حملة فاسدة على الفساد

خلال الأشهر الماضية، خرجَ “إنذاران”، أو ثلاثة، من أحد مندوبي حزب الله إلى البرلمان اللبناني، حسن فضل الله: إنذار من أنه يملك ملفات فساد عاتية بحق بعض المسؤولين، وأنه سوف يكشفها إلى العلن يوماً ما. فأتى ذاك اليوم، الأسبوع الماضي، وكانت القنبلة غير المفاجئة. الكبش الذي اختاره “نائب الأمة” هذا كان أبلغ دلالةٍ من كل العراضات التي سبق له أن قدّمها في أثناء إنذاراته السابقة: انه الرجل الذي وقف من الحزب في مغامرة حرب 2006 موقف رجل الدولة المسؤول عن مصير شعب وبلد. فؤاد السنيورة، رئيس الوزراء وقتذاك، والذي تحوّل اليوم إلى خروفٍ أسود ثلاثي الأوجه: مرة لأنه لم يُجعل لا نائباً ولا وزيراً في “القيادة” المتجدِّدة للبلاد، أي أنه بلا حصانة قانونية، ولا معنوية. ومرة أخرى، لأنه مستبعَدٌ من التيار الذي دعمه، “المستقبل”، لما في سياسة رئيسه من انبطاح أمام حزب الله وحلفائه، وللرجل موقف معارض له. ومرة ثالثة، لأن بروباغندا الحزب “الممانِع” اشتغلت، منذ حرب 2006، أي منذ عقد ونصف، على تلطيخ سمعته، على نعته بكل القبائح؛ بعدما طوّقه الحزب في نوعية غوغائية من العراضات، المسمّاة “جماهيرية”، وأشاع الهجاء المُرْسل بحقه، إنه رئيس حكومة “مبتورة”، “غير شرعية”… ثم عمل، بالتواطؤ مع حليفه نبيه بري، على استكمال هذا التطويق عبر إغلاق البرلمان وتعطيل التشريعات كافة، بل تهديد النواب. كانت مرحلة إرهاب ضد كل من وقف إيجاباً مع انسحاب الجيش السوري من لبنان.

اقرأ أيضاً: وفيق صفا لريَّا الحسن: أهلاً وسهلاً بك

انظر الآن إلى المفارقة الصارخة: فؤاد السنيورة الذي ُحرم من تشغيل الدولة بعيْد حربٍ افتعلها حزب الله مع إسرائيل عام 2006، اضطر وسط التعطيل أن يوقّع على مصروفاتٍ باللجوء إلى القاعدة الإثني عشرية، من دون المرور بالمؤسسات التي سخّرها حزب الله لخدمة تعطيله لها (من هذه المصاريف، مثلاً، رواتب وزراء الحزب ونوابه…). بعد هذه السنوات، من تجاوزاتٍ ارتكبها هذا الحزب بحق الدولة والمؤسسات والقانون، ومن ترسيخه دويلته غير القانونية، الكاسِرة للقانون والمؤسسات، والدولة نفسها، بعد هذه السنوات من تواطئه مع الفاسدين، وانتفاعه المفتوح من حصة الشيعة في الوظائف والمكاسب، ومن أخبار عن أوكار
“كل الذي ربحه حزب الله من فساده متعدِّد الأوجه، لم يَعُد يكفي بعد “انتصاراته” الساحقة” دعارةٍ يشرف عليها أعضاء فيه.. فوق تجاوزه الحدود لخوض حربٍ تنهك الدولة، حرب دخل عبرها الحزب الى مَواطِن الفساد السوري، منتظماً، نشطاً، مبدعاً في بعض الأحيان، ومخترعاً أشكالاً جديدة من الفساد، وفّرتها الساحة السورية المنفلتة، بدورها، من كل قانون، غير قانون الحرب. هو الحزب الذي حرم السنيورة من القيام بمهامه رجل دولة، يريد “محاسبته” على “الإحدى عشر مليار الضائعة”، التي يتَمهه بأنه “إبْتلعها”، وصار أغنى رجل في لبنان… أي بمعنى آخر، الحزب الذي دمّر القانون والدولة والمؤسسات، يودّ اليوم اعتماد القانون والمؤسسات والدولة لمحاسبة الرجل الذي حاول عدم إماتَتِها! لا أدافع عن السنيورة، فالرجل قام بخير دفاع. إنما الاختيار غير موفَّق، سافِرٌ في اعتباطيته، عن قصدٍ ربما، إذا ما قِسْته بما يعتمل في بحر الفساد “الرسمي” و”الحزبي” الحاكم، من حزب الله وحلفائه وخصومه: فساد مفضوح، معشَّشْ، مؤطّر، لطالما طفح ونضح وتلقّى اللعنات من ألسِنة طاقم الحكم نفسه. وإذا أردتَ أيضاً أن تقيسه بغير “ميزان القوى” الذي رستْ عليه الساحة اللبنانية أخيراً؛ وهو ميزانٌ لا يأخذ غير السلاح والصواريخ معياراً له.
الشارحون المتحمِّسون لخطوة حزب الله هذه يفسرون لكَ “انعطافته” الداخلية الجديدة بعبارات “الإستراتيجية”، فبرأيهم، بعدما حقّق الحزب “الانتصار” تلو الآخر، على الصهيونية والإمبريالية والإرهاب في لبنان وسورية، صار عليه الآن أن يلتفت الى الداخل، و”يصلح” شأنه، فباتَ “الاهتمام بالشأن الداخل اللبناني يوازي الاهتمام بالمقاومة” (بعبارات أحد المفسّرين). لماذا؟ لأن “المخاطر كبيرة”. هذه الانعطافة عمرها ستة أشهر، منذ الحملة الانتخابية أخيراً، وقد شعر الحزب خلالها بنبْرة احتجاج وتبرّم لدى جمهوره على تدهور أوضاعه البيئية والمعيشية، وعلى استشراء الفساد المكشوف بين رجالات ومسؤولين فيه.
وعليكَ أنت أن تفكّك فساداً أصلياً في هذه الفكرة نفسها: فمن قال بالأساس إن الحزب استكمل مهماته تجاه إسرائيل، وفي سورية؟ من أفهمه، بالعمق وليس بالخطابة، أنه انتصر على الصهيونية والإمبريالية؟ وماذا يضمن لنا على غرار ما وقع مع “مقاومته “، في تسمية الأشياء بغير أسمائها، ألا يكون المقصود من حربه على الفساد هو الثأر من رجالٍ لا يستسيغونه، ومعه، وبعده، الكتل الطائفية التي تقف بوجه هيمنته المطلقة على البلاد، وتزن بغير أوزانه؛ وهو يعتقد أنه قادر على هضْمها كلها؟ الحليفة منها والغريمة؟
كل الذي ربحه حزب الله من جرّاء فساده متعدِّد الأوجه، لم يَعُد يكفي بعد “انتصاراته” الساحقة الماحقة على الإرهاب وإسرائيل وأميركا. “استراتيجيته” الجديدة باطِنها شحّ مالي تعاني منه
“الحزب الذي دمّر القانون والدولة والمؤسسات، يودّ اليوم اعتماد القانون والمؤسسات والدولة لمحاسبة الرجل الذي حاول عدم إماتَتِها!” كادرات الحزب، إذ يعيشون، مثل كتّاب الصحف المندثرة، على تأخير في الرواتب، وتخفيض لها. ثم اقتراب موعد الإعلان عن المتهمين في اغتيال رفيق الحريري، والحزب أكبر المتورِّطين به؛ فضلاً عن التعرّض لمزيد من الضغوط المالية الأميركية، والبريطانية أخيراً، عليه وعلى إيران، مصدر ماليته؛ ثم توقف المعارك في سورية، ومعْمعة غاطس فيها الحزب، لا نعرف الكثير عنها. وإفشال المؤتمرات الدولية الداعمة للبنان، بحجّة التدخل الإمبريالي في شؤوننا، وبسبب حقيقي، هو رفض الحزب الرقابة على عمل مؤسسات الدولة وتفعيل قوانينها، إلا إذا جلسَ فوق أطلالها، بحجة “حماية المقاومة”. وكلها سياقاتٌ، تتطلب من الحزب أن “يحزم” أمره باستراتيجيةٍ تفضي إلى: الاستيلاء على ما تبقّى من الدولة، أي خيراتها القليلة، النفخ في دخان الحجب عن قرارات المحكمة الدولية، يبقي على بياض صورته، وبنوع آخر من الإرهاب القائم على “محاربة الفساد”؛ يملك القوتين، الأخلاقية بعد العسكرية، ليسكِت الجميع، الأصدقاء والخصوم: “الأمر لي!”، يكاد يصرخ النائب المتخصِّص بالعراضات الإعلامية ضد الفساد. فتكون للفساد حياة أخرى، مميّزة،، ندّية، لا تبدأ من الصفر، لكن لها أبطالاً جُدداً، بوجوه شابة، ذوي “طلّة”، واعدين بطاقاتهم، تبارك خطاهم مرجعيات دينية. من سيجرؤ ساعتها على النّيل من حصانتهم هذه؟

السابق
نظر إلى صورة الإمام الصدر وقال: «أعتقد عند عودته سيُفتتح مستشفى السكسكية»
التالي
زيارتا «دوكان» و«ساترفيلد»: توصيات وتحذيرات تثير قلق حزب الله