صَدَقَ نَوّاف الموسوي! ولكن!

لقمان سليم

على هامش جلسات مجلس النواب اللبناني لمناقشة البيان الوزاري الذي تقدمت به الحكومة اللبنانية الجديدة، (حكومة سعد الحريري الثالثة)، لنيل الثقة، في حمأة مبارزة كلامية كان نجومها نائبا السُّلالة الجميليَّة (سامي أمين الجميل ونديم بشير الجميل) ونائب حزب اللـه (السيد) نواف الموسوي، فرطت من الأخير ملاحظة ضاهى فيها بين رئيس الجمهورية المنتخب عام 1982، (دون أن يتسنى له بداعي الاغتيال تولي مقاليد الرئاسة)، بشير الجميل، ورئيس الجمهورية الحالي العماد ميشال عون فاعتبر أن وصول أول الاثنين إلى السدة الأولى على متن الدبابة الإسرائيلية سبة لا امِّحاءَ لها، في حين أن وصول الثاني إلى المنصب نفسه بفضل “بندقية المقاومة” شرف وعزّ يشفعان له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

وإذ أخذت هذه “الحمية الجاهلية” السيد الموسوي فاته أن المضاهاة، ولو قصد صاحبها منها إلى المفاضلة، لا تستقيم إلا بين مثلين، أو قل بين اثنين من جنس واحد، وعليه فما هو أن حرَّك لسانه بهذه الملاحظة حتى قامت عليه قيامة الخصوم والحلفاء معا: الخصوم، ورثة بشير الجميل، لما اعتبروه مسّا بشهيدهم “الرئيس” ورئيسهم “الشهيد”، والحلفاء، مريدي العماد ميشال عون لما اعتبروه حَطّا من نضالاته (المديدة) وصولا إلى الرئاسة لا تختزل بما بينه وبين حزب الله من “تفاهم”، وتعييرا له بأنَّ في ذمته دين لا وفاء له لـ “بندقية المقاومة”.

اقرأ أيضاً: تهديدات ومخاطر في لبنان تدفع حزب الله للاعتدال والاعتذار

وكان ما كان، وثارت الحفائظ، وانطلقت الألسنةُ بالوعيد والتهديد، وأنْذَرَ الأمر بشر مستطير، فسارع سعاة الخير إلى رياضتهم الأثيرة في تطييب الخواطر وفي إعادة الأمور إلى نصابها، ونجح سعيهم، وفي اليوم التالي، تحت قبة البرلمان نفسه، وفي غياب النائب صاحب الملاحظة الذي أشعل بزلة لسانه هذا الحريق الصغير، وقف وَلِيّ أمْرِ “كتلة الوفاء للمقاومة”، (كتلة نواب حزب الله في البرلمان النيابي)، النائب محمد رعد، واعتذر باسم الكتلة عن الحماقة التي ارتكبها “أحد الإخوان” طالبا شطب العبارة من محضر الجلسة. استُقبل الاعتذار بالتصفيق، وانهالت المدائح والمحامد على “الحاج أبي حسن”، (النائب رعد)، وانتهى الأمر، أو زُيِّنَ للبعض من اللبنانيين، شأن ما يُزَيَّن لهم في كثير من الأحيان، أنَّه انتهى…

ليس من الصعوبة بمكان أو زمان أن يُفَسِّر الواحد منا والواحدة سبب مسارعة النائب محمد رعد، باسم كتلته، واستطرادا باسم “حزب الله”/”المقاومة” إلى هذا الاعتذار الطنان الرَّنان الذي يكاد ألا يكون له من سابقة في سجل حزب اللـه النيابي وغير النيابي.

فالأكيد المحقق أن الحاج أبا حسن لم يُكَلَّف تكليفا شرعِيّا بإماطة الأذى الذي خلفته ملاحظة السيد الموسوي براءة من السردية التي تُريد أن بشير الجميل وصل إلى الرئاسة على متن دبابة إسرائيلية، ولا خوفا من تَذْكير نديم بن بشير بأنه ورفاقه لم ينسوا فن الحرب بعد، ولا توجسا من غضبة كتائبية لا تبقي ولا تذر، وإنما صدورا عن “أنانيَّة حزبيَّة” عنوانها السياسي ما يمهر فيه حزب الله، مهارة لا يجاريه فيها أحد، من إدارة “التقية” ومن التوسل بها بالقدر المناسب، وعنوانها الفقهي “تزاحم المفاسد”، أي العمل بالقاعدة التي تنص على أنه إذا اجتمعت مفسدتان لم يتيسر دفعهما كليهما، فالأولى ارتكاب الأخف والأيسر لدفع الأثقل والأشد… مقولُه: بين تَسْفيهِ النائب السيد الموسوي والملاحظة التي لاحظها، وبين الاستسماح العلني عذرا من جميع الذين ساءتهم هذه الملاحظة، والسّعْي إلى حصر الأضرار التي تسببت بها، والسَّعْي إلى ترميم “الشرعية الأخلاقية” لميشال عون، وإعادة الاعتبار لصورته بوصفه رئيسا منتخبا لا رئيسا انقلابيّا جاءت به إلى السدة الأولى بنادق لبنانية مأجورة لإيران، آثر حزب الله التَّضحية بغرور نائبه المِهذار، والتَّنازل عن عصمة لطالما نسبها إلى نفسه وقياداته واستعلى بها على اللبنانيين… وأحيانا على العالمين كافَّة…

هو كذلك، أو قريب من ذلك، من ألف القصة إلى يائها ولكنْ… ولكن: استئناسا النصيحة الذهبية التي توصي أن لا يقيس الواحد منا الحق بقائله بل بموازين الحق والباطل، ونزولا عند ما قرره العلامة الشاطبي بأوجز عبارة من أنه “إذا كان الحق هو المُعْتَبَر دون الرجال فهو أيضا لا يُعْرف دون وسائطهم فهم الأدلاء عليه…”، لا معدى من التسليم، بلا تردد ولا تحرج، أن السيد نواف الموسوي الذي جنى على أهله لِما زلَّ من لسانه حيث لا يحمد الزلل، كما جنت يوما على أهلها الكلبة براقش إذ نبحت حيث كان يفترض بها ألا تنبح ــ نعم، لا معدى من التسليم بأن النائب نواف الموسوي على حق في ما ذهب إليه وبأنه مصيب: بشير الجميل وصل إلى رئاسة الجمهورية اللبنانية على متن دبابات جيش الدفاع الإسرائيلي التي اجتاحت لبنان عام 1982، وميشال عون يدين بوصوله إلى المنصب نفسه إلى اجتياح آخر، أقَل مشهدية لربما، هو الاجتياح البطيء المتأني للبنان، ــ الاجتياح الناعم أحيانا الخشن أحيانا أخرى، المُتَقَنِّعُ بقناع “المقاومة” حينا، و”الدفاع عن لبنان واللبنانيين” حينا آخر و”محاربة الإرهاب التكفيري” ثالثة، وسواها من الأقنعة، والمذيَّل بتوقيع حزب الله بالأصالة عن شبكة المصالح المحلية وغير المحلية التي بات يُمَثلها، وبالنيابة عن إيران ولاية الفقيه وطموحاتها إلى التوسع وإلى ضَيِّ ما أمكن من الشرق الأوسط تحت عباءة الولي الفقيه.

نقول نواف الموسوي على حق ولا نقصد من التَّسليم له بالصَّوابِ صوابَ الوقائعِ التاريخية التي يُشير إليها من فَضْلِ الإسرائيليين على بشير الجميل، ومن فضل حزب الله على ميشال عون. فهذه وقائع مثبتة لا جدال فيها ولا مراء، ومثبتة لا بالحيثيات التاريخية فحسب، وإنما بشهادات مريدين للجميل ولعون لا يُشَكُّ بإخلاصهم وبنزاهتهم لكلا الرجلين، ولعلَّ آخرها، في ما يتعلق بالجميل، ما يرد، بصريح العبارة، في كتاب “مع بشير”، وهو مجموعة “ذكريات ومذكرات” بتوقيع جورج فريحة، نسيب آل الجميل وأحد اللصيقين ببشير، وفي ما يتعلق بعون، بما قاله صهرُه ووزيرُه وسِرُّه وزير خارجية لبنان يوم الخامس من شباط/فبراير الجاري بمناسبة احتفال حزب الله والتيار الوطني الحر بالذكرى الثالثة عشرة على “التفاهم” الموقع بينهما من أنه “لولا حزب الله لما كان العماد عون رئيسا”.

بيت القصيد، إذا، ليس الحقيقة التاريخية في الملابسات التي رافقت تسلق هذا (الجميل) أو ذاك (عون) إلى كرسي الرئاسة وإنما في مآلات الرِّئاسة نفسها، وفي محلها من النظام السياسي اللبناني ـ لا سيما وأنها المنصب المنصوب للطائفة المارونية في هذا النظام، وأحد آخر معالم “الوجود المسيحي” في هذه المنطقة من العالم.

وبهذا الاعتبار الذي يتجاوز شخص بشير الجميل وميشال عون، يمكن لهاو التاريخ أن يتمعن أكثر في “مديونية” الجميل وعون الرئاسيتين فيَتذكر، وَيُذَكِّر، بأن الأخير، ميشال عون، الضابط برتبة عقيد في الجيش اللبناني أيامذاك، كان، عشية اجتياح 1982، من المقربين من بشير الجميل وبأنه، بهذا المعنى، أدى قسطه إلى العلى في إيصال بشير الجميل على متن الدبابة الإسرائيلية إلى قصر بعبدا، وبأنه، بهذا المعنى أيضا، يجمع في سيرته أطراف مجد وسؤدد لم يجتمعا لبشير…

فميشال عون ساهم، سِيّان بقليل أو كثير، في وصول بشير الجميل إلى الرئاسة على متن الدبابة الإسرائيلية التي قادها أرييل شارون، كما وصل، هو نفسه، إلى الرئاسة ممتطيا بُراقا سائسه حسن نصرالله… فتملى وتعجب و”سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى…”.

ولأن الشيء بالشيء يذكر، فَلِهاوِ التاريخِ أيضا وأيضا أن يلاحظ، على هامش من كل ما تقدم، أن سياسة إسرائيل 1982 وسياسة حزب الله 2016، (سنة انتخاب ميشال عون لرئاسة الجمهورية)، لا تخلوان من ملامح شبه مدهشة: فما حاولته إسرائيل، في 1982، هو فرض بشير الجميل، (بالطرق الدستورية، أي من طريق الانتخاب)، عامِلا لها على لبنان برتبة “رئيس جمهورية” ذي صلاحيات (ملكية) مطلقة بموجب ما كانت عليه صلاحيات رئيس الجمهورية في لبنان قبل اتفاق الطائف؛ وما حاوله حزب الله مع إصراره على تولية ميشال عون في 2016 (بالطرق الدستورية أي من طريق الانتخاب)، هو فرضه وكيلا له في رئاسة الجمهورية بصلاحيات فخرية مقيدة بموجب ما باتت عليه صلاحيات رئيس الجمهورية بعد اتفاق الطائف.

فات إسرائيل في 1982 أن النظام السياسي اللبناني كان قد تقادم إلى حد لا يملك معه العطار الآتي على متن الدبابة أن يصلحه، وإذ لا يفوت حزب الله، على الأرجح، أن “الطائف” الذي أنزلته إرادات دولية وإقليمية منزلة الاتفاق من اللبنانيين لا إرادة السلام بين اللبنانيين قد تقادم بدوره، لا يملك حزب الله، حتى إشعار آخر، لأسباب تتجاوز لبنان وموازين القوى اللبنانية الراجحة بلا شك لمصلحته، أن ينعاه على الملأ معلنا انتصاره المؤزر ودخول لبنان “العصر الإيراني”!

بناء عليه، صدق السيد نواف الموسوي بأن ساوى بين الدبابة الإسرائيلية وبندقية حزب الله، وبين بشير الجميل وميشال عون… صَدَقَ ولكن الصِّدْقَ أعْجَلَهُ حيث كان الأولى به أن يحبس لسانه، فَكَبَّدَ أولياء أمره اعتذارا كانوا في غناء عنه، ولم يبق له، هو، على الأرجح، إلا أن يعود إلى مقاعِدِ المدرسة (الحزبيَّة) التي تُعَلِّمُ، أوَّل ما تُعَلِّم، أنَّ “المرء مخبوء تحت لسانه” (علي بن أبي طالب…).

السابق
الحرس الثوري الإيراني: نتصدى لمؤامرات النظامين الصهيوني والسعودي
التالي
لبنان يعود إلى التسعينات