موسكو ـ بيروت: نوستالجيا المسألة الشرقية

مصطفى فحص

في موسكو، يُصر الزوار العرب على مختلف مستوياتهم السياسية أو الاجتماعية أو العقائدية على دعوة القيادة الروسية إلى ضرورة ترسيخ نفوذها الإقليمي واستعادة حضورها السوفييتي القيصري خصوصا في منطقة شرق المتوسط، التي تعرف في الأدبيات السياسية الروسية بـ”بلجني فاستوك” أي “الشرق القريب”.

بات هذا “الشرق القريب” أحد أركان العقيدة الروسية الجديدة التي مرت بعدة تحولات منذ وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة سنة 2000، ويتم تطبيق نسختها الأخيرة في منطقتنا بعدما تبلورت قواعدها السياسية للمواءمة بين طموحات روسيا بالعودة إلى المياه الدافئة وفوضى الربيع العربي واندفاعة موسكو لحماية مصالحها المرتبطة بما تبقى من أنظمة الحرب الباردة، وملأ الفراغ الأميركي في مرحلة الانكفاء الأوبامية.

فبعد إعادة انتخابه سنة 2012 دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى إعادة تعريف الهوية الروسية الجديدة بعيدا عن تأثيرات الليبرالية الغربية، باعتبارها عقيدة وطنية تمثل خيارات الأمة الروسية العظيمة ببعديها الجغرافي والعقائدي، اللذين يمنحاها شرعية زعامتها للعالم الأرثوذكسي، وكونها قوة عالمية فهي مؤهلة للقيام بواجب التدخل لحماية رعاياها.

اقرأ أيضاً: لبنان خلال أشهر بين حربيّن؟

تحت ذريعة حماية مسيحي سوريا والمشرق بررت روسيا تدخلها في سوريا منتصف أيلول/سبتمبر 2015، تدخل باركه بطريرك موسكو وعموم روسيا كيريل ووصفه بالمعركة المقدسة لتخفيف معاناة المسيحيين في المنطقة. وكان الرئيس الروسي قد سبق إعلان التدخل الروسي في المقتلة السورية ومباركة الكنيسة لها في خطاب ألقاه في نيسان/أبريل 2015 قال فيه: “فيما يتعلق بوضع المسيحيين في الشرق الأوسط، فهو مفزِع. وقد أثَرنا هذه المشكلة عدَّة مرات، إلا أن المجتمع الدولي لا يتَّخذ التدابير الكافية لحماية السكان المسيحيين في الشرق الأوسط”.

نجح الكرملين في خلق مسألة أرثوذكسية أولا ومسيحية ثانيا، واستغلها من أجل تحقيق موطئ قدم دائم له على ضفاف المتوسط مستعيدا دور روسيا القيصرية في طرح المسألة الشرقية، باعتبار أن انتصار روسيا بالحرب السورية على الأغلبية السورية لا يختلف عن انتصار روسيا القيصرية في حرب البلقان على الإمبراطورية العثمانية في القرن الثامن عشر والتي فرضت على إسطنبول توقيع اتفاقية “كيتشوك كاينارجي” في بلغاريا سنة 1774 حيث انتزعت بطرسبرغ الحق في رعاية شؤون المسيحيين الأرثوذكس الذين يعيشون في الولايات العثمانية؛ فكما شرّع انتصار البلقان التدخل الروسي المباشر في الشؤون الداخلية للسلطنة العثمانية، شرع الانتصار على ثورة الشعب السوري التدخل الروسي المباشر في شؤون الكيانات السياسية للموروث العثماني تحت ذريعة حماية المسيحيين ليس فقط في سوريا بل حتى في العراق ولبنان.

عمليا يمكن حصر الانتصار جغرافيا في سوريا. لكن يمكن توسعته إقليميا حتى يصل تأثيره مباشرة إلى لبنان الذي يتأثر بالحدث السوري منذ ما قبل زمن الوصاية السورية على لبنان، إلى زمن الوصاية الروسية المشتركة على سوريا ولبنان، نتيجة لاعتبارات الطبقة السياسية اللبنانية الحاكمة التي أعادت ربط لبنان بالفلك السوري الخاضع أكثر من أي وقت مضى للمحور الروسي ـ الإيراني الذي يتقاسم النفوذ من بغداد إلى بيروت مرورا بدمشق.

في موسكو قدم الرئيس اللبناني ميشال عون، الذي قام بزيارة عائلية للرئيس بوتين، الشكر على حمايته لمسيحيي الشرق، فكان رد بوتين بأننا “نقيم علاقات مع كافة ممثلي دولتكم وكافة القوى السياسية والفئات الدينية”. من البوابة السورية، حاول الرئيس عون وصهره وزير الخارجية جبران باسيل تعزيز التقارب اللبناني العام مع روسيا، وعلاقة “العوني الخاص” مع قيادة الكرملين، على قاعدة المصالح المتبادلة، التي تبدأ في العمل على إعادة تعويم النظام السوري واستخدام لبنان منطلقا للتطبيع مع الأسد.

ويأمل وزير الخارجية جبران باسيل، الذي يقدم نفسه راع للمصالح الروسية في لبنان، أن يحصل في مقابل ذلك على تبني موسكو دعمه مستقبلا لرئاسة الجمهورية. وفي سبيل ذلك أيضا، حصلت بعض شركات الغاز والنفط الروسية على تسهيلات استثمارية في لبنان، ويبدو أن هناك شركات روسية أخرى ترغب في الاستثمار في لبنان، رغم وجودها على لائحة العقوبات الأميركية.

كما طالب عون أن تقوم موسكو بدور لحل نزاع الحدود البحرية مع إسرائيل، فيما شدد الطرفان على ضرورة إيجاد حل سريع لمسألة النازحين السوريين التي باتت تربطها موسكو بإعادة الإعمار فيما تربط الدول الكبرى إعادة الإعمار بالحل السياسي تحت شرعية جنيف والقرار الأممي رقم 2254.

ذهب عون إلى روسيا للحديث عن النازحين والطاقة والتسلح، ولم يرافقه الوزراء المعنيون بهذه القضايا، وحده جبران باسيل حاول من جديد إغراء القيادة الروسية بأن نفوذهم في المتوسط يحتاج إلى سياسيين لبنانيين من دعاة حلف الأقليات ليكونوا البديل عن رهبان الكنيسة الروسية الذين طالبوا الإمبراطورة كاترين الثانية في “كيتشوك كاينارجي” ببسط النفوذ الروسي على كافة الأماكن الأرثوذكسية في بلاد الشام.

السابق
التبرعات «الكاش» لحزب الله: بين الأمنيات وواقع الانكماش الاقتصادي
التالي
حداد اتصل بجنبلاط وأبو فاعور شاكراً إلغاء رخصة مصنع الأسمنت في عين دارة