لن ننتظر خطبة حسن نصرالله. ما سيقوله رداً على جولة وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، نعرفه سلفاً. ويمكننا أن نخمن العبارات التي سيستعملها ضد دونالد ترامب، وقراره الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان المحتل. بل يمكننا إدراك ما سيقوله أيضاً في الشأن الحكومي، والقضايا الأخرى التي سيبدي فيها رأيه (قراره، بالأحرى).
بتنا معتادين على حالنا هذه، أي أن تناط مصائرنا وسياساتنا لا إلى دولة منبثقة من إرادتنا الجامعة، والمنتخبة بإرادتنا الحرة، بل إلى “جهاز” رديف للدولة وأكثر تمكناً، ويشاطرها القوة أو يغلبها، وينافسها في السلطة وفي إدارة “العنف” والسيطرة والضبط.
وإذ تتميز تجربة “حزب الله” إنها تطورت من حال الخروج على الدولة ومناوءتها ومعارضتها، إلى حال استدخالها فيه ومشاركته إداراتها ومواردها، من دون اندماجه فيها، فيكون هو المستقل عنها و”أسمى” منها ومن “مفاسدها”، وتكون هي مستلحقة وخاضعة، وإن بشروط “زواج” يكتنفه بعض التهذيب واللياقة حيناً، والتعنيف أحياناً.. إلا أن ظاهرة “حزب الله” هذه ليست استثناء لبنانياً، على ما يظن كثيرون.
فالضعف الذي أصاب مفهوم “الدولة”، والخراب الذي طال أبنيتها وأركانها، يكاد يصير ظاهرة معولمة، على ما تدل عليه الشواهد المتناثرة في القارات الخمس. إن اعتياد النظام العالمي اليوم على هذا التوسع الهائل لأعمال ما يسمى “المنظمات غير الحكومية”، كضرورة لرعاية مئات الملايين من البشر، والتخفيف من آثار الفوضى التي تعصف بعشرات البلدان والدول، تدل على نحو حاسم على تفشي ظاهرة “الدولة الفاشلة” في أنحاء العالم، وعجز شعوب كثيرة عن الركون إلى نظام سياسي ودولة، بل ميلها إلى الاعتصاب بهويات جزئية، هويات ما قبل الدولة الحديثة وما قبل الاجتماع الحديث.
اقرأ أيضاً: حزب الله يسجل انتصاراً سياسياً كبيراً بفضل بومبيو
انهيار “الدولة” مظهر ملازم للعالم المعاصر، وليس عابراً. فمثلاً، منذ الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979، لم يعرف هذا البلد طوال 40 عاماً استباب الدولة أو سيطرتها على البلاد، فظلت الحركات المسلحة تتصارع فيما بينها وعلى السلطة، ورست أخيراً على نزاع مستمر ومديد بين “الدولة” و”حركة طالبان”. وتنبئ التوقعات المستقبلية للحل السلمي في هذا البلد، أن “طالبان” ستثبت نموذجاً من التعايش مع الدولة قريب إلى حد ما من نموذج “حزب الله” في لبنان.
وعلى هذا المنوال، تقوم حركات “بوكو حرام” وشبيهاتها في جنوب الصحراء الكبرى من تشاد إلى النيجر ومالي ونيجريا، بتقويض الدولة المركزية، وإنشاء كياناتها المسلحة، التي ترفدها حواضن اجتماعية وموارد اقتصادية غير شرعية، كالتهريب واستغلال المناجم وآبار النفط والإتجار بالبشر وتبييض الأموال.. وتباشر حروباً أهلية مشتعلة أو باردة، انفصالية أو انقلابية، تسعى وحسب إلى التحرر من شروط الدولة وقوانينها وحدودها السياسية. وهذا ما كان حال الصومال طوال عقود وحتى اليوم.
وظهر استعصاء الدولة وسيادتها على نحو مفجع في العراق، بعد سقوط صدام حسين، فخرجت الجماعات إلى التسلح وإلى الاعتصاب في ميليشيات طائفية ومذهبية وإثنية، وأحياناً مناطقية وعشائرية، وظلت على تمردها حتى اللحظة. فرغم تمكن الحكومة المركزية من تحصيل أسباب السيطرة والقوة، وخوضها الحرب الناجحة ضد “تنظيم الدولة”، إلا أنها ارتضت مقاسمة سلطتها وسلاحها وسيادتها مع “الحشد الشعبي”، الأقرب تنظيماً وأيديولوجية وسياسة إلى حزب الله اللبناني ونموذجه في ترتيب العلاقة مع “الدولة”، حيث الغلبة للميليشيا على الجيش، وللمرشد الديني على رئيس الدولة.
وعلى الأرجح، يتجه اليمن، الذي يخوض فيه الحوثيون حربهم السابعة (الأولى كانت عام 2004)، إلى واحد من النماذج المذكورة آنفاً، حيث التعايش بين الفوضى وشبهة الدولة يمتد إلى مستقبل غير منظور.
وكما في ليبيا، سوريا اليوم هي أحدث وأسوأ صور نهايات الدولة “الوطنية”، المولدة لحروب متتالية بلا نهاية.
يشكل “حزب الله”، بالنسبة إلى كل الحركات المسلحة، من الجزر الفليبينية إلى فنزويلا، الشكل الأرقى في صوغ هذا النمط من معايشة الدولة والخروج عليها في آن واحد. وإن كان هذا الحزب يطمح إلى التماثل مع “النظام” الإيراني، حيث الدولة تامة ومقتدرة وكاملة السيادة، إنما متخلية عن “السلطة” لحزب الثورة وميليشياته.
طوال عقدين تقريباً، يتوهم اللبنانيون أن واقع “حزب الله” كجهاز حزبي وأمني وعسكري، وكـ”شعب” خاص، هو أمر عابر وطارئ، ووليد ظروف آيلة إلى التبدل، وأن الصيغة السياسية والاجتماعية والثقافية التاريخية لا بد أن “تلبنن” هذا الحزب، وأن الدولة ستستوعبه وتهضمه. لكن هذا الوهم فيه إنكار أن حزب الله قد غيّر لبنان ومعناه، وهو يصيغ الدولة وفق نموذجه “الإيراني”، فيكون هو مصدر السياسة (وأخلاقها) وهو “حرسها الثوري”، ويستتب أمينه العام وليّاً متسامياً على الانتخاب والتمثيل، ومتعالياً على الرئاسات جميعها.
وما على الرعية إلا السمع والطاعة.. إلى قيام الساعة.