وضعت الولايات المتحدة روسيا وسوريا وإيران أمام معادلة صفرية بعدما أعلنت تغييرا جذريا في الاستراتيجية الغربية في سوريا عبر وضع المشاركة الغربية في عملية إعادة الإعمار كشرط يمكن تحققه في حالة انسحاب إيران وحلفائها من سوريا.
وتشكل الشروط الأميركية الجديدة انحرافا حادا عن مسار التوافق الغربي الذي تطور عبر آلية جنيف (القائمة على قرار مجلس الأمن 2254 وبيان جنيف1)، التي تقوم بالأساس على شرط التوصل إلى تسوية سياسية تشمل كتابة دستور جديد لسوريا وإجراء انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة، كمقدمة لموافقة الغرب على المشاركة في عملية إعادة الإعمار.
لكن الولايات المتحدة “وضعت العصا في دواليب” الطموح الروسي للانتقال إلى مرحلة إعادة الإعمار، المتزامنة مع عودة 5.6 مليون سوري في الخارج، والتي يراها خطوة أولى ضرورية لاستعادة الاستقرار، ومن ثم تمهيد الطريق أمام الحل السياسي.
اقرأ أيضاً: سورية الجديدة تبدأ من إدلب؟
ووضعت واشنطن كل هذا الجدل جانبا، وخلقت شروطا “شبه تعجيزية” للروس بشأن عملية إعادة الإعمار عندما حذّر وزير الخارجيّة الأميركي مايك بومبيو من أنّ بلاده لن تقدم أي مساهمة في تمويل إعادة إعمار سوريا طالما أنّ هناك قوات إيرانية أو مدعومة من إيران في هذا البلد.
ويعكس هذا الموقف لأول مرة بوضوح سياسة واشنطن الجديدة حيال سوريا بعدما وردت مؤشرات إليها في تصريحات صدرت عن عدد من المسؤولين خلال الأسابيع الماضية.
وأوضح بومبيو أنّ نجاح الرئيس السوري بشار الأسد في تعزيز سيطرته على الأرض بدعم من روسيا وإيران، وإضعاف تنظيم داعش، خلق وضعا جديدا “يتطلّب إعادة تقييم لمهمّة أميركا في سوريا”، مؤكدا أنه إن كانت هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية هي الهدف الأوّل، فهي “ليست هدفنا الوحيد”.
ونقل مصدر دبلوماسي أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب بات يقول لمحاوريه الدوليين إنه “باق بسبب إيران”. ويؤكد بومبيو بحسب المصدر ذاته أنه بالرغم من “الصعوبات القانونية” على خلفية تحفظ الكونغرس الأميركي حين تعمد الإدارة بشكل أحادي إلى توسيع الدوافع خلف تدخلاتها العسكرية، فإن الولايات المتحدة “ستجد وسيلة للبقاء”.
ويعني خروج الرؤية الأميركية الجديدة إلى العلن خلق حافز آخر لتعميق الخلافات بين الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، التي لا تزال تتمسك بشرط الحل السلمي أولا، وتدعم جهود المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا للتوصل إلى لجنة كتابة الدستور.
لكن الإعلان الرسمي فقط هو الذي تأخر، إذ بدأت إيران تشعر بثقل الضغط الدولي لتحجيم نفوذها في سوريا منذ إعلان ترامب في مايو الماضي انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران.
وأول الممارسين لهذا الضغط على إيران في سوريا هي روسيا التي تبدو يائسة في حاجتها لدخول الغرب بثقله الاقتصادي في سوريا. وبعد توقف العمليات العسكرية في إدلب واضطراره للتفاوض حول اتفاق مع تركيا في سبتمبر الماضي، أدرك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن الغرب لن يمنح “نصرا مجانيا” لروسيا، على المستويين السياسي والاقتصادي، بعد نصرها العسكري على المعارضة.
وتقول الحكومة السورية إنها تحتاج ما لا يقل عن 200 مليار دولار لبدء عملية إعادة الإعمار، التي تعتقد أنها قد تستغرق 15 عاما. لكن الأمم المتحدة تقول إن سوريا بحاجة إلى 400 مليار دولار لإعادة تأهيل مدن كبرى دمرت بالكامل خلال سبع سنوات من القتال.
ويجد الرئيس السوري نفسه في مأزق، إذ ساهم النفوذ الإيراني المتزايد في العراق المجاور إلى إحجام القوى الكبرى عن الاستثمار في إعادة إعمار البلد، خصوصا بعد انتصار الجيش وميليشيات الحشد الشعبي على تنظيم داعش. ولا يريد الأسد لسوريا أن تواجه نفس المصير، الذي سيؤثر على مستقبله السياسي بشكل مباشر.
ويقول دبلوماسيون غربيون إن دمشق وموسكو تقسمان الجهود لتحجيم النفوذ الإيراني في سوريا من أجل إقناع الغرب بأمرين: الأول أن أمن إسرائيل مضمون، والثاني هو قدرة الأسد على عقد صفقات مع الغرب، ضمن رغبة روسيا في إعادة تأهيله مرة أخرى كزعيم مقبول على الساحة الدولية.
وتدرك إيران المعادلة الجديدة وتحاول تقليل الخسائر بأكبر قدر ممكن. وخلال زيارته لدمشق في أغسطس الماضي، أعلن وزير الدفاع الإيراني أمير حاتمي أن إيران ستتولى إعادة بناء الجيش السوري بعد انتهاء الحرب.
ويحاول النظام السوري، بدعم من موسكو، تقليل أعداد المقاتلين في صفوف الميليشيات التابعة لإيران، وتحجيم التمدد الطائفي في المدن التي يسكنها شيعة، في نفس الوقت الذي تدخل فيه روسيا في معركة حامية على استحواذ شركاتها على عقود في البنية التحتية والموارد الطبيعية والقطاع النفطي السوري.
وقال دبلوماسي في المنطقة لـ”العرب” إن “الغرب يسهل على روسيا المهمة. إذا كانت كل مشكلات موسكو في سوريا ستنحصر في إيران، فلماذا يقامر بوتين كي يخسر كل استثماراته في سوريا من أجلها”.
ولا تكمن مشكلة روسيا في الولايات المتحدة فقط، بل في الاتحاد الأوروبي أيضا، الذي يحتضن العدد الأكبر من اللاجئين السوريين، خصوصا الشباب ممن يشكلون كتلة الأيدي العاملة الأكبر في سوريا. وتدرك موسكو أن سوريا تشهد عجزا في المعدات والتكنولوجيا والقوة العاملة، وتريد من ألمانيا وفرنسا خصوصا المساعدة في إعادة اللاجئين، الذين تعتقد أن إعادة الإعمار لن تتم من دونهم.
لكن إيران باتت تقف في وجه هذه التطلعات الروسية، إذ صارت تلك الحلقة المشتركة بين تحويل رؤية بوتين إلى واقع، وتعطيل الغرب تحقق هذه الرؤية لسنوات.
وقال الدبلوماسي لـ”العرب”، “إيران باتت مفتاح الحل في سوريا بالنسبة للغرب والشرق، والقاعدة التي يبنى عليها خطر اللاحل أيضا، لكن الجميع بات متفقا على إخراجها من هناك”.