العلامة الأمين: ضرورة توفر رجال الدين على الفلسفة

السيد محمد حسن الامين

كنتُ وما زلت أشدّد على ضرورة توفّر العالم الديني على رؤية فلسفية في تفكيره وهو ينتج المعرفة الدينيّة، وأعتقد أنّ هذه المسألة كانت حاضرة حضوراً جيّداً في ثقافة ورؤية الأسلاف من علماء الدين، وإن كانت عند بعض العلماء، وخاصّة علماء الفقه وأصوله، قد تمّ الإيغال في المسألة الفلسفية على نحو يخرج المادة عن منهجها وعن مضمونها وقد تصل النقاشات حولها إلى ما نسميه بالمماحكة أكثر ممّا تهدف للوصول إلى القواعد السليمة والواضحة كل الوضوح، وهنا أودّ أن أشير أنّ هذه الظاهرة قد برزت بعد دخول إيران ميدان التشيّع والعلوم الإسلاميّة، ذلك أنّ الثقافة الإيرانيّة تشكّل الفلسفة مفصلاً عضوياً فيها وقد أنتجت العديد من الفلاسفة الإسلاميّين.

اقرأ أيضاً: الأمين:«إنّني أحترم وأعجب بدين الرجل وليس بالضّرورة أن أعجب وأحترم رجل الدين»

أمّا ما نريد أن نقوله نحن في مجال الدعوة إلى توفّر العالم الديني على الرؤية الفلسفية، فهو المقدار الذي يساعد الفقيه أو المثقف المسلم على استخدام حريّة التفكير وأصالته، ذلك أنّ الفلسفة ـ بصورة عامّة ـ تفترض التفكير الحر وغير المقيّد بأفكار وآراء الآخرين، عدا عن كون الجانب الفلسفي في إنتاج المعرفة الإسلاميّة يجعلها ذات بُعد إنساني أعمق وأشمل، وهنا أودّ أن أشير إلى أنّ مرحلة إكمال العلوم الفلسفيّة برزت مع الأسف في مرحلة الانحطاط على مستوى الثقافة العربيّة والإسلاميّة، وإذا أردنا أن نستطرد في ذكر الأسباب التي أدت إلى تراجع التفكير الفلسفي، فلا يمكننا أن نعزل ذلك عن توجهات السلطة السياسيّة التي أرادت استتباع الفقهاء بما ينسجم مع بقائها ورسوخها كسلطة، مقدّرين أنّ الفلسفة وهي عدة التفكير الحر قد تنتج ـ بل بالتأكيد سوف تنتج ـ منهجاً حراً في مجالات علوم الفقهاء وبالتالي فتاواهم، وهذا ما تخشاه السلطة التي شاع في زمنها واتّسع إطار فقهاء السلاطين، ومن الأقوال التي توارثناها عن هذه المرحلة المفهوم القائل (من تمنطق تزندق) علماً أنّ علم المنطق هو ليس سوى مقدّمة عقلية لبحث شؤون الوجود والكون والعالم الذي هو موضوع الفلسفة، أما الخشية من الانحراف لدى الفلاسفة فهي خشية غير مبررة، فنحن نرى أنّ التراث الإسلامي الذي أنتجه علماء فلاسفة كابن سينا وابن رشد والفارابي وغيرهم. كانوا هم ذووا اليد الطولى في تطوير العلوم الإسلاميّة، وهنا لا بدّ أن نستذكر في عصرنا أحد كبار العلماء المفسّرين للقرآن المسمى بـ الميزان في تفسير القرآن للسيّد الطباطبائي، نجد الجانب الأكثر أهميّة منه هو المشتمل مع كلّ سورة من سور القرآن على بحث فلسفي وهذا عدا عن كونه توسيع لدائرة الفهم والعقل يشكّل حجة قوية على أنّ النص الإسلامي لا يعادي الفلسفة.

اقرأ أيضاً: السيد الأمين: تعاطي رجال الدين في السياسة

إنّ الاتجاهات الفكريّة في عالمنا المعاصر والتي تركت آثاراً عميقة في ساحة التفكير العالمي، كانت تستند وما زالت لمنهج فلسفي حتى عندما يكون البحث في مجال الاجتماع أو السياسة فيما الفكر الإسلامي ما زال مضطراً لأن ّ يجترّ مقولات فلاسفة المسلمين الذين لا يقلل من عظمتهم وأهميتهم أن يسعى مفكّروا عصرنا المسلمون إلى إنتاج فكر إسلامي فلسفي أصيل، ولا يمكن التوفّر على هذه الأصالة دون عدة فلسفية، واستيعاب ليس للفلسفة اليونانية والإسلاميّة فحسب، وإنما للفكر الفلسفي الذي يتمّ إنتاجه على مستوى العالم، ونحن نشدّد على أنّ في الإسلام آفاقاً واسعة، وهي بحاجة إلى علماء أكفاء يستطيعون ارتيادها وتقديم رؤية جديدة لقضايا الإنسان والوجود والعالم ولقضية الحريّة بشكل خاص.
أكتفي بهذا القدر بالإشارة إلى ضرورة الفلسفة، وذلك لانّني ألاحظ أنه حتى يومنا هذا ما زالت الحوزات العلميّة تنفي هذه المادة من مناهجها، وإذا وجد شيء منها، فهو تكرار لمقالات الفلاسفة التاريخيّين، وأقترح أن تكون مادة الفلسفة مادة أساسيّة في مناهج العلوم الدينيّة، وخاصّة عندما تكون هذه العلوم تتّجه إلى إعداد فقهاء وعلماء حقيقيّين.

(من كتاب “أمالي الأمين” للشيخ محمد علي الحاج العاملي)

السابق
عذراً أدهم خنجر، الفرنسيون أنشأوا لنا كياناً لم نحافظ عليه!
التالي
من إيطاليا الى ألمانيا… «حاميش» لن يعود الى الحكم الاستبدادي