المفكّر اليساري كريم مروة: لا أحد يستطيع تغيير مكونات الشخصية اللبنانية بتعددها ووحدتها

على امتداد حياته السياسية أعلن بوضوح وعزم شديدين أنه مع اتجاهات تغيير الواقع نحو الأفضل وجعل المستقبل أكثر تقدماً وحرية وعدالة، في موقف فكري باسم الاشتراكية التي ينتمي إليها (الحركة الشيوعية).

كريم مروة (87 عاماً)، يبدو بما كان عليه دائماً، مفكراً نضراً وطموحاً بدءً من مرحلة الشباب، وفي مراحل حياته المختلفة، مؤمناً بإحداث التغيير بذلك الاندماج القائم بين ما هو مشاعر ذاتية، وما يعبر عنه بالانتماء إلى الاشتراكية، وبنوستالجية تطلّ على المستقبل أكثر من الماضي يؤكد على ما أعلنه في العام 1945 عن قوميته العربية، التي تطوّرت من صيغة رومانسية ومن تمرّد الشباب ومن رغبة في التغيير نحو الأفضل باسم الاشتراكية.

الآن، وامتداداً لربع قرن ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي يجد المفكر اليساري كريم مروة نفسه في صراع بين ما هو داخلي من ثورة وآمال وبين ما هو واقع مرير. ويجهد في البحث عن بديل يُشكل تطويراً للفكر الاشتراكي، مستوحياً مجدداً وصية الفيلسوف الماركسي الروسي جورج بليخانوف في العام 1918، على قاعدة إمكانية تجديد الفكر الماركسي.  وهو، كريم مروة، الذي تجرأ في العام 1983 على إعلانه الشهير في مجلة الطريق في عدد خاص مُكرس لمئوية وفاة كارل ماركس: «إن ثمة أزمة حقيقية في الماركسية في بلداننا العربية». وكان يقصد بها أزمة عامة، عاد وأوضحها في كتابه “حوارات” في مطلع التسعينات باحثاً في طبيعة أزمة الحركة الاشتراكية والأسباب التي تقف وراءها.  وعاد في العام 1993 في محاضرة في «منتدى الفكر التقدمي» إلى تبيان الأزمة مُعدّداً خمسة عشر سبباً وراءها، قادت إلى تشققات بنيوية والى انهيار التجربة الاشتراكية برمتها.

المفكر اليساري كريم مروة، يستعيد تلك التجربة النضالية الطويلة ليجيب عن أسئلة الحاضر المقلقة لبنانياً وفي المنطقة والعالم، مجدّداً القول إنه لم يفقد الثقة بتغيير ما يحصل في أية لحظة عندما تتوفر الشروط لذلك ذاتياً وموضوعياً وببناء المستقبل الأفضل لبلداننا.  ويؤكد على تفاؤله: “تفاؤلي ليس عرضياً وعفوياً، بل مبنيّ على أن الإنسان لا يمكنه الخضوع للعيش في أسوأ ظروف الحياة من دون أمل وعمل من أجل التغيير”.

إقرأ أيضاً: كريم مروه: الوصاية أخطر ما واجهته أحزابنا (3\2)

يضيف مروة «أنا متفائل شرط العمل، لأن الوقوف أمام الصعوبات يحمل احتمالين اثنين: اليأس والبقاء في المربع الأول أو العمل من أجل تجاوز هذا الواقع وتغييره بالاتجاه الأفضل لشروط الحياة».

.

* أين نحن الآن؟

– «نحن في أسوأ دَرَك وتمر به بلداننا لثلاثة أسباب: 1 – فقدان السياسة وظيفتها الأصلية عند القوى السياسية التي تعتبر نفسها معنيّة بالنضال من أجل التغيير من مختلف الاتجاهات والمرجعيات، لا سيما اليسارية منها بأسمائها وتنويعاتها الختلفة.  2-  لبنان ما زال يعيش امتداداً للحرب الأهلية وما قبلها.  والقول إنها ككانت صدى وفعل التدخلات الخارجية ليس كافياً، لأن تلك القوى الخارجية جرى استدعاؤها من قبل كلّ القوى السياسية في صراعها الداخلي فيما بينها من دون استثناء حول مشاريعها الوهمية. 3- تراجع الوعي عند النخب الثقافية والسياسية،  وتلكؤها عن القيام بدورها.  وإذا كان تراجع الوعي احتمالاً قائماً عند الجمهور العام في مراحل ما، فإن تراجع الوعي عند النخب هو الأخطر، لأنها هي المفترض بها أن تتصدى استناداً إلى الثقافة التي تمتلكها، أو المفترض أنها تمتلكها، للقيام بأدوارها في الاتجاه الذي يؤدي إلى تغيير الأوضاع القائمة تحقيقاً للتقدم والحرية والعدالة.   فإذا فُقدت هذه العناصر سنكون في مأزق حقيقي وسيبدو الوضع أمامنا كأنه بلا أفق.  وفي ما أسمعه وأراه وأراقبه وأقرأه عند المثقفين وعند الشباب خصوصاً أتلمس ذلك في ضوء ما دل عليه الحراك الشعبي في الآونة الأخيرة، حيث كان لا بد من اجتراح مغامرة من أجل إحداث خرق ما في الوضع الراهن.  وهو ما لم يتحقق رغم تأكيدي على أهمية ذلك الحراك.  لكن الصعوبة ليست سبباً في عدم اقتحام مثل هذه المغامرة الضرورية لإخراج بلدنا مما هو فيه.  وما هو فيه يُعبّر عنه بعنوان أساسي: «عدم وجود دولة مدنية بالمعنى الحقيقي للكلمة. والدولة المدنية لا تأتي تلقائياً بل عندما توجد القوى التي تناضل من أجل قيامها»».

 

* هل جرى أخذ دروس من الحرب الأهلية؟

– «المشكلة أننا على اختلاف تياراتنا السياسية والاجتماعية والثقافية لم نعرف كيف نتعلم من دروس الماضي ومن تجاربنا فيه.  وأنا أعترف أن الحركة التي انتميت إليها، وهي التي كانت الأكثر قرباً من الواقع بتعبيراتها المختلفة، تعيش اليوم في ما يشبه الاختلاف عما كانت عليه في الماضي وفي ما يشبه الاختلاف عما هو مطلوب منها. ولم نتعلم من دروس التجربة على امتداد ما يقرب من نصف قرن أو يزيد.  وهذه الحركة تحديداً تحولت مع الأسف الشديد إلى ما يشبه التنظيمات السلفية.  والسلفية لا تعني فقط الدين، بل هي تعني أكثر «السلفية الفكرية»، وهذه أخطر من السلفية الدينية.  ويبدو أن أحداً لم يقرأ ما كتبه ذات يوم ماركس وقال فيه متوجهاً إلى الشيوعيين: «لا تحولوا الأفكار إلى عقائد جامدة»، أي إلى ما يشبه الغيبيات الدينية.  وأكثر ما يؤلمني أنني كلما تقدمت بفكرة أرمي فيها إلى ضرورة تجديد فكرنا الاشتراكي باعتبار ذلك يعبّر عن حالة صحّية يخرج من يواجهني ليس بالنقد، بل بالشتيمة!».

* وهل تخشى من عودة الحرب الأهلية؟

– « قد يخشى البعض ذلك خصوصاً في ضوء ما يجري وما هو قائم، لا سيما إزاء ما نشهده في الجوار من حروب أهلية في سوريا والعراق وفي اليمن. أي أن الحرب يمكن أن تأتي من صورة ما يجري في الخارج إذا لم ننظر إليها جيداً ونقاومها بمسؤولية وطنية وعقلانية، ونتنبه إلى ما هو خارج حدودنا.  أقول ذلك استناداً إلى أن عناصر الحرب ما زالت قائمة على شكل حرب باردة نعيشها منذ أن انتهت الحرب الأهلية. هذا الانقسام العميق الذي كان سائداً في الحرب الأهلية ما يزال قائماً.  ويُعبّر عنه في هذه اللحظة عدم الاتفاق على قانون انتخاب عصري.  ونحن نخترع من ذلك أزمة غير مبرّرة في دولتنا التي نعتبرها افتراضياً ليبرالية وديموقراطية. إضافة إلى قانون الانتخاب، هناك ما هو أفظع نواجهه في حياتنا اليومية في كل مرافق الحياة العامة من دون استثناء.  فأزمة النفايات هي كارثة، كذلك الحال بالنسبة للصحة والكهرباء والمياه والسكن والوضع الاقتصادي المتردي والبطالة فضلاً عن العدد الهائل للنازحين السوريين والمشاكل التي تعاني منها المخيمات الفلسطينية.  ورغم ذلك لا يفكر سياسيو بلدنا من كل الجهات والاتجاهات إلى أين يقودون البلد. هناك مخاوف حقيقية عند البعض اليوم، من أن تأتينا الحرب من خارج الحدود، وتجد مقوماتها لدينا في الانقسامات والنزاعات.  لكنني مقتنع بأن لا أحد له مصلحة بعودة الحرب، ولا مصلحة لأحد بعودة لبنان إلى التقاتل الأهلي، لأن الصراع قائم من دون حرب. وأجزم في الآن ذاته بأن أحداً لا يستطيع تغيير مكونات الشخصية اللبنانية بتعددها وتنوعها ووحدتها.  أنا مقتنع أن لا أحد، مهما كانت قدرته وما يملك من السلاح، يستطيع أن يفرض سياسته وأجندته على لبنان. وإذا ظن البعض أن ذلك ممكن، فذلك يعني أن لبنان سيتحول إلى ما هو أسوأ من النموذجين الكارثيين في أفغانستان والصومال. ولكن مرة أخرى أعلن بوضوح أن أحدا لا يستطيع ان يغير طابع وسمات الشخصية اللبنانية المتعدّدة المكوّنات، ولا أحد يستطيع أن يلغي وحدة تلك المكوّنات. على العكس من ذلك هناك فكرة موجودة وهي تستدعي شرطاً أساسياً، وهي أن يقتنع اللبنانيون بأنه آن الأوان لكي يقرروا مصائرهم بأنفسهم وأن يتحرروا من الوصايات من أية جهة أتت، بما في ذلك من أكثر أشقائنا قرباً مناً ومن تاريخنا.  ولديّ مجرد شعور، وربما تمنيات أيضاً، بأن بعض عناصر الاقتناع لما أشرت إليه، بدأ يتكوّن عند أقسام واسعة من اللبنانيين.  ما يدفعني للنظر إلى المستقبل بثقة وباقتناع بأن هذه العناصر سيزداد تكوّنها بسرعة في المدى الزمني القريب.

 

*.. والسبب ؟

– «أحد الأسباب التي تدعوني إلى ذلك، هو هذا الاهتراء الكامل في كل مرافق الحياة، ومن ضمنها السياسة السائدة ذاتها وأشكال التعبير عنها.  فالوضع وصل إلى الحدود التي يكاد يصبح فيها لبنان في أخطر المراحل من تاريخه».

 

* هذا يفترض مراجعات نقدية أليس كذلك؟

– «عندي قناعة بأن اللبنانيين سيصلون من خلال قياداتهم السياسية الراهنة ومن خلال القيادات الآتية المُرتقبة ولادتها، إلى الشعور بضرورة الحوار في ما بينهم، حتى لو كانوا يمثلون أقصى التناقضات في سياساتهم، وفي أفكارهم واجتهاداتهم، وتصوراتهم المستقبلية.  وأنا شخصياً لا أرى مانعاً من أن ألتقي مع من هو نقيض لي، انطلاقاً من الرغبة في إمكانية التغيير للوصول إلى قواسم مشتركة. والحوار في كل الحالات وفي أسوأ الظروف هو ضرورة وأساس في عملية المراجعات النقدية.  ولأننا جرّبنا في الحرب الأهلية أن نتصارع عندما نختلف، وثبت لنا أن هذا الصراع كما دلّت عليه تجربتنا يحمل نتائج كارثية. لذلك فإنني أرى أن الحوار هو البديل من الصراع لتجنّب الوصول إلى أسوأ الحالات.  ولا إصلاح إذا لم نكن مقتنعين بالحوار وبتسويات مدنية بدل الصراع العسكري، أعني مخاطر العودة إلى الحرب الأهلية مجدداً، رغم قناعتي بأنها صارت شبه مستحيلة رغم ما تشير إليه بعض المظاهر الدالة عليها في الصراعات والانقسامات.  أقول ذلك لأنني صرت مقتنعاً اقتناعاً مطلقاً بأن التغيير لا يمكن أن يتمّ بالعمل المسلح، وأن الشرط الضروري للوصول إلى غايات هذا التغيير هو النضال الديمقراطي السلمي.

 

* إذاً، لا شيء يمنع عودة الحرب الأهلية؟

– «هذا قرار عند القيادات وعند اللبنانيين، هل يريدون حرباً أهلية ؟. لا أعتقد لأن نتائجها بعد ما شاهدناه في الجوار العربي، أسوأ مما شاهدناه في الحرب الأهلية. وإذ استحضر ذاكرة الحرب الأهلية، فلكي أعلن للمرة الألف وكتبت ذلك في مؤلفاتي: «إننا جميعاً في الأحزاب والحركات السياسية ومعنا جماهيرنا نتحمل كامل المسؤولية عن تلك الحرب وعن النتائج الكارثية التي خلّفتها، وما تزال مظاهرها قائمة.  لم تكن الحرب الأهلية “حرب الآخرين على أرضنا”.  هذا جزء بسيط منها والقوى الخارجية كانت موجودة، ولكن من أوجدها أكثر هي القوى اللبنانية نفسها التي هيأت الشروط للحرب والاستمرار فيها.  وأنا اعترض اعتراضاً شديداً على من يعتبر أن فريقاً يتحمّل المسؤولية أكثر من غيره.  وأنا أتكلم من الأرض والميدان ومن موقع المسؤولية في قيادة الحزب الشيوعي اللبناني وفي قيادة الحركة الوطنية.  ولدي أمثلة صارخة ودلالات على أخطاء كثيرة ارتكبناها في الحركة الوطنية لا سيما في حرب الجبل العام 1976، عندما قررنا مع أشقائنا الفلسطينيين أن نحرر الجبل المسيحي من أهله، فخسرنا الحرب وفقدنا العديد من الشهداء وتركنا وراءنا الكثير من الخراب.  وكنت أتمنى وما زلت أن تدخل القوى التي شاركت في الحرب في مراجعة نقدية حقيقية لتلك المرحلة وأدوار كل تلك القوى في الحرب.  وإذا كان البعض من تلك القوى قد قام بمراجعة نقدية مجتزأة، وحزبنا الشيوعي أول من قام بتلك المراجعة ولم يستكملها، فإن القوى الأخرى التي شاركت في الحرب لم تتجرّأ حتى الآن لأسباب أجهلها على القيام بالمراجعة النقدية.  وفي اعتقادي فإن هذه المراجعة اليوم باتت ضرورة وطنية مطلقة لكي نتحرر من نتائج الحرب ومن احتمال العودة إليها.

إقرأ أيضاً: حسين مروة.. اغتيال الفكر قبل السياسة

وفي مقدمة ما هو مطلوب في هذه المراجعة هو إقرار الجميع، بدون استثناء، بأمرين متلازمين.  الأمر الأول هو أن للبنان شخصية من عدة مكوّنات تكمل بعضها البعض وتتوحد فيما بينها لتجعل من لبنان وطناً حقيقياً لجميع اللبنانيين في المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات.  الأمر الثاني التحرر من أي ارتباط خارجي من أية جهة أتى في ما يتعلق بالشأن الوطني اللبناني، واستبدال ذلك بعلاقات صداقة وتعاون على قاعدة السيادة والاستقلال لوطننا.  وإذا ما تمّت عملية المراجعة لشكّل ذلك عنصراً مهماً في خلق الوعي عند اللبنانيين لجهة طيّ صفحة الحرب ووعي مخاطر الصراعات والانقسامات، لكي لا نعود إلى تلك الحرب، والوعي بضرورة الخروج من الماضي والحاضر الصعب إلى مستقبل مختلف أفضل لوطننا ولشعبنا.

السابق
هشام حداد لمنتقدي صحيفة الأخبار: غنم!
التالي
بالفيديو: إسرائيل تسقط طائرة سورية بدون طيار