أبعد من أزمة الحكومة اللبنانية

قد تتشكل الحكومة اللبنانية قريبا أو بعيدا، بشكل طبيعي أو درامي، قد يتنازل هذا الفريق عن وزارة، ويتنازل ذاك الفريق عن وزارتين، كل ذلك لا يهم.

الأزمة في لبنان أعمق من موضوع الحكومة، فداخليا يتنازع هذا البلد فريقان يختلفان على صورة لبنان وهويته ودوره قبل أن يتخاصما على قرارات الحكومة ومقاعدها.

الفريق الأول، قوى ١٤ آذار، يرى لبنان وطنا نهائيا مستقلا عربي الانتماء، تحتكر الدولة فيه قوة الإكراه المشروع وقراري الحرب والسلم، وتلتزم الدستور والتطبيق الكامل والسليم لاتفاق الطائف، والحلم الكبير لجمهور هذا الفريق يتمثل في تقديم نموذج ناجح وراقٍ في الاقتصاد والتنمية والإعمار والتعايش.

اقرأ أيضاً: برنامج الحشيشة مقابل الولاء

الفريق الثاني، قوى ٨ آذار، يرى في لبنان مقرا لوظيفتين، الأولى مركز لحكم الأقليات الطائفي والعنصري، والوظيفة الثانية استلحاق لبنان بإيران وميليشياتها الإرهابية، والوظيفتان تصبان عمليا وموضوعيا ضد العروبة وضد الإسلام الأكثري السني، وبالتالي يصبان ضد لبنان كرسالة وهوية وكتاريخ ومستقبل.

شهر نوفمبر من حيث المبدأ، سيشكل انطلاق عداد الطوارئ في لبنان إن لم يكن قد انطلق بالفعل، حيث يستكمل المجتمع الدولي تطبيق العقوبات الاقتصادية الصارمة على إيران وملحقاتها، الرد الإيراني لن يكون مجديا من اليمن أو فيه بسبب حضور عملية عاصفة الحزم، ولن يكون هذا الرد آمنا من العراق أو فيه بسبب الظروف العراقية الداخلية، أما أن يأتي الرد من سوريا وفيها فدون ذلك موانع حقيقية، منها الحضور الروسي والفيتو الإسرائيلي.

هناك متنفسان للرد الإيراني، الأول هو إيران نفسها، عبر انقلاب يقوم به جناح الثورة ضد جناح الدولة، وتداعيات ذلك مفتوحة.

والمتنفس الثاني هو لبنان، وقد استخدمته إيران غير مرة سلفا، أشعلت حرب تموز ٢٠٠٦ مع إسرائيل لتحسين أوراقها التفاوضية حول مشروعها النووي، وعطلت الدولة اللبنانية مرتين وأكثر بالفراغات الرئاسية والحكومية لأسباب إقليمية ودولية، وقبل ذلك وبعده استخدمت لبنان كمنصة إطلاق لمشروعها التوسعي والعدواني في المنطقة عبر اغتيال الساسة اللبنانيين الوطنيين من أجل التمكين السياسي والعسكري لميليشيات حزب الله التابعة لها، لتنطلق تلك الميليشيات من لبنان إلى كل مكان، وشاهدنا ماذا فعل ويفعل حزب الله في العراق وسوريا واليمن من قتل وتهجير، وشاهدنا خلايا التجسس والإرهاب التابعة له في دول الخليج، ويجدر التذكير كذلك بعمليات التجسس والإرهاب وغسيل الأموال وترويج المخدرات التي أدين بها الحزب في أوروبا والأميركتين، وكل ما سبق يعطينا ملامح واضحة للرد الإيراني المحتمل من لبنان وفيه.

هناك عوامل لبنانية داخلية مؤثرة ومرتبطة بالصورة العامة، أهمها تطورات المحكمة الدولية، حيث تشير تقارير رسمية، إلى أن المحكمة التي تنظر في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه من رجال ثورة الأرز اللبنانية، ستطال أسماء جديدة في سوريا ولبنان، منها بشار الأسد ووفيق صفا (رئيس وحدة التنسيق والارتباط في حزب الله) والسيد حسن نصرالله أمين الحزب الإلهي نفسه.

ومن العوامل الداخلية اللبنانية أيضا، معركة خلافة رئيس الجمهورية ميشال عون، وهذا أمر غريب ولافت، إذ تبقى من ولاية الرئيس العتيد ٤ سنوات بطولها وعرضها، وهذا سبب أساس في تعطيل تشكيل الحكومة، إذ يريد التيار العوني ومن خلفه ضرب سرب من العصافير بحجر واحد: تحجيم الخصوم القائمين والمحتملين، اختراق الطوائف الأخرى، والحصول على الثلث المعطل في الحكومة لاسترهانها واختطافها.

ومن العوامل الداخلية الهامة، أوضاع الاقتصاد اللبناني، ونكتفي هنا بإشارة مجلة إيكونوميست حين حذرت من كارثة اقتصادية محدقة بلبنان، وتنبأت بأن مصرف لبنان (البنك المركزي) لن يكون بمقدوره ضبط الانهيار المالي والنقدي، علما بأن الاقتصاد اللبناني أنهى الشهر الثامن من العام بتراجع كل مؤشراته وفق دراسة المجلة المتخصصة.

الأجواء في لبنان هذه الأيام مثيرة للتوجس، والخلفيات بعضها واضح ومعروف بينما بعضها الآخر مجهول أو غامض.
هناك ضغط رهيب تمارسه قوى ٨ آذار من أجل التطبيع بين الحكومة اللبنانية وبين نظام بشار الأسد بذريعة معالجة ملف النازحين (اللاجئين) السوريين في لبنان أو بذريعة استيراد الكهرباء وتصدير الزراعة، وهذا الضغط يعود إلى عمل قوى ٨ آذار على استلحاق لبنان بمحور إيران ومشروعها. وهناك هجوم ضار تشنه نفس القوى على اتفاق الطائف ومقام رئيس الحكومة وصلاحياته، والسبب سحب لبنان قسرا إلى نظرية حكم الأقليات.

لكن المريب والغامض، هو تصعيد وتشنيع قوى ٨ آذار على دول الاعتدال العربي وتحميلها تعسفا مسؤولية تعطيل تشكيل الحكومة اللبنانية، فضلا عن الافتراء بأنها ستنقل المعركة من اليمن إلى لبنان، وهذا ليس جديدا، الجديد هو مستوى الكم والعدد المرتفعان هذه الأيام.

إن المرحلة المقبلة ستفرض معركة ضروس على اللبنانيين من أجل الحفاظ على استقلال لبنان وهويته وعروبته واستقراره وانسجامه داخليا وخارجيا، فضلا عن الاستحقاق الاقتصادي الضاغط، وما يساهم في رفع درجات الصعوبة والخطورة، هو أن الحضور العربي في لبنان ليس في المستوى المأمول أو المطلوب، وتلك قصة أخرى يطول شرحها.

السابق
المدينة وأهلها ليالي الأنس في فيينا
التالي
معضلة روسيا: «ثَمَن سورية» عند أميركا وأوروبا