ترهل الدولة في لبنان وحل الرعاية الدولية

التغيير في لبنان لم يعد مسألة جدلية، بل بات حاجة وجودية للدولة، فإما إحداث تغيير يحدّ من استنزاف الخزينة العامة والاقتصاد، وإما أنّ الهيكل مرشح في وقت غير بعيد للسقوط.

تتراكم الأزمات المالية والاقتصادية في لبنان من دون أن تظهر أي مؤشرات إيجابية على وجود عزم لدى أطراف السلطة على مواجهتها، بل ثمّة إصرار على اتباع المنهج الذي أوقع البلاد في حفرة العجز عن الإيفاء بالحد الأدنى من التزاماتها تجاه المواطنين، ولم تشكل نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة قبل ثلاثة أشهر أيّ حافز لاعتماد نمط جديد في إدارة الشأن العام غير التمسك بالمحاصصة التي يعيث فيها الفساد، بل أن من الوهم الاعتقاد بإمكانية إحداث خرق إيجابي في دوامة الفساد من خلال أدوات الفساد نفسها، أو بتعبير أدق، المعادلة السياسية التي رعت سياسة استنزاف الخزينة والاقتصاد، لا يمكن لها أن تنتج ما يخالف هذه السياسة، لا سيما وأنّ الانتخابات النيابية جرى إقرار قانونها وإدارتها بتواطؤ بين أطراف السلطة لتضمن نتائج تلاءم حسابات هذه الأطراف، لذا لم تكن الانتخابات إلا وسيلة مدروسة لإعادة إنتاج الشيء نفسه بتعديلات طفيفة لا تغير من واقع الحال شيئا.

ولأنّ لبنان يعاني من حال استنزاف بات ينذر بانهيارات مالية واقتصادية فضلا عن الجانب الاجتماعي الذي جعل بعض أطراف السلطة تعمد إلى اقتراح تشريع زراعة حشيشة الكيف لأسباب طبية، وهو اقتراح يعكس في جوهره محاولة للهروب من مواجهة غياب أيّ خطط اقتصادية أو إنمائية بما تفترضه هذه الخطط من حسم جملة أولويات لا بد من توفرها، لا سيما في أن تحسم الدولة اللبنانية خيارها لجهة سيطرة سلطاتها الرسمية على كامل الأراضي اللبنانية ومنع ازدواجية السلطة بين الدولة والميليشيا لصالح الدولة.

اقرأ أيضاً: الفتنة وحرب تطويع الجنوب السوري

إذ ليس خافياً أنّ نهوض الاقتصاد وحيويته يتطلبان في الحدّ الأدنى جاذبية استثمارية هي غير متوفرة في ظلّ غياب المرجعية المسؤولة في لبنان، فضلاً عن غياب مقومات الاستثمار على صعيد توفير الاطمئنان الأمني والسياسي، وبقية الشروط الطبيعية من حرية انتقال الأموال بلا عوائق، فيما لبنان هو عرضة لعقوبات مالية أميركية تطال نظامه المصرفي بسبب ما تعتقده وزارة الخزانة الأميركية من استفادة حزب الله من هذا النظام للقيام بعمليات مالية غير مشروعة.

تراكم الأزمات يقابله، إلى جانب استشراء الفساد، عجز عن تشكيل الحكومة وانفجار فضائح الفساد نتيجة الصراع بين أقطاب السلطة، وتشكل فضيحة الكهرباء في لبنان عنصراً محورياً في كشف مدى تورط بعض أطراف السلطة بملف الفساد. وليس خافيا على اللبنانيين أن قطاع الكهرباء في لبنان يخضع لعملية محاصصة في عملية مركبة لا تستمر إلاّ باستمرار أزمة مؤسسة كهرباء لبنان وهي المؤسسة العامة التي يُوكل إليها إنتاج الطاقة وتوزيعها. لكن المستجد هو أن قطاعا جديدا نشأ في السنوات الأخيرة وهو قطاع المولدات الخاصة والذي يقدّر حجم الأعمال الذي يشغله بقيمة ملياري دولار، وهذا القطاع تسيطر عليه بعض القوى السياسية التي تقوم باستثماره وجني الأرباح منه، وهي نفسها من يعطل عملية عودة مؤسسات كهرباء لبنان إلى طبيعتها كمصدر حصري لتأمين الطاقة للبنانيين، باعتبار أن أطرافاً في السلطة هم أنفسهم من يستثمر في هذا القطاع الخاص. الجديد ما كشفته بعض المصادر عن فساد وصل إلى حد سرقة مادتي الفيول والديزل التي تتولى الدولة تغطيتهما مالياً لمؤسسة كهرباء لبنان، هذه السرقة تتم منذ زمن على حساب وقف جزء من المعامل المنتجة للطاقة كما هو حاصل في معمل الزهراني في جنوب لبنان، مع إيقاف ثلاث مجموعات فيه بشكل غير قانوني من أجل بيع مادة الديزل الفائضة عنه لأصحاب المولدات الخاصة بأسعار مخفضة.

الترهل في مؤسسات الدولة وصل إلى حد العجز عن وقف السرقات المكشوفة. عجز تسلل إلى القضاء الذي بات في قبضة السلطة السياسية أو في حالة عجز عن القيام بمسؤولياته في تطبيق العدالة. هذا المستوى الذي وصلت إليه إدارة شؤون الدولة في لبنان بات يفرض حدوداً من التغيير لا تقل عن إحداث انقلاب على طريقة تعامل السلطة مع الإدارة العامة، فإذا كان لبنان في سنوات سابقة يستطيع أن يغطي عمليات الفساد من خلال المساعدات الخارجية التي كانت ترده من دول خليجية وأوروبية، فإن غياب هذه الموارد أو شحها، أفقد لبنان موارد مالية واقتصادية أساسية، ومع غياب أي استثمارات خارجية باتت الضغوط على الخزينة العامة غير مسبوقة، فيما زادت شهية بعض القوى السياسية على بناء أنظمة مصالح تقوم على حساب المال العام بشكل غير مشروع في معظم الأحيان.

التغيير في لبنان لم يعد مسألة جدلية، بل بات حاجة وجودية للدولة، فإما إحداث تغيير يحدّ من استنزاف الخزينة العامة والاقتصاد، وإما أنّ الهيكل مرشح في وقت غير بعيد للسقوط فوق رؤوس الجميع.

وفي ظلّ السيطرة الخارجية على القرار الاستراتيجي من خلال حزب الله، فإن لبنان ليس أمامه للخروج من معادلة المحاصصة إلا نوع من الرعاية الدولية، ورغم إدراك أنّ مثل هذه الرعاية غير متوفرة فضلا أنها لا تشكّل مطلبا لبنانيا، إلا أن لبنان يبدو أنه يتجه إلى مزيد من الحاجة للدعم الخارجي سواء في الجانب المالي أو على مستوى دعم مشاريع البنية التحتية، فيما القدرة الذاتية على استثمار الدعم باتت رهينة سلطة سياسية عاجزة عن ضخّه في شرايين الدولة، وهو ما سيدفع بالضرورة سواء توفر الدعم أم لم يتوفر (والاحتمال الأخير هو المرجح) إلى توقع أن يشهد لبنان فوضى لن يكفي سلاح حزب الله للجمها بعدما صارت معالمها ومؤشراتها ظاهرة للعيان في أكثر من منطقة في لبنان، ولا سيما في منطقة نفوذ الحزب في البقاع، الذي لن تشكّل وعود تشريع زراعة نبتة الحشيش فيه لاجما لما يعتمل في داخله من اعتراض وغضب.

السابق
حيدر العبادي أحال وزراء سابقين ومسؤولين كبار إلى هيئة النزاهة
التالي
مستشار الرئاسة المصرية السابق: لبنان يعيش بالدين