أنا وزوجتي والغياب واللغة

يقول رسول الله “كلمة أحبك للزوجة لا تذهب من بالها ابداً”. ويقول أهل السيرة عنه: “كان يقوم بوظيفة أهله، يقطع اللحم معهن، ويقول: خيركم خيركم لأهله وشرّكم شرّكم لأهله”.

اقرأ أيضاً: أنت في إيران كُنْ أنتَ حيث أنت

إذنهي معيار من معايير الخير والشر، وهي أهل بقول مطلق. هنا تلامس اللغة العربية في تنقلها الرشيق بين المعنى الحقيقي والمجازي، بلوغاًإلى قلب المعادلة أو تعديلها، تلامس أسرار التكوين وحركته. ويكشف القرآن بعداً رابعاً في معنى المرأة يقول: {أو من يُنَشَّأُ في الحِلية وهو في الخصام غير مبين} … كأن الحلا والحُلى والحلي والحلاوة، كأن الجمال شرط من شروطها، تتحقق به وفيه ويتحقق بها وفيها، وهي عندما تعيا عن البيان، لعجز في المقدور ونبل في القادر، تعيا في الود وفي الخصام معاً، في الخصام لأنها ليست من شأنها أن تكون جارحة، هي تكمل الكلام بالصمت والعبارة بالعبرة فتكتمل العبرة… وفي الود لأن خفراًأتى من نشأتها جعلها تلمح ولا تفصح فتبلغ، شأن الوردة مع عطرها وشوكها.
ودّعتها بسرعة لأن سفرها لن يطول، وما إن توارت حتى شرعت في انتظارها وتذكرت الشريف الرضي: “تلفتت عيني ومذ خفيت عني الطلول تلفت القلب”.
لم تكن قد وصلت إلى مقصدها في مدينة “العين” من إمارة “أبو ظبي” حتى انبثقت بين عيني والعين عين و”كأن النهار حجر بثقب الحياة.. كأن النهار عربات من الدمع” (أدونيس).

ولكن خمسين ونيفاً من السنين، إلى وجهي (الملح والفلفل لوناه – على قول صلاح عبد الصبور عن أبيه) جعلتني آوي كما آوى الشريف الرضي إلى “أكرومتي وحيائي” وأضيق ذرعاً بالشاهد البلاغي الذي تعلمته قبل المكابدة “سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا وتسكب عيناي الدموع لتجمدا”. ولأول مرة تلتبس علي العين بالعين من دون ذنب اقترفته، واللغة العربية كثيرة الاشتراكات، ومئات المفردات فيها موضوعة ومستعملة، من دون حرج، وأحياناًمن دون قرائن لفظية أو حالية، في معان متعددة ومتمايزة وأحياناًمتضادة، كأن هذه اللغة تتبرع بحل التضاد فتقول الغابر مثلاً للموغل في الماضي والممعن في المستقبل… لعلها تذهب إلى السر التكويني في مجرى الزمان والحياة والوجود فتتسامت في حضرتها الموجودات أياً كانت ماهيتها. قد يعني ذلك صحة ما يذهب إليه بعض أهل العرفان من أن اللغة تدخل في منظومة الأسباب والعلل… هذه اللغة تسبق قواعدها ثم تستوعبها وتتجاوزها، تذهب ألفاظها إلى معانيها على دليل ذاتي فيها، وتأتي المعاني إلىألفاظها على نور يهديها، {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} يكتنف اللفظ معناه ويكتنف المعنى لفظه، يتحد الدال والمدلول، وكأن لا دال ولا مدلول ولا دلالة! وتبدو المغايرة بين اللفظ والمعنى محض اعتبار تقتضيه محدودية الذهن في الإدراك، التي تقترب من العجز عندما يكون المدرَك واحداً ذا مستويات متكثرة… من هنا يصبح السؤال لعباً: أيهما الأول؟ اللفظ أم المعنى؟ الشكل أم المضمون؟ الروح أم الجسد؟ أنا أم هي؟ هل هناك لفظ محض ومعنى محض أو مضمون محض أو شكل محض؟ وفي المأثور «النساء شقائق الرجال» وفي التنزيل {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً} أن المضمون جزء من الشكل، جزؤه الصلب، صلبه، والشكل جزء المضمون، جزؤه الصلب، صلبه، {خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب} … وهناك من يرى أن الواضع الأول، المؤسس في اللغة هو الله الذي {علم آدم الأسماء كلها} وينأى باللغة عن كونها ظاهرة اجتماعية (كالدولة مثلاً) إلى كونها شأناً كونياً، ما يجعل الثنائية الظاهرة بين اللفظ والمعنى راسخة على نصاب الوحدة، في وعي الموحدين خصوصاً، ويمكن الفرار من وحدة الوجود إلى وحدة الموجود تجنباً لتهمة الارتداد، وهكذا تصبح ثنائية المرأة والرجل مدورة، شأنها شأن دوائر الكون والحياة التي تتعدد وتتماس حتى تكاد تلتبس {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل} .
وفي الإنجيل «يصبحان واحداً» إما أن يكون رأسها، أي الرجل رأس المرأة على ما قال بولس في أعمال الرسل، فأمر يصعب علي قوله إلا إذا قرأت القوامة القرآنية على أساس معرفي، وتسعفني الآية بقولها، شرطاً للقوامة، أي الرعاية، {بما فضل بعضهم على بعض} ما يمكن معه وضع المرأة والرجل على حد سواء في شأن القيمومة والقوامة على شرط الأهلية، ما يدخل المسألة في سياق التاريخ والاجتماع ويكشف غناها النظري بالعناصر المتحركة. وهذا ينسجم مع مضمون الحديث النبوي «كلما أرضعت قيل لها غفر لك فاستأنفي عملك»… وقد بلغت من ولايتها على الدنيا أنها تهز السرير باليمين وتهز العالم بالشمال… وجعل الجنة تحت أقدامها، وهي في الأساس، بحسب القرآن واللغة العربية زوج، والزوج زوج أي مثل، أي معادل، أي مساواة، ولا تستدعي المساواة الخلط بين المكونات الخاصة لأن لها دوراً وظيفياً تقوم على تمايزه الحياة في الدنيا والآخرة.
وليست قليلة أبداًقيمة وفاعلية هذا اللبن الرائق الذي يتحلب من كل أسرار البدن والروح وأشواق الخصب والديمومة! من منا اللفظ إذن ومن منا المعنى؟ هي اللفظ والمعنى وأنا اللفظ والمعنى، وقد يعاند اللفظ معناه ويعاند المعنى لفظه على نصاب الوحدة، ومن هنا يأتي العناء وكأنه متمم للمعنى أو كاشف، تأتي إلي فأهرب منها لأبحث عنها، وتهرب مني فأهرب منها إليها فأجدها تبحث عني، تصل مرهقة مشتاقة وتُعرض.
«وقربت ربوة من ربوة سكرانة عن حالها تسأل».

وأنا ميال في قراءة البيت إلى جعل سكرانة وصفاً مرفوعاً ومجروراً في الوقت نفسه، رضي سعيد عقيل أو لم يرض. و«أنا انتظرتك في اكتمال عذابي السري سيدتي.
… أفهمت عذاب النهر اذا اغتربت عنه الشطآن؟» (محمد علي شمس الدين).
أغلق دفتري وكتابي وآوي إلى سريري لعل نوماً عميقاً يعصمني من الشوق، ولا عاصم، وحال بيننا الليل والصحراء فمكثت في الساهرين.
أوافيها موزعاً مكدوداً بين مقتضيات المعرفة ونداءاتها المتكررة، وبين ضرورات العيش وأثمانها الباهظة، تسايرني، تمسح عن وجهي رقاد الهم والتعب، وتستدعي نعاسها، تذهب تترصد متواضعة لعلها تقطع الذاكرة عن كوابيس النهار ولا أنام… تستيقظ أعصابي ومخاوفي وهواجسي الدينية والوطنية والشخصية ولا أنام. «يا إخوتي النوام ما أحلى الكرى وسذاجة الفكر» (عبد الصبور).

اقرأ أيضاً: سياسة محشوة بالمذهبية أو أسباب مذهبية مدهونة بالسياسة.. والله أعلم

في الليلة التالية، أكون قد هدّني السهاد أو الأرق أو القلق، وأحس النوم شأناً طبيعياً وحسب، كالموت الطبيعي، كموت الجسد، فتوقظ مواجعي بمواجعها، يختلط الجسد بالروح ويتبس الحلم بالذاكرة، تستحضره فيحضر ضميري، بشكواها مني ومن الأولاد والإخوة والأهل والحب والزمان والمكان والعرب والمرض والدولة… كأنها أو كأني «حملت هذا العشق وحدي… يا رب» تبكي وتنام ولا أبكي ولا أنام.
أما الليلة فإنها ليلاء.
(من كتاب في وصف الحب الحرب)

السابق
سعد الحريري… كبش محرقة!
التالي
ضاحي خلفان: نصرالله عميل مأجور وزعيم جاهل