لبنان المُصاب بـ«انعدامِ الجاذبية» لم يَعُدْ يسْعفه شراء الوقت

لم يَسْبق أن بَلَغَ لبنان المستوى الحالي من انعدام الجاذبية، وكأن البلاد تندفع وبلا كوابح نحو وقائع مأسوية يصعب التكهّن بكوابيسها وفواجعها وأثمانها.

فالوطن الذي اشتهر، منذ خروجه بمصالحةٍ غير ودية بين التاريخ والجغرافيا، بقدرتِه الفائقة على ترويضِ الويلات وتحويلها ولائم فرح، تفترسه الآن كآبةٌ ما بعدها كآبة بعدما تكاتفتْ على الوجوه أزماتُ السياسة والاقتصاد والمعيشة والبيئة والصحة، وصارت معها يوميات اللبنانيين مجرّد حاضر بائس يقيم على حافة مستقبلٍ مجهول.

ولم يعد الاستقرارُ الأمني وحده كافياً لإغواء بيروت بأنها أَفْلَتَتْ من خريفِ مثيلاتها من عواصم الخراب في غير مكانٍ على الخريطة العربية، بعدما أدركتْ أنها أسيرة «حربٍ تَنَكُّرية» لن تنجو بالضرورة من شرورها المفتوحة الشهية، وربما لا يُسعفها شراء الوقت في «النجاة» من مكائد تجعلها مكسر عصا في صراعٍ يشتدّ من حولها وينذر بـ«يا قاتِل يا مقتول». فبيروت ومنذ أعوام محكومةٌ بأزماتٍ سياسية بالقوّة يُراد جعلها أزمة نظام بالفعل، ويجري التعامل معها على أنها مجرّد جغرافيا في مشروعٍ كبير تديره الأيديولوجيا وتسخّره لمصلحتها.

اقرأ أيضاً: أين نصرالله من التمايز الأخير لعون وجنبلاط عن الحريري؟

وها هي أزمة تشكيل الحكومة في لبنان أبعد من أن تكون تَرَفاً سياسياً في لحظةِ رقص الأفاعي في المنطقة الموبوءة بحروبٍ لا مثيل لها، وفي العالم الذي يعاني اضطراباً… عقوباتٌ أميركية صارمة على «حزب الله» وغير مسبوقة على إيران، تلويحُ طهران بالرد، مناوراتٌ لافتة في إسرائيل، تَدافُعٌ على الأدوار والحمايات في سورية، مواجهةٌ بالخيارات والكراسي بين أميركا وإيران في العراق، اختبار نياتٍ في اليمن، توقيعٌ أوروبي على خروج بريطانيا من الاتحاد، ستراتٌ صفر تقلق باريس، تَوتّرٌ روسي – أوكراني في البحر وعلى الطاولة في نيويورك.

ولم يعد سراً أن إحتجاز عملية تشكيل الحكومة في «الخمس دقائق الأخيرة» قبل الإعلان عنها، تمّ بقرارٍ من «حزب الله» يوم خرج أمينه العام السيد حسن نصرالله على الملأ مشترطاً توزير أحد نواب السنّة (الستة) الموالين له، مُطْلِقاً تحذيرات لم تستثنِ أحداً من «الرؤساء والمفتين والبطاركة»، وهو الأمر الذي أطلق العنان لـ«تحرياتٍ» عن الأبعاد الحقيقية لموقفٍ أريد منه تعليق قيام حكومة جديدة رغم الإجماع على أن لبنان يقترب من انهيارٍ مالي غير مسبوق تزدادُ مؤشراتُه مع كلامٍ صريح عن إمكان العجْز عن دفع الرواتب للقطاع العام بعد ثلاثة أشهر من الآن.

وعلى مدى شهر من اللغم الجديد والمفاجئ في الطريق إلى تشكيل الحكومة، تَضَخّمتْ «مضبطة الاتهام» التي سيقت ضدّ «حزب الله» وعلى نحو «يليق» بمكانته كقوة إقليمية ما فوق لبنانية يلعب أدواراً سياسية وعسكرية عابرة للحدود وفي غير مكان من المنطقة. فجرى تحميل عقدتِه عناوينَ يكاد يكون لا حصْر لها لصعوبة القراءة في كفّ الحزب، ولعل أبرزها:

  • أنه يريد ترجمة استثماره في الشارع السني عبر حجْز مقعد وزاري لحلفائه في إطار دقّ إسفين في «الحريرية السياسية» التي لم يُخْفِ «حزب الله» في مراحل سابقة إرادته بالسعي إلى تفكيكها كحالٍ سياسية واجتثاثها أيضاً.
  • إضعاف الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري أو ربما ممارسة ضغوط من النوع الذي يحمله على الاعتذار، وخصوصاً أن إفساح الحزب المجال أمام تسميته خَضَع يومها لمناقشةِ أكثر من خيار ربْطاً بالواقع الإقليمي.
  • العمل على إصابة عصفورين بحجر واحد: ترجمة دوره كلاعبٍ على «الساحة السنية»، أي كشريك مُضارِب للحريري، وحرمان رئيس الجمهورية من إمكان الاتيان بحصة وزارية تنطوي على ثلث معطل.
  • ثمة اقتناع لدى أوساط واسعة بأن «حزب الله» لم يَرُقْ له إصرار رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل على الإمساك بـ«الثلث المعطل»، وتالياً بمسار العمل الحكومي، ربْطاً بالاستحقاق الرئاسي والصراع على خلافة العماد ميشال عون.
  • فرْض مجموعة من الأعراف في الحياة السياسية وتشكيل الحكومات تشي بأن النظام الحالي (اتفاق الطائف) يضيق على «حزب الله» وعلى فائض القوة الذي يتمتع به، وتالياً لا بد من إعادة النظر فيه عندما تقتضي الحاجة.
  • أن الحزب الذي يواجه عقوبات أميركية وتحوّلات في الموقف الأوروبي تزيد من مَتاعبه، أراد القول للجميع «الأمر لي» في لبنان، في محاولةٍ لاستدراج تَفاوُضٍ يحدّ من محاولات تطويقه وإخضاعه.

وفي ضوء تحميل عقدة «حزب الله» باشتراطه توزير أحد السنّة الموالين له كل هذه «الاستنتاجات»، فماذا عن الحلّ الذي من شأنه إنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر ضمان الإفراج عن حكومةٍ، كان سبق للرئيس عون أن قال إنها ستكون بمثابة الحكومة الأولى في ولايته التي مضى عليها عامان؟

رغم ان أخبار مجرور الرملة البيضاء الذي كان تَسَبَّبَ بفيضان المياه الآسنة قبل نحو إسبوعين، تَصدّرت نشرات التلفزيون اللبنانية، وعُقدت من أجله اجتماعاتٌ في مقر البرلمان، وبدتْ مجريات التحقيق في فضيحته وكأنها تُنافِس أخبار الحكومة العتيدة والمساعي لفكّ عقدتها، فإنه تم الترويج امس لأجواء أقلّ سوداوية استناداً إلى إشارةٍ كان أطلقها أخيراً عون وتعاملت معها أوساط سياسية على إنها قد تشكل مدخلاً لحل يفضي إلى تشكيل الحكومة.

فحكاية «أم الصبي» التي رواها رئيس الجمهورية عن سليمان الحكيم أمام زواره نهاية الأسبوع الماضي تضمر، في رأي تلك الأوساط «بداية استعداد» من عون لتوزير أحد النواب السنّة من الموالين لـ«حزب الله» أو شخصية تنوب عنهم، من حصة فريقه، ما يعني ضمناً تخليه عن الثلث المعطل، وهو المَخْرَج الذي سيكون الحريري مضطراً للقبول به للخروج من مأزق تشكيل الحكومة.

السابق
أين نصرالله من التمايز الأخير لعون وجنبلاط عن الحريري؟
التالي
النفوذ الإيراني في آخر صوره البائسة