عبد المؤمن ورغي يروي حكاياته في «عبور خلف القدر»

كتاب خلف القدر
"رحلة عبور"، هو العنوان الرئيس للرواية الجديدة، للكاتب والرِّوائي الجزائري المقيم بالجزائر عبد المؤمن ورغي، وهذه الرواية التي تحمل عنواناً فرعياً هو: "حين أراك خلف القدر"، هي صادرة، حديثاً، عن "دار الفارابي" في بيروت، في طبعة أولى، أواخر العام 2017.

ويحمل الغلاف الأخير لهذه الرواية قول الكاتب عنها: “عندما تغادر حبيبتك، ينتابك فقدان بقلق، لكن شفتيك تبتسمان لكل تلك الذكريات التي صنعتها معها، لا تحس بتلك الفرحة، وإن كنت تكتم هذا الشيء عن عقلك، فإن قلبك يعرف الكثير عنك، إنه الوحيد الذي تتجنب مخادعته وإن سربت له كلمات مضللة، فذلك حين يلوح الحب! تُضحي بكل شيء في سبيله عن طيب خاطر! وذلك وجه آخر لشخصياتنا سواء اعترفن به أم لم نفعل. هذه الحياة وإن كنا ننظر إليها ببسمة الإعجاب فقط لأننا وجدنا غير أولئك الأشخاص الذين كنا نعتقد أنهم سيجلبون لنا شيئاً ساحراً كل يوم. كُنت أميل إلى الاعتقاد أن الاقتراب فقط من الحبيب الذي أربك كل حواسي كفيل يجعلني أعثر على كل تلك الأشياء الساحرة بكثرة.

اقرأ أيضاً: «رعشة روح»: نصوصٌ أدبيّة يُدوزِنُها جوزف رزق

وتتألف هذه الرواية من أربعة عشر فصلاً، هي قوام جزئها الأول، الذي سيليه، بالطبع، جزء ثان. ومن فصلها الأخير الذي يحمل عنوان: “خلف القدر” نورد هنا المقطعين الآتيين: وفور توقف محرك السيارة داخل مرآب منزلنا بحي “بوليفة” بالقالة، وبعد أن خرج من خرج صعدت إلى الطابق العلوي حيث تقبع أزهار مجففة داخل دفتر كتاباتي الذي لطالما أرهقت نفسي بإبعاده عن ناظري زوجتي الفضولية، وتسرّبت كظل دون جسد وكانت الوجهة مقبرة “رجال المرسى” قرب بحر “الشاطء الكبير”. مع اقتراب نزول شمس جعلتها السحب المظلة تغربُ دون موعدها. كان قبرُها لا يزال يذكرني بآخر أزهار وضعتها عليه منذ شهر قد مضى. ياسمينة توفيت عام 1977. في السادسة من العمر فقط. أمسحُ القبر وأقرأ سورة الفاتحة بصوت يقرب للهمس منه للجهر، وبعضاً من الأدعية التي حفظتها ذاكرتي من أجل روحها الطيبة، وأبدأ بمناجاتها كمجنون يعرف تماماً ما أصابه:
… لقد فعلتُ كل شيء من أجل الوصول إليك ولكن، ماذا أفعل يا ياسمينة؟ أخذك الموت حتى قبل أن أعثر عليك فأنتشلك من حياة سبقتني إليها. أتعلمين؟ اليوم تكلّما معاً ولأول مرة شعرتُ بأنني القصة التي تجمعهما! ولكنهما لن يصدقا أي كلمة ولو أقسمت ألف مرة، أدرك بأنها دون جدوى… أتعلمين لماذا؟ لأن الزمن يحولنا إلى أشخاص فقدوا تماماً بوصلة الوصول إلى أصولهم وذواتهم الحقيقية… مثلي تماماً، تحولت إلى رجل يعيش داخل بيت من صخر فوق جبل يطل على بحر يذكرني دائماً بافتراسنا لظهر عسلية في لحظة لم تمت داخل قلبي، دراستي التي ورثت منها شهادة تخولني رسم مخططات منازل بقواعد ثابتة في الأرض عوض احتمال واحد لأساس كوخ معلق على غصون الأشجار، لم يصارحني أي إنسان بنيته السخيفة في بناء كوخ ترفعه غُصون خضراء من أشجار جبلين، حتى تلك السخافة لم تراودني مرة أخرى يوم تزوجتُ غيرك… هي تشبهُك إلى حدٍ ما، امرأة مثل كل نساء العالم، ولكنها ليست أنتِ يا ياسمينة… كل شخص منا في هذه الدنيا فقد شيئاً، سواء كان امرأة يحبها أو حلماً، أو حتى منزلاً أو وظيفة، ولكننا وفي طريق البحث عما فقدناه واسترجاعه نفقدُ أغلى من ذلك بكثير، نفقدُ ذواتنا وأصولنا، أعرفُ أنني خُلقت من ذلك التراب لهدف في هذه الحياة… سأجدُ ذلك الطفل الصغير مرة أخرى داخل نفسي ولن أقف مستسلماً لكل ما يجعله تنيني حائلاً بيني وبين شمس الوعي التي ستضيء كل طريقي… لا أعرف ماذا يُصيبني حين أصل إلى هذا المكان، إنني لأبدو وكأنني أقرأ من كتاب… لم أعد أعرفُ حقاً إن كانت هذه الزيارات تُجدي نفعاً أم هي درب من دروب جنوني الذي لطالما أرهقني إخفاؤه، ارقدي بسلام!

عبد المؤمن ورغي كتاب
طفل الجنة… لسنوات طويلة، وإلى حدود هذه الحروف التي أكتبها لك، لم أكن فقط أتساءل كيف سأتمكن من وصف مكان لا يصل إليه المرء بجسده، بل كنت دوماً أفكر أن حيلتي جد ضعيفة في تركيب وصوغ جمل قد تدخل قارئها إلى هذا العالم بمشاعره، ليتذوق ما تذوقته ولكنني كنت أرهق نفسي ليلة وراء ليلة وحيداً داخل كفن فراشي أفكر في هذا المكان، كانت تجتاحني أفكار كثيرة، فكرة تجلب فكرة، وأخرى تجلب جيشاً من أفكار متضاربة، لم أستطع إيقاف زحفها نحو رأسي… لكن سرعان ما أُرغم على الرجوع نحو الفكرة الأولى في خضم هذه الفوضى العقلية التي أتساءل فيها “كيف للإنسان الابتعاد عن الشيء الأقرب إلى نفسه”؟، وهنا يجدُ عقلي وصفاً أكثر بساطة يصف الجنة وما يعتري المرء من مشاعر تبعث على الدخول إلى عالم الروح المجهول وقد عبر عنها بأنها أحاسيس عميقة بالكينونة… ولربما تقترب تلك الصياغة التي تقول فيها إن الجنة هي بأن تكون أنت، فقط أنت…..!

اقرأ أيضاً: «ميراث أبي»… روايةٌ أُولى لدلّولة حديدان

كان إحساساً عميقاً حمل كل ما تعنيه مشاعر السلام الداخلي… إحساس راحة، لم يكن إحساس إنهائك لأول رواية أو لأول فيلم تُخرجه، أول وظيفة تتقدم لها، أو تحقيق حلم كنت تعتقد أنه كان مستحيلاً، لا! أنا لن أتحدث عن كل تلك الإنجازات العظيمة التي قد يقدّمها الإنسان للبشرية. ذلك الإحساس العميق بالكينونة وقد حدث أن قدمته على كل ما يطمح إليه الإنسان بالفطرة كان مثلما تضع كل إنجازاتك في كفة وتنعم بلحظة تتحول فيها إلى رضيع لا يعلم شيئاً عن هذا العالم الذي ينتظره في كفة أخرى، تبتسم في وجه شخص يعجبك، وتبكي في وجه آخر. إذا داهمك الجوع فستبدأ بالبكاء وبعد أن تشبع ستلعب وتلعب إلى مرحلة ينهار فيها جسدك الطري فتقع نائماً مستسلماً على فراش لا يجلب لك أي ذكرى! ففي الأخير نحن نفعل كل ما تمليه علينا أحلامنا حتى نستعيد تلك اللحظات البسيطة.
أكتبُ اليوم بعد أن تحولتُ إلى ذلك الهنري الذي أخبرني عنه شبحي، كيف لا وقد وصلت إلى المكان الذي أضعت فيه جنتي، تتكالب فيه الحياة من كل صوب فقط لأرفض مراقبة نفسي وكل تلك الجزر التي تكبر داخلها دون قدرة مني على إيقافها والتحكُّم في اتساعها، ربما كان ذلك الطفل صاحب قطعة الحلوى السخيفة يناشدني في آخر لحظاتي عدم الدخول إلى أي عالم آخر، وأنه عرض عليّ المكان الذي سيخلصني من كل عذابات الحياة التي لا ترحم، ولكنني أعرف شيئا واحداً، أعرف أنني أحمل جنتي داخل قلبي، وستمضي معي إلى أي عالم سأقرر الدخول فيه، لن أتوقف عن البحث عنها إلى اليوم الذي سيجعلني الله برحمته أخلد فيها.

السابق
الأراضي الإيرانية مستباحة أمام مقاتلات F-35 الإسرائيلية!
التالي
هدية إيرانية لمحمّد بن سلمان