكيد حقّه في مزارع شبعا، بدلاً من انتظار دمشق لتفرج عن اعترافها، إلى أجل غير مسمّى.

هذه الوقائع لا ينكرها المعنيون بالملف، من جانب 14 آذار. وفي رأيهم أنّ غالبية النقاط الحدودية شمالاً واضحة، لكنّ التداخل واقعٌ في نقاط عدّة من الجهة البقاعية، وفي مزارع شبعا وتلال كفرشوبا.

وثمة اقتناع لدى هؤلاء بأنّ دمشق تريد المماطلة في هذا الملف لاستثماره وابتزاز لبنان، كما في كل الملفات الأخرى ذات الإهتمام المشترك.

وجاء الملف النفطي، وحاجة لبنان إلى الترسيم في المنطقة البحرية شمالاً ليزيد من الضغط عليه في الرضوخ للشروط السورية. ولذلك، يبدو الخيار الأفضل هو أن تقوم جهات دولية، عبر الأمم المتحدة، بدعم لبنان في تحقيق هذا الهدف، علماً أنّ القرارين 1559 و1701 يحرصان على ترسيم الحدود وحمايتها.

وفي أيلول 2017، حاول الرئيس سعد الحريري، في زيارته لموسكو، إقناع الرئيس فلاديمير بوتين بالمساعدة على إتمام ترسيم الحدود شرقاً وشمالاً، بعدما حاول الجانب اللبناني إنجازه عام 2010.

وأعلن جان أوغاسابيان الذي ترأس اللجنة المعنية عن فشل مهمتها بسبب تعطيل السوريين لها. وفي أي حال، جاءت الحرب في سوريا لتقضي على أيّ فرصة.

واليوم، مع بدء الدورة الثانية لتراخيص التنقيب عن النفط، أصبح ترسيم الحدود البحرية، وخصوصاً البلوك 2، أكثر من ضروري. ولكن، كيف يتم ذلك فيما السجال ساخن حول إمكان الاتصال بدمشق من أجل حلّ أزمة شائكة أخرى هي ملف النازحين.

المصادر اللبنانية المعنية تقول إنّ مسألة ترسيم الحدود لم تُبحَث مع الجانب الروسي في زيارة الرئيس ميشال عون لموسكو. فالملف ثنائي لبناني- سوري. وهكذا فإنّ المسألة ستكون متروكة للمحادثات التي ستجري بالتأكيد بين البلدين. وأما المبادرة الروسية فهي فقط لتسهيل وضمان كل ما يمكن أن ينتج عن هذه الاجتماعات المشتركة.

في الاستنتاج، الحلول سهلة لأزمة الترسيم. سواءُ بنبش الاتفاقات التي وقّعها البلدان سابقاً، أو بنبش أرشيف عصبة الأمم. ولكن، تصبح صعبة إذا تحوّلت ابتزازاً ومتاجرة سياسية.

السابق
«الإسرائيليون» يتوجهون للانتخابات في استفتاء على فترة حكم قياسية لنتنياهو
التالي
شابة أجنبية تثير بلبلة في الحمرا..