ماذا يريد حزب الله؟

غسان سعود

من يعرف ميشال عون جيداً يدرك معنى تلك الكلمات القليلة في بكركي أمس، ويفهم خيبة العينين الشاردتين بعيداً في يوم ولادة ملك الأمل. غصة البلد، غصتنا اختصرها الرئيس بغصته تلك. ميشال عون الذي لم يستسلم في تاريخه لكل التحذيرات والتهديدات والغطرسة والتحديات كاد يقول أمس: لقد اكتفيت؛ أنا مثلكم، اكتفيت

كان يمكن لفيصل كرامي وجهاد الصمد وعبد الرحيم مراد والأحباش أن يحلموا ألف مرة ومرة بالفوز في الانتخابات النيابية. مجرد أحلام من بعيد لبعيد، دون أدنى اقتراب من مجلس النواب، لو لم يجيء رئيس اسمه ميشال عون، ويجيء معه خياط سياسيّ ماهر اسمه جبران باسيل، لانتشالهم مما يتخبطون فيه.

كان كسر الأحادية السنية، بموازاة تكريس الأحادية الشيعية، الهدف شبه الوحيد لحزب الله في الانتخابات النيابية الأخيرة؛ لكن لا صواريخ الأرض كلها ولا الأموال أو حتى الانتصارات الكبيرة في سوريا كانت ستمكنه من تحقيق هذا الهدف. وحده ميشال عون ومعه جبران باسيل تطوعا لتحقيق هذا الهدف.

هنا لم يفكر باسيل بمصلحة تياره أو بمصلحة حليفه المفترض الرئيس سعد الحريري. فرغم معرفته أنه لا يمكن أن يمثل في أفضل الأحوال أكثر من 60 بالمئة من الناخبين المسيحيين، وعليه سيفتح الباب واسعاً أمام تمثيل القوات وغيرها في الدوائر التي كان سيفوز بها بشكل كامل فيما لو بقي النظام الأكثري، قبل باسيل بتكريس ثنائية مسيحية نسبية ليضمن تحقيق حزب الله لهدفه في كسر الأحادية السنية.

اقرأ أيضاً: هل من يصدّق انها عقدة باسيلية؟

هؤلاء الذين يتبجحون بكتلتهم النيابية اليوم ما كانوا ليبصروا نور المجلس النيابي لو لم يكن ميشال عون رئيس أولاً، ولو لم يكن عون يحترم استراتيجية حزب الله بعيدة المدى ثانياً، ولو لم يكن هذا الرجل مستعد دوماً لأن يبدي المصلحة الوطنية (بكسر الأحاديات) على مصلحته الخاصة بالحفاظ على التمثيل المطلق في جبيل وكسروان والمتن وبعبدا. ومع ذلك لم يجد أي من هؤلاء حاجة أو ضرورة للاعتراف لهذا الرجل النادر بفضله في اقرار قانون انتخابي عادل.

وهو ما يقود إلى القول إن طرق حزب الله باب القصر الجمهوري لمصارحة سيده بوجوب كسر الأحادية الوزارية السنية مع شرح تفصيليّ للأسباب كان سيدفع الرئيس وذراعه الأيمن إلى فعل كل ما يلزم لتحقيق هذا الغرض؛ لقد جربهما حزب الله بما هو أهم وأخطر وأكثر تعقيداً بكثير، إلا أن الحزب قرر أن يوصل الرسائل إلى بعبدا من الشبابيك. لماذا؟ لا أحد يعلم.

هل من عاقل واحد في حزب الله يصدق أن الرئيس عون كان سيقول للأمين العام لحزب الله لا، لو حاول إقناعه بأن ثمة مصلحة استراتيجية للحزب بتوزير “بهلول المهلهل” باسم كتلة البهاليل الحمر؟ أثبت ذلك الرجل الجالس في بعبدا ومعه جبران باسيل – لا بل يتقدمه جبران باسيل – أنه كان سيسعى لإعطاء الأستاذ بهلول المهلهل وزارتين بدل الوزارة الواحدة لو كان ثمة وضوح وصراحة في التعاطي. لكننا أمام واقع جديد: جبران باسيل يزور الأمين العام بحثاً عن أجوبة قبل الظهر، والأمين العام يوجه الرسائل لباسيل عبر الإعلام بعد الظهر. لماذا؟ من يعنيه تفاهم شعبي التيار الوطني الحر وحزب الله يسأل بغيرة عن سبب هذا كله؛ ومن يذهب أبعد لا يمكنه سوى أن يلاحظ أن البيئة الحاضنة لكل من التيار والحزب عكست خلال الأيام القليلة الماضية حجم الاحتقان المدفون تحت الرماد. علماً أن في نسيج التيار الوطني الحر قياديٌّ واحد أو قياديين لا يحملان أية صفات حزبية رسمية ينتقدان حزب الله بين وقت وآخر، فيما هناك في المقابل ماكينة إعلامية طويلة عريضة “تنكل” بجبران باسيل، ولا شيء على طول خارطة المعارك التي يخوضها الحزب يشغلها عن انتقاد التيار الوطني الحر. لماذا؟ أيضاً وأيضاً، لا أحد يعلم. هاتوا وزيراً لخارجية لبنان دافع بحماسة واندفاع عن حق لبنان في الدفاع عن أراضيه وفضح الأكاذيب الإسرائيلية كما فعل هذا الوزير؛ لماذا مواصلة التحريض عليه؟ لا أحد يعلم. علماً أن باسيل ليس إبن اليوم في السياسة، وهو يعلم دون شك أن حزب الله ممر إلزامي وحتمي للوصول إلى رئاسة الجمهورية، وهو إذا كان يتطلع لتحقيق هذا الهدف المشروع يوماً ما، فإنه لا يفكر أن يضع حزب الله بظهره ولذلك يعض على الكثير من الجراح ويتجاهل البيئة العدائية المستنفرة دوماً ضده دون أي مبرر. لكن لا بد هنا أن تأتي تلك اللحظة التي يسأل بها نفسه “وبعدين مع هؤلاء؟”. يخسر الرأي العام المسيحي ليربح مقعد وزاري سني! هذا ما يريده حزب الله؟ يخسر ميشال عون ليربح جهاد الصمد! هذا ما يريده فعلاً حزب الله؟

ولنعد إلى الحكومة؛ حكومة العهد هذه بصيغتها المتداولة أم حكومة الحريري أم حكومة حزب الله؟ حكومة حزب الله. حزب الله يمسك عبر وزيره (لا وزير حركة أمل) علي حسن خليل بكل الوزارات بعد استحداثه عرفاً يقول إن توقيع وزير المال مثل الطابع؛ لا يمكن اعتبار أي قرار قانوني من دونه. وبموازاة الحكومة السيادية رقم 1، يمسك بالحقيبتين الخدماتيتين رقم 2 – الصحة و3 الأشغال، إضافة إلى وزارتين مخيفتين في قدراتهما غير المرئية وهما الزراعة والشباب والرياضة. هل تقارن وزارة كوزارة المال بوزارتي الخارجية والدفاع مجتمعتين؟ دعكم من هذا السؤال لتجيبوا عن هذا: هل تقارن المال بوزارات الخارجية والدفاع والطاقة مجتمعين؟ لا طبعاً. ومع ذلك، تضافرت جهود جميع الأفرقاء، تتقدمهم الثنائية، ليحرصوا على عدم إعطاء العونيين أية حقيبة خدماتية أو إنتاجية. فرغم معرفة الحزب أن العهد يتطلع إلى تحقيق نقلة نوعية في الربط بين الزراعة والصناعة والسياحة لم يألوا جهداً لإفشال مساعيه بالحصول على الزراعة أو الصناعة، وحتى حين رأى باسيل أن “الشباب والرياضة” يمكن أن تمثل متنفساً خدماتياً له في بعض القرى وبعض المشاريع؛ صارت “الشباب والرياضة” أهم الحقائب بالنسبة لحزب الله. على حزب الله أن يعلم أن جمهور التيار الوطني الحر يرى من خاصموه طويلاً يقول لهم خذوا ما شئتم فيما هو يشمر عن ساعديه مهدداً متوعداً بالصراخ: لن تأخذوا شيئاً. ومع ذلك، بعد أخذ هذا كله يأتي من يقول من بيئة الحزب إن جبران باسيل لا يشبع. وهاكم هنا من لا يشبع فعلاً: رغم أن حصة الحزب الوزارية تتجاوز في الحسابات العملية ضعف الحصة العونية والحصة الحريرية وأربعة أضعاف الحصة الاشتراكية والقواتية، فإن الحزب يصر على أن يسمي بنفسه أيضاً وأيضاً وزراء كل من تيار المستقبل والتيار الوطني الحر والطشناق والرئيس. هناك فعلاً ما لا يمكن فهمه؛ ماذا يريد حزب الله؟ يريد حصة وزارية وازنة؟ هذا مفهوم ومبرر. لكنه لا يريد فريد هيكل الخازن في الأشغال إنما يوسف فنيانوس، ولا يريد فادي جريصاتي إنما سليم جريصاتي. المطلوب أن يطبع الحريري ورقة بالحقائب الوزارية دون أسماء ويرسلها إلى الحزب ليختار الشيخ نعيم قاسم الاسم المناسب لكل حقيبة، أسماء على شاكلة سليم جريصاتي.

ماذا يريد الحزب هو السؤال الرئيسي اليوم؟ سؤال لا أحد يملك جوابه. يفترض بأن الحزب يريد لعهد ميشال عون أن ينجح، وإذا به يضع العصي الذين صيرهم ميشال عون نواباً في دواليب العهد. ويفترض بالقارئ أن يعلم في هذا السياق أن الضغط في الملف الحكومي يترافق مع ضغط معيشي أيضاً: ملف الإسكان يراوح مكانه رغم فتوى المجلس النيابي، وهو ما يلحق ضرر هائل بمصرفين كبيرين على الأقل وقطاع صناعة الخشب وصناعة الرخام ونحو ألفي شركة هندسة وقطاع المفروشات؛ وهذه جميعها تتركز في جبل لبنان وتحديداً البيئة الحاضنة للتيار الوطني الحر حيث لا توجد قروض شرعية تسمح بمواصلة شراء الشقق. بموازاة ذلك يخنق وزير المال كما لم يفعل أحد من قبل البلديات حيث بات الكثير من رؤساء البلديات الفقيرة في جبل لبنان مضطرين إلى تسديد رواتب موظفيهم من مالهم الخاص، علماً ان حرمان الفقراء من مساعدات البلديات الاجتماعية كفيل وحده بنشر النقمة. وحتى حين يتحرك المصرف المركزي لإنقاذ المصارف من المصير الحتميّ عبر الهندسات المالية يُطبل حزب الله ويزمر لورود إسم “سيدروس” بين المصارف المستفيدة رغم حلوله أخيراً في قائمة المستفيدين فيما المصارف المحسوبة على الحزب في المواقع الأمامية، علماً أن الحزب أكثر من يعلم أن لا علاقة لسيدروس من قريب أو بعيد بالقصر والرئيس باستثناء أن ابنة الرئيس كانت تعمل كموظفة فيه لأن بنات الرئيس الذي لا يسرق يضطررن للعمل. في وقت يتمسك الحزب بتوزيع “الحلابات” رغم كل ملاحظات لجنة الاستلام بعدم مطابقة الحلابات المستوردة للشروط المطلوبة. يتمسك بدعم موقف البلديات رغم صراخ مصلحة مياه الليطاني، ولا يكاد مصنع مخالف يقفل بعد جهد قضائي جهيد حتى يطالب وزير الحزب بإعادة فتحه.

لا يريد الحزب حكومة؛ يمكن أن تفهم، يمكن أن تصدق تلك الأساطير التي تربط حكومة لبنان بحكومة العراق، لكن لماذا لا يريد حماية المزروعات من الأدوية السامة التي تحول دون تصدير المنتوجات الزراعية اللبنانية لمجرد أن مافيا صغيرة تستفيد من استيراد الدواء. أراد الحزب تظاهرات تضغط على العهد في نهاية الأسبوع الماضي لتسريع تشكيل الحكومة وإذا بها تكبر في مناطقه ولا يفكر المتظاهرون بانتقاد أحد قبل نوابه.

في النتيجة أو في الخلاصة لا يحتاج الحزب لمن يقول له إن أبواب القصر مفتوحة ساعة يكون لديه مطالب جدية، ولا حاجة للتأكيد أن تجربة الحزب في إقناع ميشال عون لم تكن يوماً شاقة، أما الاسترسال في هذا الأسلوب المتبع من توجيه الرسائل فلن يوصل إلى مكان غير خسارة هذا الجمهور الذي بدأ يشعر أن حزب الله إنما ساعده في إنزال الحريرية السياسية عن كرسي التسلط على النظام السياسي ليس لشيء سوى الجلوس مكانها. علماً أن أهداف الحريري كانت معروفة أما اليوم فلا أحد يعلم ما يريده الحزب فعلاً. وهذا خطير؛ الخلاصات التي يذهب إليها أكثر الناس إيماناً بوحدة هذا البلد خطيرة للغاية. على الحزب أن يعلم أن الدمعة التي ضبطها ميشال عون في الصرح البطريركي أمس خطيرة جداً؛ فإذا كانت دمعة السيد عند ناسه مقدسة دمعة ميشال عون عند ناسه مقدسة أيضاً. وما على الحزب أخيراً سوى سؤال نفسه عن سر صمت سمير جعجع في هذه المرحلة؛ هو يرى دون شك أن حزب الله يفعل بنفسه في البيئة المسيحية ما عجزت القوات عن فعله طوال عشر سنوات.

ملاحظة: أنا – غسان سعود – كتبت التقرير أعلاه دون إيعاز من أحد أو تنسيق مع أحد أو طلب من أحد أو حتى استشارة أحد، وهو لا يوصل أية رسائل من أي طرف سياسي، علماً أنني لم ألتق العماد ميشال عون منذ انتخابه رئيساً ولا تجمعني بالوزير جبران باسيل سوى بعض الأنشطة الزراعية العامة. في ظل إثبات التجربة أن عون وباسيل – بخلاف الأفرقاء الآخرين – لا يستخدمون الإعلام أو “الدكاترة” أو الجيوش الإلكترونية في إيصال الرسائل.

السابق
كيف احتل الخليج مركز الثِّقل العربي المعاصر في كتاب عبد الخالق عبد الله
التالي
احتفالات عيد الميلاد المجيد حول العالم