اليسار في دوامة الأزمة: ليس بهذه العدة يتم تجديد اليسار

اليسار
ما يستوقفنا اليوم ، ومنذ مدة طويلة ، هو واقع الازمة المحتدمة التي تعصف باليسار ، والتي زادتها تطورات الوضع اللبناني في أبعادها الداخلية والإقليمية في السنوات الاخيرة إنكشافا وبروزا .

هنا ترانا جميعا، في حاجة للإنخراط في نقاش جماعي، ديمقراطي، وهادئ، لربما يشكل هذا النقاش مدخلا لصوغ خلاصات سياسية يشكل التوافق حولها مصدر حصانة لنا جميعا.

ان قراءة موضوعية وجادة لواقع هذه الازمة في مكوناتها الفكرية والبرنامجية، والسياسية، والتنظيمية، وفي المحاولات التي تمت سعيا الى معالجتها وتجاوزها، هو المدخل لإدراك ماهيتها، بكل ما يعنيه ذلك من مراجعة نقدية.
أولا – ضع النقد في صلب عملية التجديد:
هل يمكن الحديث عن عملية التجديد من دون تناول التجربة السابقة؟

بالنقد، خصوصا بعد كل الذي جرى عالميا، واقليميا، ومحليا خلال مرحلة شهدت حرباً أهلية دامت خمسة عشر عاما، وفشل محاولة الحركة الوطنية اللبنانية تغيير النظام الطائفي، وهي شهدت إلى ذلك أفول مرحلة من مراحل حركة التحرر الوطني العربية، وانهيار النموذج الاشتراكي، ما يعني أن الذين كان لهم موقع مثل موقع اليسار اللبناني، في سياق هذا المسار، وكجزء منه، مطالبون بقول راي نقدي واضح في هذا المسار وموقعهم ودورهم فيه، ومحكومون بان يسلكوا وجهة إعادة نظر في المفاهيم، والمقولات النظرية، وفي الموضوعات البرنامجية، والسياسات، التي كانت معتمدة في المرحلة السابقة.

اقرأ أيضاً: من أحمد اسماعيل إلى الحزب الشيوعي وحنا غريب

ولا نعتقد اننانبالغ حين نعتبر ان هذه المراجعة الجدية للمسؤوليات التي جرى تحملها من قبل اليسار خلال الحرب تشكل شرطا ضروريا لا بديل منه لاستقامة البحث في مشروعية أي دور مستقبلي لهذا اليسار…

ما خلا النقد الجاد الذي تم في المؤتمر السادس للحزب الشيوعي اللبناني، والذي لم يستكمل بل جرى الالتفاف عليه والارتداد عن أغلب إنجازاته، بالممارسة، ومن ثم تم استكمال الالتفاف عليه خلال المؤتمرات اللاحقة، ما عدا هذا النقد، لم يخلف الحزب غير نثار من النقد الذاتي، في هذا المجال او ذاك، وفي هذه المناسبة او تلك، بتعبير آخر لا توجد مراجعة شاملة للتجربة السابقة، وفي القلب منها تجربة الحرب الأهلية، تقطع مع ما قبلها من جوانب خاطئة وتتمسك بما هو ايجابي ومضيء، مما يتيح التحرر من اثقال المسائل التي ظلت معلقة في الماضي والحسم في القضايا التي ظلت قراءتها مجرد مشاريع قراءات.

ثانيا – في أزمة الهوية: الحل الاصولي او الحل التوفيقي جمود في ثوب جديد.
السؤال الذي يطرح نفسه هل من الضروري أن يكون لليسار مرجعية فكرية؟ وهل النظرية ضرورية للتغييرالديمقراطي، على قاعدة ان لا حزب ثوريا من دون نظرية ثورية؟
اليسار السيادي (حركة اليسار الديمقراطي) عند تأسيسها أعفت نفسها عن أي تناول للمنطلقات الفكرية وسجلت كلاما عاما، ينحى منحى تنويع مصادرها الفكرية، ومن دون نقاش فعلي، مما بدا وكأنه قفزة في المجهول.
ينطلق الحزب الشيوعي من انه أقر في المؤتمر السادس اساس حل لمسألة الهوية، وأنه صاغ مفهومه للماركسية” كعلم وكمنهج “مع وعد” ببلورة مفهوم للاشتراكية بصيغ واضحة ملموسة، تأخذ بعين الاعتبار المنابع المتعددة الأخرى للفكر الثوري”…..

هل من معنى للحديث اليوم عن هوية اشتراكية إذا لم نحدد في وضوح أي اشتراكية نعني على الصعيد النظري؟
وأي راهنية للماركسية اليوم وهل لا تزال تشكل أداة تحليل ومعرفة صالحة للمرحلة التاريخية الراهنة؟
وماذا تبقى من الماركسية على صعيد المفاهيم والمقولات؟
إلا تستحق كل هذه القضايا ان يخوض فيه اليسار الماركسي، وأن ينخرط في ورشة بحث نظري نقدي في الماركسية ، ويضعها على تماس مع اسهامات نقدية وتحررية اخرى، عرفتها الثقافة المعاصرة، وأن يتابع ما كان قد بدأه من مواكبة المستجدات النظرية ومحصلات النقاش الدائر عالميا ومحليا في هذا المجال؟
لم تعكس مؤتمرات الحزب ووثائقه أي مراكمة في هذا الاتجاه. ان المراوحة من قبل الحزب الشيوعي عند إعلان التمسك بالأساس العلمي للماركسية يتحول إلى ما يشبه الحل الأصولي لمسألة الهوية، كما ان الدعوة إلى الحل التوفيقي يشكل الوجه الاخر للحل الاصولي، وكلا الموقفين يعكسان لونا من ألوان الجمود في ثوب جديد.

ثالثا – في أزمة البرنامج:
أ – ا شتراكية ام بناء الدولة الديمقراطية؟
الخيار الاشتراكي كان فيما مضى هو الأصل في برنامج الحزب الشيوعي اللبناني، وهو علة الوجود ا لبرنامجي للحزب، ومن زاوية هذا الخيار نظر الحزب الى القضية الوطنية اللبنانية…

بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وبعد اقرار اتفاق الطائف، وفي المؤتمر السادس تراجع الحزب برنامجيا الى ما دون الإشتراكية، معتمدا برنامجا تتمحور عناوينه حول القضية الوطنية اللبنانية، مرفقا باشارة الى ان هذا البرنامج الجديد هو اشتراكية من نوع جديد، مما يشير الى ان التراجع عن الاشتراكية كفكرة محورية في برنامجه ليس تراجعا حاسما.

في المؤتمرات التي لحقت المؤتمر السادس،تتكرر هذه المراوحة بين الإشتراكية، وبين مهمة بناء الدولة الديمقراطية كمهمة برنامجية محورية.
مع ا ستمرار حال المراوحة هذه تضيع البوصلة البرنامجية بين سياسات وتحالفات سابقة متناسلة ومستلة من برنامج مرحلة الانتقال إلى الإشتراكية وخارج سياقها التاريخي والسياسي، وبما يستدعيه هذا البرنامج (الانتقال إلى الاشتراكية) من النظر إلى قضايا الوضع اللبناني من زاوية التناقضات الخارجية، وبين سياسات وتحالفات برنامج مرحلة بناء الدولة الديمقراطية التي لا تتجاوز آلية النظام الرأسمالي إلى سواه، وما تستدعيه هذه المهمة (مهمة بناء الدولة الديمقراطية) من إعادة الاعتبار الى حقيقة كون التناقضات الداخلية هي الأساس في رسم الخط السياسي لأي قوة يسارية، وما يترتب على هذا الخط وهذه المهمة، من تحالفات داخلية واقليمية تتناقض كليا مع واقع وصيغة التحالفات التي دأب الحزب على نسجها منذ المرحلة السابقة، ومنذ مدة طويلة ، مع قوى عربية او إقليمية لعبت وتلعب دورا مشهودا في تعطيل سبل التطور الديمقراطي في لبنان، ومع بعض اجنحة الطبقة الحاكمة اللبنانية من القوى الطائفية، وهي القوى عينها المعادية لقيام الدولة الديمقراطية، كون مصالحها تتناقض مع قيام هذه الدولة، مما أوقع الحزب ومنذ مدة طويلة في مأزق تتوالى موجاته تخبطا وارتباكا في السياسات والمواقف والتحالفات.. (سنتناول هذا الجانب وتجليات الأزمة على الصعيد السياسي بالتفصيل في الحلقة القادمة)…
أن الحسم في اعتبار مهمة بناء دولة ديمقراطية، مرجعيتها في داخلها، لا في الخارج، او بواسطة الاستقواء بالخارج، واعتبار هذه المهمة هي علة الوجود ا لبرنامجي للحزب، هو السبيل الوحيد لاستيلاد خط سياسي يصدر عن التزام موجبات القضية الوطنية اللبنانية، ويؤسس لوطنية لبنانية احد شروط تكونها واستقامتها هو قيام الدولة الديمقراطية، دولة القانون والمؤسسات وتكافؤ الفرص.
ب – البرنامج يبنى على تقارير سياسية ام على تحليل بنيوي؟
لا ينطلق الحزب الشيوعي وحركة اليسار الديمقراطي من فراغ برنامجي غيران ما بين أيدينا من وثائق للفريقين، لا يمكن إدراجه تحت عنوان برنامج متسق مبني على مراكمة عناصر تحليل بنيوي ملموس لطبيعة المرحلة التي يعيشها العالم اليوم، وواقع الوضعين العربي واللبناني، مما يجعل من هذه الوثائق أقرب إلى تقارير عن الظرف السياسي في حينه، ومما يحول التوجهات البرنامجية إلى شعارات وعناوين مكرورة، او ليست البرامج أحد أشكال الصياغة الفكرية – النظرية المبنية على تحليل الواقع الملموس؟

إذا كان التغيير الديمقراطي في لبنان يرتبط بجملة عوامل وشروط داخلية وخارجية، وإذا كنا نرى ان مستقبلنا يتوقف على عملنا داخل مجتمعنا، فهو أيضا نتاج عوامل وتطورات عالمية واقليمية في آن، ينبغي لنا أن نعيها أولا.
إلا يطرح ذلك جملة من الاسئلة البرنامجية خصوصا في ظل المعادلة الدولية- الإقليمية – الداخلية التي نشأت مع مطلع التسعينات من القرن العشرين، والتي لا نزال نعيش في وسطها ونتلقى نتائجها وفصولها على غير انقطاع؟
هذه المعادلة نشأت بفعل جملة تطورات: اولهايتصل بالتحولات السياسية وماتشهده العلاقات الدوليةمن تحولات عاصفة، وهو ما يقتضي تحديدخصائص النظام العالمي اليوم، وتناقضاته ومنطق تعامله مع منطقتنا في هذه المرحلة وتأثيراته العاصفة على التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي في العالم العربي والتي لا نستطيع ان نضع أنفسنا في معزل عنها.

وثاني هذه التحولات هو ما تشهده المنطقة من صراعات،وآفاق الوضع العربي، ودخوله في مسار جديد يتقدم الصراع العربي – الإسرائيلي، ويعلو قضية فلسطين.
وثالث هذه التطورات يتمثل في واقع إرساء دعائم نظام لبناني تكون حثيثا بعد الطائف، وعلى نحو أعاد إنتاج الازمة اللبنانية، وفاقم من أزمة عناصرها البنيوية، مما يجعلنا أمام قراءة كاملة تلحظ سمات النظام اللبناني وصراعاته وتوازناته القائمة الراهنة، وطبيعة الطبقة الحاكمة وتكونها الطبقي، وتشخيص التحولات التي طرأت على وظيفة الاقتصاد اللبناني، والتحولات في التشكيلة الاجتماعية، ومشكلات قيام الدولة الحديثة في ظل نظام المحاصصةوالاقتسام الطائفي للدولة.
في ضوء هذه القضايا يمكن تقدير حالة النظام الاقتصادي الاجتماعي السياسي وكشف تناقضاته، وتحديد القوى الاجتماعية المتضررة منه وصاحبة المصلحة في إصلاحه او تغييره، وحال قواها السياسية وتحديد وتيرة المعارضة المطلوبة والممكنة.

اقرأ أيضاً: اليسار والمعاندة الفكرية

أوليس من رابط بين سائر هذه القضايا الدولية والإقليمية والداخلية، وبين برامج أي قوة يسارية، وهل يستطيع اليسار أن يحدد خطوات التقدم الممكنة من دون ربط هذه المهمة – التحدي بإنتاج ومراكمة أجوبة عن هذه القضايا؟
على ممارسة مثل هذا الجهد الفكري تتوقف قدرة اليسار على امتلاك الوعي المطابق، الذي يؤهله لتوضيح الرؤيا، وصوغ برنامج متماسك ومتسق، يمكنه من العبور إلى السياسة، وابتكار أساليب العمل الملائمة.

أزمة اليسار اليوم في بعض أوجهها هي تراكم من الاخطاء في الرؤى والبرامج والسياسات، معطوفة على هجرانه لمفهوم النقد والنقد الذاتي، وهو تراكم تحول منذ منتصف الثمانينات إلى مسار متكامل تتفارق فيه بشكل متزايد الاتساع المسافة بين الممارسة السياسية وتحديات الواقع، مما يفضي الى الدوران في دوامة الازمة.

للموضوع تتمة: تجليات الأزمة على الصعيد السياسي: اليسار الممانع والسيادي صمام أمان للطبقة الحاكمة.

السابق
ما سر هذه الهجمة من قبل البعض على لقاء مونرو؟
التالي
منظمة السلام العالمي HWPL كرمت سفيرها غسان الزعتري ومنحته جائزة السلام الدولية