عن أعراض «الشرف» و«الكرامة» و«الإنتصارات الإلهية»

محاولة لتعداد فائض العدالة والرخاء في لبنان، وفضائل حكامنا في دولة لبنان العظيم

يبقى أن يراقب اللبنانيون اليوم كيف يتصرف المسؤولون في هذه السلطة، كيف لا ينامون ليلهم وهم يفكرون ببناء دولة، وينهمكون في إعداد خطط خمسية أو عشرية لبناء الاقتصاد ووضع سياسات تنموية، ويدرجون أحدث الخطط والوسائل لمكافحة الفساد، ووقف الهدر، وتفعيل إنتاجية الإدارة العامة، كيف سيوفرون موارد سلسلة الرتب والرواتب لموظفي القطاع العام، وسبل وقف عملية طرد العمال والأجراء من القطاع الخاص، المسؤولون مهتمون بوقف التهرب الضريبي من كبار الشركات، بل بإعداد نظام ضريبي يهدف إلى تحقيق المبتغى من الضرائب، أي تحفيز قطاعات اقتصادية معينة على الإنتاج والتوسع، وفرض ضرائب على قطاعات ناشطة ومزدهرة بما يخدم العدالة الاجتماعية في سبيل تحقيقها أو منع طغيان فئة صغيرة على الفئات الأعرض في المجتمع.

يحلم المسؤولون في هذه الدولة أن يسجلوا في تاريخهم أنّهم وضعوا بصماتهم في عملية بناء الدولة العادلة، وأنّ الرئيس هذا أو ذاك عاقب احد المقربين منه أو من أسرته، لأنّه وضع يده بشكل غير قانوني على أملاك عامة، أو مال عمومي، أو تلقى رشوة، رغم أنّها عبارة عن هدية ليس إلاّ، إلاّ ان الرئيس لا يعتبر الهدية إلى من هو في موقع سلطة، أو مؤثر فيها، مجرد هدية بل رشوة، أسوة بما يفعل أعداؤنا إذا ارتكب مثل هذه “الهفوة” أيّ من مسؤوليهم، سواء كان رئيس دولة، أو موظف صغير فيها.

ولعلّ أكبر مأثرة قام بها الرئيس الفلاني في لبنان أو المسؤول المزمن في الحكم، هو أنّه قدم للشعب اللبناني تقريراً مفصلاً عمّا كان يملك هو وأسرته من ثروة حين تولى منصب عام، وكم صارت اليوم، وكم احترمه اللبنانيون عندما اكتشفوا أنّ ما كان يملك لم يزد، بل تناقص مع توليه منصباً عاماً، آهٍ كم كنا نظلمك يا فخامة الرئيس يا دولة الرئيس يامعالي الوزير ويا ويا… لقد أفنيت عمرك وثروتك في سبيل لبنان وشعبه.

مجلس النواب

أمّا الدستور والقانون، فقد رسخ مسؤولونا قواعد الدستور، وكانوا ولا يزالون حازمين في تطبيق القانون، مدركين أنّ بقدر احترامهم للدستور والقانون، فإنّ الناس سيقدسون الدستور والقانون، وبقدر تجاوزهما لهما، فإنّ المواطنين أيضاً سيتفننون في ارتكاب المخالفات والتعديات على كل ما هو عام او خاص فالناس على دين ملوكهم كما يقال.

إقرأ أيضاً: 19 آذار..والأخطر !

لكن الأهم من كل ذلك أنّ البعض منّا نحن “الشعب اللبناني العظيم” كما يصفنا “بيّ الكل” راح يفتش في بلاد أخرى عن سبيل لإثبات عظمته ليقاتل دفاعاً عن كل شيء حتى عن الحكام الظالمين والمستبدين بشعوبهم، مدركاً أنّ ما تركه في بلده من عدل وقيّم ورخاء يغنيه عن بذل الجهد من أجل الخير في بلده، فلا مكان لشرف إضافي بعدما امتلأت دولتنا بأشرف الناس من الرؤساء والوزراء والمواطنين، وبالتالي وجب نقل هذا النموذج إلى الشعوب الغبية في منطقتنا، ولو بالتبشير العسكري والأمني، ولأننا “أشرف الناس” أي “شعب الله المختار” فيحق لنا ما لا يحق لغيرنا، ولنا وحدنا حقّ تعليم الناس ومعاقبتهم أو اثابتهم “شاء من شاء وأبى من أبى”.

في دولتنا التي يحكمها قديسون وأنبياء او يكاد، لولا خطأ مطبعي في حرف، بلادنا التي ليس في قاموسها إلاّ “انتصارات الهية” بلادنا التي انتهى فيها زمن المحرومين بعد القضاء على الحرمان، وانطوى فيها زمن المستضعفين بعدما انتهى زمن الاستضعاف وصرنا في عهد المقاومة، بلادنا التي ساد فيها العدل ويستطيع القضاء أن لا يكون قدراً مشؤوماً بين المواطنين، بل طالت يده كل من ارتكب او اعتدى أو أساء لانسان مهما بلغت مرتبته بين أهل البلد، بلادنا صارت بلاد القضاء الذي يثبّت العدل ويمنع طغيان من سولت له نفسه بأن يطغى، بعد أن استغنى.

إقرأ أيضاً: ليست ثورة ضدّ الحريري وإنما ضد الجوع والضرائب

بعد كل هذه الانجازات والانتصارات الالهية بعد كل هذا الشرف، والكرامة، والماء، والكلأ، والكهرباء، وهو بعض ما فاض عن حاجة الناس، دفع البعض ممن أٌبتلي بترف الاعتراض ليشذّ في ظل هذا الرخاء نحو ترف الثورة، ربما هذا من تداعيات الملل ومن أعراض تخمة الشرف.

القديسون والأنبياء وأنصاف الآلهة الذين منّ الله علينا بأنّنا نحيا في زمانهم أنّهم من هذه الطينة الإلهية، وهم يعلمون أنّ الشعوب ربما بطراً أو جنوحاً نحو ارتكاب المعاصي تأكل آلهتها ليس بسبب الجوع فقط، بل ربما تفكهاً ورغبة في التخريب الطفولي بحثاً عن مشهد جديد ملّ الناس من مشاهدته ليس أكثر.

السابق
جاد خليفة يتراجع عن موقع و«يتشرف» بكليب «فوّت الغول»!
التالي
الشيعة يخافون الفراغ في الرئاسة الثانية..لماذا؟